«الهجاء» أحد أبرز جرائم اللسان، وللأسف الشديد قد احترفه بعض الشعراء واعتبروه فنا ولونا وبابا من أبواب الشعر. بل إن سوق الهجاء قد راجت فوجدت نقادا يستحسنون الهجاء. فقد رأينا فى تراثنا الشعرى من الهجاء ما يتجاوز اللياقة وحدود الأدب فضلا عما يجب أن يتحلى به المثقف والشاعر من أخلاق رفيعة. فالشاعر فى حقيقته أديب ذو حس رفيع يتطوع لينشر الفضيلة والحكمة بين الناس. وإذا ذكر الهجاء ذكرنا من الشعراء الأخطل وجرير والفرزدق أصحاب «النقائض» المشهورة حيث دارت بينهم معارك لسانية بلغ الهجاء فيها مبلغا فأنشأ كل منهم قصائد كثيرة استهلك بها أعراض الآخرين سبا وشتما وغمزا ولمزا دون حدود. وفى الهجاء يفتخر المتكلم بنفسه كذبا، ويحقر الآخر كذبا، فالهجاء سوق رائجة للكذب والفحشاء، وتجاوز الحرمات. ولا نستطيع أن ننسى أن أميرا عربيا هو «الزبرقان بن بدر» قد تعرض لهجاء قاس من «الحطيئة» الشاعر الهجاء المشهور، إذ هجاه الحطيئة قائلا: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فحسبك أنت الطاعم الكاسى ومعنى هذا الهجاء أن الرجل لا كرامة له ولا شرف، فلا يصلح لزعامة ولا لرياسة إذ منتهى ما يفلح فيه أن يطعم نفسه ويكسوها، وهذا هجاء لاذع. فاشتكى الأمير إلى عمر بن الخطاب، فلما ثبت فحش الهجاء فقرر عمر أن يحبس الحطيئة تأديبا له، وكان فى المدينة «جب» (بئر جف ماؤه) فجعله عمر سجنا انفراديا للعقاب. ومر عمر بجوار الجب فسمع الحطيئة يقول: ماذا أقول لأفراخ بذى مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم فى قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر فراجع عمر نفسه فى مدى مشروعية عقوبة السجن، فالجانى يستحق العقاب ولكن ما ذنب من يتولى الجانى أمرهم، وقرر عمر إلغاء حكم الحبس وهدد الحطيئة بقطع لسانه، فكانت المفاجأة أن خشع الحطيئة باكيا معللا ما يفعله بأنه عادة سيئة تعودها من الجاهلية، وتكسب بها، واشتهر بذلك، وقد تحولت تلك العادة السيئة عند الحطيئة إلى مرض نفسى خطير، فالرجل غفر الله له قد انصرف الناس عنه لبذاءة لسانه فأقام فى بيته لا يخرج إلى الناس، ومع ذلك مارس عادته السيئة فهجا أباه وأمه وزوجته فتركه جميع الأهل فوجد نفسه وحيدا فهجا نفسه قائلا: أبت شفتى اليوم إلا تكلما بسوء فما أدرى لمن أنا قائله أرى له وجها شوه الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله وإذا كان الشعراء قد جعلوا الهجاء فنا، فإنهم من حيث لم يدروا فتحوا أبوابا واسعة أمام شياطين الإنس ليخوضوا فيمن حولهم شتما وسبا ولعنا. وقد واجه الرسول وباء الشتم والسب مواجهة واضحة فصنع لوحة تعليمية حيث قال: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ»، قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟» قَالَ: «يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ» وكثيرا ما كانت نصائح الرسول أن يشير إلى اللسان قائلا: «أمسك عليك هذا». ومن أطرف النصائح الخاصة بالفم واللسان ما جاءت فى قريحة أحد الحكماء البلغاء إذ قال: «كفّ فكّك، وفكّ كفّك» ومعنى «كفّ» أى امنع فكّك (الفك جزء فى الفم) يقصد امنع لسانك عن الإساءة واللغو. ومعنى «فكّ» أى ابسط كفّك بالعطاء. وقد ختم الرسول موعظته للصحابى معاذ بن جبل بقوله: «أمسك عليك هذا»، مشيرا إلى لسانه، فقال معاذ: «أو مأخوذون نحن بما نتكلم به؟!» فقال: «وهل يكب الناس فى النار على وجوههم إلا حصائد ألنسنتهم؟!».