1. الهيئة القضائية، هي الهيئة التي يناط بها الفصل في خصومة قائمة، بحكم ملزم واجب الاحترام، من خلال اجراءات منصفة، تتوافر فيها الضمانات اللازمة. ولهذا، فإن تسمية بعض الهيئآت القانونية (بالقضائية) على سبيل المجاز وعلى خلاف الحقيقة لعدم فصل تلك الهيئات (القانونية) في الخصومات بأحكام واجبة النفاذ تتمتع بالحجية، يتعين دوما فهمه في إطار ان ذلك كان بمناسبة تفسير المحكمة الدستورية العليا لمفهوم الاشراف القضائي على الاستحقاقات الانتخابية ليس أكثر. 2. وقد ذكرت المحكمة الدستورية في الدعوى رقم 6 لسنة 26 ق.د (تفسير) عام 2004 تفسير عبارة الهيئات القضائية في مفهوم قانون مباشرة الحقوق السياسية فقالت ما نصه : ((أن مصطلح "الهيئة القضائية" في النظام القانوني المصري إن هو إلا اسم جنس تندرج تحته عدة أنواع، منها جهات تمسك بزمام العدالة وتنفرد على وجه الاستقلال بالفصل في القضايا على أسس موضوعية ووفقا لقواعد إجرائية تكون منصفة في ذاتها، بما يكفل الحماية الكاملة لحقوق من يلوذون بها، وأخصها المحكمة الدستورية العليا، ومحاكم جهتي القضاء العادي والإداري بمختلف درجاتها، ومنها جهات قائمة بذاتها، وهي وإن لم يعهد إليها المشرع باختصاص الفصل في القضايا إلا أنه أسبغ عليها صفة الهيئة القضائية تقديرا منه بأنها هيئات بحكم الاختصاصات المنوطة بها تسهم في سير العدالة، وهي هيئتا قضايا الدولة والنيابة الإدارية.)) ومن المعلوم ان المحامين والخبراء يشاركون ايضا في سير العدالة، ورغم ذلك لم تحظ الفئتان بتقدير مماثل من المشرع. 3. من هنا يمكن فهم قرار الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة الذي نادي باخراج الهيئتين من باب السلطة القضائية، وليس من الدستور كما يزعم البعض، ولهذا القرار سبب قانوني وليس له أسباب شخصية او انفعالية كما يظنون، اذ أن ايراد اي من الهيئة في باب السلطة القضائية، تحت اسم (هيئة قضائية)، مع اعطائها اختصاصا عاما في مسالة ما (توقيع الجزء مثلا)، مع القول في نص الهيئة (ويحدد القانون اختصاصاتها الاخرى)، ومع وجود مشرع متحيز لاي منهما، فيمكن معه ان تتغول اي من الهيئتين على اي اختصاص قضائي لجهة قضائية أخرى، بتغطية دستورية نرى انها لا تخلو من سوء نية. وهنا يحاول مجلس الدولة ان يقضي على تلك المنطقة الرمادية التي تؤدي الى فتح باب التفسير، ووالتي يغلب ان يتحكم فيها الميل الشخصى والهوى السياسي للبرلمان الذي يقر التشريعات ، الذي عادة وفق تجارب التاريخ لا يوافق هوى مجلس الدولة، وهذا قدر المجلس على مر العصور ورجاله يعلمون ذلك، ويحفظونه عن ظهر قلب. 4. ما نقول به ليس رجما بالغيب، او بحثا في النوايا وسرائر النفوس، بل ان هذه النوايا ثابتة وتمت ترجمتها بالفعل الى نصوص، ودليلنا على كل ما تقدم ما تضمنه مشروع القانون المعد من هيئة قضايا الدولة تطبيقا لنصها في دستور 2012 المعطل ، اذ يتمضن المشروع (وفقا لتصورات الهيئة) كوارث قانونية بمعنى الكلمة، سيدهش منها ويتعجب اي ملم بعلم القانون من الجرأة التي وضعت بها افكاره التي كانت للاسف تستند الى ظهير دستوري. 5. المنازعات والطعون التأديبية في حقيقتها منازعة بين الموظف العام والدولة، تسري عليها فلسفة المنازعة الادارية، وتطبق فيها قواعد القانون العام في الأدلة والاثبات وتوجيه الخصومة، وهي اختصاص أصيل لمجلس الدولة، لا يقبل المساس به او الانتقاص منه تقتيتاً للقضاء من أجل ترضية لجهة او مجاملة لأحد. 6. ان اختصاص هيئة النيابة الادارية بتوقيع الجزاء (هكذا على نحو مطلق) يخالف ابسط قواعد العدالة بفصل جهة التحقيق عن جهة المحاكمة، ويتضمن اعتداء على اختصاص المحاكم التاديبية التي تختص بتوقيع بعض الجزاءات الجسيمة ، مثل الخفض في الدرجة الوظيفية وعزل وفصل العامل، فضلا عن ان تقرير الاختصاص لمحكمة بتوقيع هذه الجزاءات الجسيمة يعتبر بلا شك ضمانة للعامل. 