بعدما شبعنا حديثا عن الأمن القومى طوال الأسابيع الأخيرة، ورفعنا الصوت عاليا مهددين ومنذرين كل من تسول له نفسه أن يدوس له على طرف. وبعدما حذرنا من مغبة غضب مصر وتداعيات نفاد صبرها، هل يمكن أن نخفض سقف الانفعال بعض الشىء لنتحدث فى أمر بسيط يتصل بأمن المواطن العادى. صحيح أن التوقيت قد لا يكون مناسبا، وسط الأجواء التى تحاول إقناعنا بأن الوطن أصبح فى خطر سواء بسبب «عفريت» خلية حزب الله وليس بسبب إسرائيل النووية، إلا أننا لا ينبغى أن نتجاهل أن هناك ظروفا طارئة تضطرنا أحيانا إلى الانصراف أثناء أى فاصل بين فقرات الانفعال بالقضايا الكبرى إلى بعض الأمور قليلة الأهمية المتعلقة بالناس العاديين، رأفة بحالهم وترطيبا لجوانحهم. يشجعنا على أن نولى بعض الاهتمام للشأن الذى يخص المواطن العادى، إن الكلام الكبير الذى تناول موضوع الأمن القومى كان فى حده الأقصى أقرب إلى الفرقعة الإعلامية والسياسية التى كان من الصعب على العقلاء بلعها، فى حين أن موضوع المواطن العادى بات حقيقة يلمسها بعض الناس ويتحدث بها أغلبهم إن لم يكن كلهم. الموضوع باختصار ،أن الحوادث المتتالية التى وقعت فى بر مصر خلال السنوات الأخيرة أفقدت المواطن العادى الشعور بالأمان فى المدن بوجه أخص. وهذا الشعور لا يتحقق بتصريحات مسئولى الداخلية المطمئنة ولابتقارير الأمن العام المجاملة. لكنه كأى شعور ينبنى على ما يلمسه الناس على أرض الواقع. وهذا الواقع يحفل بالشواهد التى تدل على زيادة جرائم السرقة والخطف بمختلف أنواعها. وزيادة فى جرأة معتادى الإجرام، التى باتت تدفعهم إلى اقتحام المساكن المأهولة، وقتل من يعترض طريقهم. كما أن هؤلاء أصبحوا يرتكبون جرائمهم فى وضح النهار وفى الشوارع الرئيسية. بسبب ذلك فإن المواطن لم يعد مطمئنا فى بيته، ولا أصبح مطمئنا وهو سائر فى الشارع. وإذا كان يملك سيارة فإنه لم يعد واثقا من أنه سيجدها على باب بيته فى الصباح. وإذا كان للأسرة طفلة أو طفل فقد باتت تخشى أن ترفع أعينها عنه فى أى مكان، بعد الشائعات التى راجت عن عصابات تجارة الأعضاء التى أصبحت تخطف الأطفال. أعرف أناسا أصبحوا يسعون إلى اقتناء الأسلحة وترخيصها للدفاع عن أنفسهم وبيوتهم. وأكثر منهم أضافوا أبوابا حديدية إلى شققهم ذات الأبواب الخشبية، وأمثالهم قاموا بتركيب أجهزة إنذار فى بيوتهم، وأسياخ حديدية لتأمين نوافذها. أما أطقم الحراسات الخاصة التى أصبحت ترابط فى مداخل البنايات فقد انتشرت وتضاعفت أجورها. حتى باتت شركات الحراسات الجديدة بمثابة وزارة داخلية موازية. بشكل عام هناك اقتناع سائد بأن وزارة الداخلية أصبحت متفرغة لحماية النظام، ومن ثم تعين على المجتمع أن يدبر أمر الدفاع عن نفسه. ذلك أن الناس يشاهدون أرتال عربات الأمن المركزى تستنفر لقمع المظاهرات وتفريقها، كما يشاهدون حشود الشرطة تؤمن الأكابر، وتصطف فى المواكب الرسمية، ولكنهم لايكادون يلمسون لها حضورا يذكر فى حياة الناس العادية. إن شئت فقل إن القادرين حاولوا حل المشكلة بإمكاناتهم الذاتية، أما الأغلبية الساحقة فلم يعد لها حارس سوى الله. الظاهرة تحتاج إلى تحرير، فى حجمها ودوافعها. وعلم الحجم عند الله وعند الداخلية، أما الدوافع فهى تتراوح بين تركيز الشرطة على الأمن السياسى، وتراجع قيمة احترام القانون، واتساع الفجوة وعمقها بين الأغنياء والفقراء ، وانتشار المخدرات، وشيوع الإحساس بالغضب والنقمة بسبب الغلاء والفساد والبطالة، خصوصا فى ظل غياب المشاركة المجتمعية واحتكار السلطة الذى أقنع كثيرين بأنها أصبحت مملكة الأثرياء وحدهم، وأن هؤلاء خطفوا البلد ونهبوه. لقد جنحت سفينتنا حين فرغنا الديمقراطية من مضمونها، وحولناها إلى هياكل ومؤسسات منفصلة عن المشاركة والمساءلة وتداول السلطة، ولكننا حين نفصل بين الأمن القومى وبين أمن الناس، فإن السفينة بكل من فيها تصبح مهيأة للغرق.. لذا لزم التنويه.