سعر الذهب عيار 21 الآن في بداية تعاملات اليوم الإثنين 29 أبريل 2024    أسعار الأسماك واللحوم اليوم 29 أبريل    انفجارات في مقاطعة كييف ومدينة سومي في أوكرانيا    مسؤولون إسرائيليون: نعتقد أن الجنائية الدولية تجهز مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وقادة إسرائيل    كاف يحسم منافس الزمالك بنهائي الكونفدرالية بعد انسحاب اتحاد العاصمة    أخبار مصر: حواس يكشف ألاعيب إسرائيل لسرقة تاريخ الحضارة، وفد حماس في القاهرة لحسم الهدنة، حقيقة رفض شيكابالا لعب مباراة دريمز، السديس يطلب وجبة إندومي    صحيفة بريطانية تكشف تطورات جديدة في أزمة محمد صلاح وكلوب    صحة قنا: خروج 9 مصابين بعد تلقيهم العلاج في واقعة تسرب غاز الكلور    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    عم باسم خندقجي يكشف أصعب محطات في حياته: توفي والده دون توديعه (خاص)    عمر عبد الحليم ل«بين السطور»: فيلم «السرب» أثر في وجداني ولن أنساه طيلة حياتي    أدعية للحفظ من الحسد وفك الكرب والهم.. رددها لتحصين نفسك    السعودية تصدر بيانا بشأن حادث مطار الملك خالد الدولي    الأعاصير تتسبب في مقتل أربعة أشخاص بولاية أوكلاهوما الأمريكية    اسقاط 5 طائرات جوية بدون طيار فوق البحر الأحمر    شبانة: الزمالك يحتاج للتتويج ببطولة تشعر لاعبيه بجماهيرية النادي وحجم الانتصارات    المؤتمر الدولي للنشر العربي يناقش تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على البشرية    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 29 إبريل 2024 بالمصانع بعد التحديث الأخير    ما المحظورات التي وضعتها "التعليم" لطلاب الثانوية خلال الامتحانات؟    تكلف 3 ملايين دولار.. تفاصيل حفل زفاف الملياردير الهندي في الأهرامات    أسماء.. الأوقاف تفتتح 19 مسجدًا الجمعة المقبل    صحف السعودية| مطار الملك خالد الدولي يعلن تعطل طائرة وخروجها عن مسارها.. وبن فرحان يترأس اجتماع اللجنة الوزارية العربية بشأن غزة    أمير هشام: تصرف مصطفى شلبي أمام دريمز الغاني ساذج وحركته سيئة    مواعيد مباريات اي سي ميلان المتبقية في الدوري الإيطالي 2023-2024    ميدو: هذا المهاجم أكثر لاعب تعرض للظلم في الزمالك    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    علييف يبلغ بلينكن ببدء عملية ترسيم الحدود بين أذربيجان وأرمينيا    عمره 3 أعوام.. أمن قنا ينجح في تحرير طفل خطفه جاره لطلب فدية    ختام فعاليات مبادرة «دوّي» بكفر الشيخ    سامي مغاوري يكشف سبب استمراره في الفن 50 عامًا    خالد الغندور يوجه انتقادات حادة ل محمد عبد المنعم ومصطفى شلبي (فيديو)    سامي مغاوري عن صلاح السعدني: «فنان موسوعي واستفدت من أفكاره»    شاهد صور زواج مصطفى شعبان وهدى الناظر تثير السوشيال ميديا    تموين الإسكندرية: توريد نحو 5427 طن قمح إلى الصوامع والشون    برلمانية: افتتاح مركز البيانات والحوسبة يؤكد اهتمام الدولة بمواكبة التقدم التكنولوجي    التهديد الإرهابي العالمي 2024.. داعش يتراجع.. واليمين المتطرف يهدد أمريكا وأوروبا    بعد طرح برومو الحلقة القادمة.. صاحبة السعادة تتصدر