مما لا شكّ فيه أنّ الساحة التونسية تشهد تغيّرات كميّة لكن هذه التغيرات تبقي شكلية ومحدودة في غياب التغيرات النوعية. ان التغيرات الكميّة قد تعمل علي إحداث هزّة أرضية تبعث دوائر في الجبل قد يتحرّك منها الجبل، قد يغيّر خارطة أشواكه أو منازل حجارته لكنّّه لا يغيّر بِنْيته القائمةَ بل العكس من ذلك يزداد الجبل قوّة وصلابة وهنا يكون الجبل معادلاً للبُني السائدة والمتخلفة. إنّّه المُعوّق الماثل في تثوير المشهد المسطّح وبالتالي تكون الحاجة إلي حركة أدبية وشعرية (أي حركة نوعيّة) ضرورة ملحّة وأقصد بالحركةِ العلاقةَ المرتبطةَ بالتاريخ تعمل علي تسارعه. وهذه الحركة لا يمكن أن يقودها إلاّ المثقف العضوي. لا أوافقك الرأي في أنّ النخبة التونسية تنادي بثقافة بديلة بما أن الثقافة البديلة ليست مستحضرًا كيميائيًا يُنجز وفق إرادة ما منعزلة عن البُعد التاريخي والاجتماعي وانطلاقا من ذلك فإنّي أعطي لمطالب النخبة التونسية وهذا اذا اتفقنا أنّ هنالك نخبة حجمها الحقيقيّ المقتصر علي فعل تحويل الهامش في الثقافة إلي مركز مما يخوّل لنا الحديث عن مركزيّة الهامش الذي سيعمل بدوره علي اختراع آليات قمع مغايرة وفق هامشيّة الجديد وهذا ما يمكن أن يصبّ في خانة البديل الثقافي لكنني لا أستطيع أن أدرجه ضمن حركة الثقافة البديلة بما أن هذه الاخيرة ثقافة ثورية تقدمية عصيّة علي التأطير والتمدرس وتستوجب بالضرورة وعيا ثوريا يتّسم بطابع الخرق والانتهاك الدائميْن وبالتالي فإن البديل يستوجب مؤسسات حاملة لمشاريع ثورية. لنأخذ مثلاً وزارة الثقافة التي لم تستطع إلي الآن أن تتجاوز مهمتها الادارية والتوفيقية الضيّقة بين الحجّ العكسي في الزمن اي العودة إلي الماضي ومزج ذلك بروح الحاضر المتحفّظ في إطار التفتح الوقور مما يجعلها خالية من أي مشروع حقيقي غير تكريس السائد وتمكينه من رئة ثالثة. وهذا البُعد التوفيقي جعل من المجتمع التونسي لا يملك ثقافة سياسية واضحة لذلك تُصبح الحاجة ملحّة إلي تركيز الأسس وتوسيعها لصالح ثقافة سياسية تكون بمثابة المعين لتنمية متوازية ولا أخفيك سرّا إن قلت لك أبعد من ذلك فأنا مثلاً لم اعد أومن ببديل جذريّ الا بقتل المؤسسة نهائيّا. - قبل كلّ شيء أريد أن أنطلق من فرق بسيط بين الاحزاب السياسية ذات الهيمنة الحزبيّة، والأحزاب السياسة ذات الطابع السياسي المتقدّم علي المنطق الحزبيّ. الأولي يغلب عليها الطابع الحزبيّ بمعني أنّها لا تستطيع التموقع داخل فضاء ما إلاّ من خلال ممارسة عمليّة النفي للاتجاه المغاير وبالتالي يكون وجودها رهين عملية الإقصاء بما أنّها احاديّة الجانب لا تستطيع النظر إلي العالم إلاّ من كوّة واحدة ضيّقة ومنحسرة وهذا ما يفسّر لجوء هذا النوع إلي العنف المادي علي اعتبار أن العمل الآتي يستوجب التحقق المادي لارتباط الحدث بالاشعاع الحزبي إذ يقول أحد كتابنا «ثم إن الإنسان لا يلجأ إلي العنف المادي الوحشي إلاّ حين يشعر انه فرغ من الانسان فيه، أي من الطاقة الخلاّقة التي هي دائمًا طاقة اتجاه الي الآخر، اتجاه تفاعل وحوار وحبّ أي أنها طاقة ديمقراطية». وأعتقد ان في هذا المثال خير دليل علي ضرورة تهميش الثقافي من برامجها لانها لا تري في الثقافي ما يساعد علي خدمة مصالحها الآنية اليوميّة . أما الثانية اي الاحزاب السياسية ذات الطابع السياسي المتقدّم علي الطابع الحزبي فقد استطاعت ان تري في السياسي الرجل الذي يلعب علي وتيرة التاريخ اضافة إلي دوره في سياسة المجتمع من الوجهة الآنيّة الفورية فهي تري أن «العمل السياسي والعمل الثقافي والعمل الشعري اجزاء من كُلٍّ، من العمل الثوري الشامل»، وبالتالي فإنّّها تري في اهمال وتهميش الثقافي تخلّيًا عن المشروع الثوري بأكمله، يومًا ما كتب صحافي يقول : « بعد اجتياح بيروت من قِبَلِ الصهاينة وأمام إفلاس السياسة اليوم لم يبق لنا الا الثقافة » وأعتبر أنّ في قولته هذه صحّةٌ كبيرة فاستقامة الظلّ مرتبطة باستواء العود أو بتغيير الشجرة أي بترك الزعامة السياسية لصالح الزعامة الفكريّة !