7. ان تولي هيئة النيابة الادارية توقيع الجزاء، يتضمن انتقاصا غير مبرر من صلاحيات السلطة التنفيذية، ويخالف مبدأ الفصل بين السلطات، وسيضعف الجهاز الاداري للدولة على ضعفه الملحوظ، فبمجرد ان يعي العامل ان مديره او رئيسه المباشر او الاعلى لا يستطيع توقيع جزاء عليه ، سيعمد العامل الى مخالفة الاوامر وعصيانها، فيضطرب العمل وتتعطل وتيرته. 8. بطئ التقاضي المزعوم سيتبين بالبحث، ان له اسباباً منها ما يتعلق عمل الجهات التي تتدعي وتنادي بعدالة ناجزة او تلك التي تبحث لها عن دور أكبر في المجتمع، من خلال دغدغة لمشاعر المواطنين وغير المتخصصين، ولا يكون علاجه بتفتيت القضاء والانتقاص من دور مجلس الدولة بجميع اقسامه، إنما يكون بتضافر الجهود التشريعية والتنفيذية لوضع أفضل المعالجات المناسبة، ولا مكان لذلك كله في الدستور بفرض أوضاع مشوهة لا يمكن تعديلها الا بتعديل الدستور. 9. قول بعض الاصوات الهزيلة الخافتة: ان كثرة براءاتهم (يقصد اعضاء مجلس الدولة) في مجال التأديب، تعكس عدم إلمامهم بالطبيعة العقابية للدعوى التاديبية ، وانهم يحكمون عليها بمنطق المشروعية !!!! ونسي هؤلاء: ان من اسباب البراءة، عدم ثبوت ادلة الاتهام ، أو القصور في التحقيقات، او اهدار الضمانات المقررة للعامل. وان اخفاق جهة الادعاء وفشلها في بلوغ طلباتها لا يعيب المحكمة، بل يعيب الجهة المدعية، فلاريب ان العدالة لا تتاذى من تبرئة مذنب بقدر ما تتأذى من ادانة برئ. وهذا من بديهيات العدالة والقضاء التي يبدو انها تغيب احيانا عن بعض الجهات التي تزعم لنفسها خبرة لا تبارى في مجال التحقيقات. 10. العقد الاداري وعقود الدولة جزء من قضاء وافتاء مجلس الدولة، وحضور عضو مجلس الدولة في اعمال قانون تنظيم المناقصات والمزايدات وفي مراحل اعداد العقد فرع من ذلك الافتاء ويحمي المصلحة العامة والمال العام، وليس لاحد الادعاء بانه صاحب خبرة في ذلك اكثر من مجلس الدولة. 11. من المعلوم في القانون بالضرورة أن التسوية لا تكون الا رضائية، وبعد إقامة المنازعة قضائيا، ولا تكون إلا بين طرفي الخصومة الحقيقين، وإرادة النائب لا تعلو على ارادة الاصيل إلا لوجود عيب في إرادة الاصيل وهو ما لا يتوافر في العلاقة بين الدولة ونائبها في المنازعات، ولا يجوز اتخاذ التسوية ستارا لالزام الدولة بارادة نائبها من أجل الهيمنة وبسط السيطرة والنفوذ او لعرقلة اجراءات التقاضي لتحقيق مكاسب فئوية. 12. ان هيئة قضايا الدولة اذ تنادي باختصاصها بالتسوية في المنازعات فانها تستند الى عدم تفعيل مجلس الدولة لدور مفوض الدولة في انهاء النزاع امامه وفق المستقر عليه في قضاء المحكمة الادارية العليا، مع العلم ان قانون الهيئة يتضمن منذ عام 1963 النص على ان لها انه "لا يجوز إجراء صلح فى دعوى تباشرها هيئة قضايا الدولة إلا بعد أخذ رأيها فى إجراء الصلح، كما يجوز لهذه الهيئة أن تقترح على الجهة المختصة الصلح فى دعوى تباشرها .و ذلك مع عدم الاخلال بأحكام قانون مجلس الدولة." فاين ممارسة الهيئة لهذا الدور منذ عام 1963؟؟ 13. ان محاولة إرضاء الجميع على غير أسس منطقية أو علمية سليمة تنتج دستورا مشوها، لا يعبر عن التوافق المجتمعي، وليس هكذا توضع الدساتير ان اراد المجتمع استقرارا حقيقيا.