ترند مواقع التواصل الاجتماعي    بعد عامين من انطلاقه.. برلماني: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    السفيه يواصل الهذيان :بلاش كليات تجارة وآداب وحقوق.. ومغردون : ترهات السيسي كلام مصاطب لا تصدر عن رئيس    إخلاء سبيل سائق سيارة الزفاف المتسبب في مصرع عروسين ومصور ب قنا    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    فراس ياغى: ضغوط تمارس على الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية للوصول لهدنة في غزة    فهم حساسية العين وخطوات الوقاية الفعّالة    العناية بصحة الرموش.. وصفات طبيعية ونصائح فعّالة لتعزيز النمو والحفاظ على جمالها    «حياة كريمة».. جامعة كفر الشيخ تكرم الفريق الطبي المشارك بالقوافل الطبية    مصرع شاب في انقلاب سيارة نقل بالوادي الجديد    ضربة للمحتكرين.. ضبط 135 ألف عبوة سجائر مخبأة لرفع الأسعار    هل يؤثر تراجع الطلب على الأسماك في سعر الدواجن.. مسئول بالاتحاد العام للدواجن يجيب    وزير الاتصالات: 170 خدمة رقمية على بوابة مصر الرقمية    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    دعاء في جوف الليل: اللهم جُد علينا بكرمك وأنعم علينا بغفرانك    3 حالات لا يجوز فيها الإرث شرعًا.. يوضحها أمين الفتوى    البابا ثيودروس الثاني يحتفل بأحد الشعانين في الإسكندرية    الاستعداد للعريس السماوي أبرز احتفالات الرهبان    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    ربان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر يحتفل بعيد الشعانين ورتبة الناهيرة    طريقة تحضير بودينج الشوكولاتة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد حسنين هيكل يكتب فى الذكرى ال40 لوفاة الزعيم: وثيقة براءة السادات من دم عبد الناصر
نشر في اليوم السابع يوم 30 - 09 - 2010

◄◄طلب من السادات أن يخبرنى بخطورة مرضه بعد أن فحصه الأطباء السوفيت فى مستشفى بربيخا
◄◄كان الألم يستحكمه إذا مشى أكثر من عشر دقائق وإذا جلس ثابتاً أكثر من ساعة
◄◄كان يعرف أنه فى سباق مع الموت وقال لى قبل وفاته بأيام: لا تنتظرنى فى الشيخوخة... لأن من يعيش الحياة التى أعيشها لا يطول به العمر
◄◄حينما طلب منه الأطباء الاعتذار عن وداع أمير الكويت قال: لابد أن أقوم بالواجب .. وعلى أى حال فهذا هو الوداع الأخير
لا تأتى ذكرى رحيل الزعيم جمال عبدالناصر كل عام منفردة أبدا ربما لأن قيمة الرجل أكبر من أن تمر ذكراه بالشكل العادى، أو ربما لأن الألغاز التى خلفها وراءه أكثر مما نتوقع وأكثر من أن تكفى 40 عاما لتفسيرها..
ذكرى الزعيم الراحل تأتى كل عام بنكهة مختلفة فهى تأتيك مرة بطعم الحنين للزعيم الكاريزمى، ومرة أخرى بطعم البحث عن الأحلام الكبرى التى كان يصنعها الرجل، ومرة ثالثة بطعم الألغاز التى تبدأ بأسئلة من نوعية: هل كان الرجل بطلا حقا؟ هل كان يعلم بمذابح السجون؟ وماذا تبقى من عصر جمال؟ وهل كانت ثورته ثورة حقيقية أم مجرد انقلاب عسكرى؟ وتنتهى بأسئلة تنتمى لنوع آخر من علامات الاستفهام تقول: هل كانت وفاة عبد الناصر طبيعية؟ وهل مات مسموما؟ وإذا كان قد قتل فمن المسؤول عن قتله؟..
