الُحطيئة شاعر مخضرم، أي أنه عاش الجاهلية ولحق الإسلام، ويشترك في هذه الصفة كثيرون غيره، ولكنه ينفرد عن غيره من شعراء عصره بأنه كان أكثرهم هجاءً للناس.. لم يترك موضوعاً أو شخصاً إلا وهجاه.. لم يفلت من هجائه ومن أشعاره أقرب المقربين إليه حتي زوجته وأولاده .. ولما ضاقت به الدنيا، ولم يجد أحداً أو شيئاً يهجوه هجا نفسه، ونظم قصيدة في هجاء وجهه وملامحه، فقال "أري لي وجهاً قبَّح الله شكله.. فقُبِّح من وجهٍ وقبح حامله!!". وعلي الرغم من إدراكه الإسلام، ودخوله في الإسلام، فإن ذلك لم يردعه ولم يمنعه، فظل يهجو الناس ويهجو نفسه.. لا لطمع في المال، وإنما حباً في الهجاء وميلاً إليه.. وهو ما أغضب منه الفاروق عمر بن الخطاب الذي أمر بعقابه، فما كان من الُحطّيئة إلا أن استعطف عمراً بقصيدة مشهورة يقول فيها" ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ.. زغب الحواصل لا ماء ولا شجر.. ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة.. فاغفر عليك سلام الله يا عمر."، واعتزل الشعر والهجاء حتي مات. ولم يتكرر نموذج الُحطّيئة في أدبنا العربي كثيراً، وقد يكون لتطرف نموذج الُحطّيئة دور في ذلك.. وإن شهدت العقود الأخيرة ظهوراً له في بعض الأحيان.. فشاعر مثل صالح الشرنوبي (1924-1951) الذي قال عنه العقاد "لو عاش صالح لبز شوقياً"، هذا الشاعر تمثل نموذج الحطيئة، وهجا نفسه في قصيدة مشهورة، يقول في مطلعها "لك يا وجهي القبيح هجائي.. في صباحي ومغربي ومسائي".. غير أن ذلك يمثل استثناءً في تاريخ الأدب. وعلي الرغم من اختفاء هذا النموذج في مجال الأدب، فقد انتقل إلي مجال آخر، وإلي فن آخر من فنون هذا الزمان، وهو الصحافة المعارضة، والكتابة المعارضة.. ففي الصحافة المعارضة ميل دائم إلي النقد والهجاء.. ميل إلي رؤية كل ما هو سيئ، وإلي تجاهل كل ما هو إيجابي.. الصحافة المعارضة في مصر ترتدي منظاراً أسود لا يبين لها إلا الظلال القاتمة للأشياء.. هي صحافة تجنح إلي الشك في كل شيء، وإلي الريبة في كل شيء، وإلي الكفر بكل شيء إلا في قدرتها علي ملاحظة كل ما هو سيئ.. الصحافة المعارضة في مصر لا يعجبها العجب ولا حتي الصيام في رجب.. هي صحافة مستغرقة في جلد المصريين حكومة وشعباً دون أن يصل ذلك إلي جلد هذه الصحافة ذاتها.. هي صحافة لا تعمل ولا تترك الآخرين يعملون .. هي صحافة تستحق أن يهدي إليها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كتابه الذي أصدره بقوله "إلي الذين لا يعملون.. ويؤذي نفوسهم أن يعمل الآخرون"!!!