تأتى كل ذكرى سنوية وهى تصطحب سؤالا من هذه الأسئلة مع بعض التعديلات فى الصياغة والاختلاف فى التعبير أو مع بعض الإضافات التى يتم إلقاؤها للجماهير وكأنها ظهرت دون قصد مثلما فعل الأستاذ محمد حسنين هيكل هذا العام وألقى بقنبلة فنجان القهوة المسموم الذى قدمه السادات لعبدالناصر قبل وفاته، الأستاذ هيكل بحرفيته وذكائه المعهود لم يقل الاتهام نصا ولأول مرة قال معلومة دون أن يؤكدها ولأول مرة يستخدم لفظ جائز وممكن ورغم كل ذلك كان واضحا أن الرجل لا يريد لكلماته إلا أن تسير فى هذا الاتجاه.. اتجاه احتمالية مسؤولية السادات عن وفاة الزعيم مسموما.. وهو الأمر الذى أثاره البعض من قبل وكررته ابنة الزعيم الراحل ودخلت بسببه فى مناوشات قضائية مع أبناء الرئيس السادات..
فنجان قهوة الأستاذ هيكل صنع الدوى الذى أراده الرجل وأعاد بؤر الضوء كلها حوله مرة أخرى، ولكن ألم يكن غريبا أن يستغنى الأستاذ لأول مرة عن دقته المعهودة ومفاجآته المصحوبة بالوثائق والملفات أو التصريحات الخاصة من الزعماء؟ أنا لا أملك الإجابة عن هذا السؤال فربما يكون للأستاذ هيكل هدف من هذا الطرح قد يفسره أو يشرحه بعد حين، ولكننى سأعود إلى طريق الأستاذ هيكل وأسلكه، سأعود إلى طريق الوثائق وإعادة قراءة التاريخ والنبش فى أوراق الماضى ذلك الطريق الذى يحبه الأستاذ ويبهرنا به، سأعود إلى ذلك الطريق لأقدم لك عزيزى القارئ نص مقالتين متصلتين كتبهما الأستاذ ونشرا فى جريدة الأهرام فى الأسبوع الأول من شهر أكتوبر 1970 الجزء الأول حمل عنوان «ملحمة الصراع مع الألم» والثانى جاء بعنوان «الأربع والعشرون ساعة الأخيرة» وكما هو واضح من العناوين وتاريخ النشر الذى جاء تاليا لوفاة عبد الناصر بأيام فإن مضمون المقالتين كان خاصا بالحالة المرضية للزعيم وتفاصيلها، وكل ماحدث فى الأربع والعشرين ساعة الأخيرة فى حياة عبد الناصر..
كتب الأستاذ هيكل كعادته موثقا كل كلمة وشارحا بالأزمنة والتقارير الطبية والمشاهدة العينية التفاصيل المرضية للزعيم عبد الناصر ونقل على لسان عبدالناصر نفسه وأطباء تصريحات واضحة وصريحة بأن الزعيم كان يعيش أيامه الأخيرة، وأن أسباب وفاته وموته كانت واضحة طبيا لهيكل وللأطباء وللرئيس جمال عبد الناصر نفسه، لم يأت هيكل على ذكر شكوك حول الوفاة، أو سموم أو مؤامرات، بل كان حكيه فى تلك المقالات حكى شاهد عيان ينفى أى شبهة تآمر أو تخطيط لقتل الزعيم بالسم أو بغيره، وبالطبع لم يذكر هيكل أى كلمة عن فنجان قهوة أو أى فنجان آخر.. هذا هو نص المقالتين ننشرهما فى ذكرى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر ليجيبا بشكل واضح وصريح عن السؤال الذى يطل كل عام برأسه: كيف مات عبدالناصر؟ وماهى طبيعة مرضه؟
ملحمة الصراع مع الألم!
الآن، قد أستطيع أن أمسك مشاعرى لأكتب عنه، فلقد قضيت أياماً بعد الرحيل، لا أستطيع أن أصدق، وأياماً أخرى تلتها، لا أستطيع أن أتصور، حتى استرجعت نفسى من أثر الصدمة, أتذكر ما كنت أقول دائماً، عندما كان بيننا:
- إنه بكل عظمته لم يصنع مصر، ولكن مصر بكل عظمتها هى التى صنعته، ولو ولد فى غير مصر لما ظهر ولو ظهر فى غير مصر لما استطاع..
دوره البطولى كله جزء من قدرها التاريخى.
إن البطل ظاهرة مؤقتة فى التاريخ، ويجب أن يكون كذلك، لأن الأصل والأساس الباقى والخالد، هو الشعب.
وأن يكون دور البطل ظاهرة مؤقتة فى التاريخ، فذلك لا يعنى أنه فلتة أو صدفة، وإنما البطل فى الأمة الحية ظاهرة طبيعية، وإن لم تكن كظواهر الشروق والغروب، تتكرر كل يوم.
ولقد يقال إنه كانت فى دور جمال عبدالناصر بقية.
كنا نتمنى على الله أن يتركه بيننا، حتى يقود زحف التحرير، ويشهد يومه.
كنا نتمنى ذلك لنا وله، على الأقل يرى النتيجة التى عمل من أجلها، حتى آخر خفقة فى القلب، ويعيش الفرحة التى قاسى من أجلها، وعانى، وتعذب.
لكن مشيئة الله فوق كل الأمنيات.
ثم نتذكر أن جمال عبدالناصر أدى، فى الحقيقة، كل دوره أو معظمه.
إن التاريخ فوق مشاعر الأفراد.
وعجزى - بعد الرحيل - عن التصديق، وعن التصور، لم يكن إلا شعور فرد عرفه عن قرب.
ومن هنا أحبه فى عمق.
ولقد كان شعورى غريباً خلال ساعات الرحيل الحزينة.
كيف رحل... ولم أرحل معه؟
هذه هى السفرة الأولى التى يذهب فيها ولا أكون فى رفقته؟
ولم أستطع، لفترة طويلة، أن أعزى نفسى بأن ذلك لم يكن اختياراً أراده هو، وإنما المقادير هى التى فرضته عليه وعلىّ.
وظللت أياماً أقنع قلبى كالأطفال عندما يغيب أحبابهم:
«إنه سافر» - خصوصاً تلك الأيام الثلاثة التى انقضت بين لحظة الرحيل وبين اللحظة التى هجع فيها على مثواه الأخير.. كفن أبيض طاهر فوق فرشة من الرمال فى قبر أقيم على عجل خلف مسجد بناه بنفسه، محبةً فى الله وحباً للمؤمنين.
لماذا أنكرت الحقيقة بالقلب كالأطفال عندما يغيب أحبابهم؟
وكان يجب أن أكون أول مستسلم أمامها، لأنى عشتها من البداية إلى النهاية.
لقد كنت أعرف ما به، وكنت شاهداً على ملحمته الرائعة فى الصراع مع الألم.
وأظن أن صراعه مع الألم سوف يبقى أنبل معاركه، لأنه ذروة المأساة فى قصة البطل.
ولقد كنت قريباً منه أسمع تلميحاته عن النهاية، ولا أعرف كيف ضاع منى الفهم الصحيح لمعانيها؟!
ثم لقد كنت بجوار فراشه لحظة الرحيل، وأحسست بذلك المزيج المخيف من الحزن والهزيمة معاً، الحزن لرحيله وحده، والهزيمة لأن الموت انتصر علينا جميعاً، بينما بعضنا يحاول بالعلم، وبعضنا يحاول بالصلاة، وبعضنا يحاول بالدموع.
إحساس لم أجربه من قبل، إحساس لم أجربه، من قبل إلا خلال تلك الأيام السوداء من يونيو 1967، ويومها كنا معاً فى ذلك الإحساس، لكنه هذه المرة لم يكن معنا بقدرته الخارقة على التشجيع والإلهام..
إن مرحلة صراعه مع الموت بدأت سنة 1958 بعد حرب السويس وبعد المؤامرة على سوريا، وبعد الوحدة، وبعد ثورة العراق، وسقوط حلف بغداد، اكتشف الأطباء أن لديه مرض السكر.
وكتب الأطباء له تقريراً عن حالته، يقولون:
إن المرض يمكن السيطرة عليه، ولابد من السيطرة عليه، وذلك يقتضى ضبط ثلاثة عناصر رئيسية فى طريقة حياته:
ضبط الطعام.
وضبط المجهود.
وضبط الانفعالات.
وقرأ التقرير، ووضع علامة الموافقة على البند الأول، مما يطلبون ضبطه، وهو الطعام، وترك البندين الباقيين بدون إشارة إلى رأيه فيهما.
وطلب أطباؤه موعداً معه لمناقشته، وجلس معهم كأنه يبحث أى مشكلة مما يواجهه كل يوم، يقرر فيها الممكن والمستحيل، ويحاول بإرادته التوفيق بينهما.
وقال للأطباء، وهو يمسك بالتقرير، يناقشهم فيما يطلبون:
- «بالنسبة لضبط الطعام ممكن، بشرط واحد، هو ألا يمتد المنع إلى الجبن الأبيض!».
وكان الجبن الأبيض أكلته المفضلة، ولم يخرج من مصر إلى رحلة إلا وكانت فى الطائرة صفيحة من الجبن الأبيض.
ورضى حين قال له الأطباء إن الجبن الأبيض لن يكون ضمن المحظورات تحت بند ضبط الطعام.
وانتقلت المناقشة إلى البندين الآخرين فى التقرير: ضبط المجهود، وضبط الانفعالات، وقال لهم ببساطة:
كيف لى أن أسيطر على المجهود والانفعالات.. هذه حياتى كلها!
ثم وعدهم فى النهاية أن يحاول، لكنهم كانوا يرون بعيونهم كل يوم أنه لا يحاول!
وجاءت انتكاسة الثورة فى العراق..
ثم مشكلات الوحدة..
ثم ضربة الانفصال..
ثم حرب اليمن.. ثم خطط التنمية المتلاحقة ومنجزاتها ومشاكلها..
ثم هموم الانحرافات، وقد بدأت تضايقه بشدة سنة 1965 و1966..
ثم جاءت مؤامرة العداون سنة 1967..
ثم الهزيمة فى معارك الأيام الستة..
خلال ذلك كله، كانت مضاعفات السكر - بغير محاولة لضبط المجهود أو ضبط الانفعالات - تزداد، وحين أُجرى عليه كشف عام، يوم 13 يوليو سنة 1967، فإن الأطباء - وأولهم طبيبه الخاص الصاوى حبيب - أحسوا بالخطر.
كانت مضاعفات السكر قد أحدثت تأثيراً فى شريان القدم اليمنى وكانت هناك فى أعضاء الساقين مسببات لآلام شديدة.
ولكنه لم يكن مستعداً أن يسمع من أحد.
فقد كان جهده كله فى عملية إعادة بناء القوات المسلحة.. وفى عملية ترتيب الجبهة الداخلية والجبهة العربية.
كان يمشى فى طريقه، وكان يدوس على كل الآلام.
وفى يوليو سنة 1968، كان على موعد لسفر إلى موسكو، واقترح عليه الأطباء أن تكون تلك فرصة، يدرس معهم أطباء السوفيت حالته.
وفوجئت بحدة آلامه وأنا جالس أمامه فى الطائرة المسافرة إلى موسكو.. كانت تطورات الحوادث فى مصر فى بداية سنة 1968.. قد شغلتنا جميعاً عن حالته الصحية، لكننى روّعت حين وجدته فى الطائرة لا يستطيع الجلوس فى مقعده من شدة الألم وفرش له الأطباء سريراً فى الجزء المخصص له من مقدمة الطائرة.
وكنت أحاول أن أخفى الانزعاج ولكنه لمح آثاره، فقال برقة لم يستطعها غيره:
«سوف أنام بعض الوقت وحين أستيقظ سوف يكون الألم أخف».
وجلسنا بجواره: أنور السادات وأنا، على كرسيين متواجهين فى الطائرة، وكنا ساكتين، لنعطيه فرصة للنوم، لكن نظرات عيوننا لم تكن ساكتة.
وشهدته فى مراسم الاستقبال الرسمى فى مطار فينوكوفو وأنا أعلم كم يكلفه الوقوف والمشى.
وذهب إلى مستشفى بربيخا وأجرى له كشف كامل، وعاد من المستشفى ومعه أنور السادات الذى بادرنى قائلاً:
«المسألة بسيطة...»
وقاطعه هو قائلاً:
« أنور... سوف نقول له الحقيقة... يجب أن يعرف هو الآخر».
ثم مضى يقول:
- « لقد وجدوا أن هناك تصلباً فى شرايين الساق، من أثر مضاعفات السكر».
ثم استطرد ضاحكاً يقول:
- ليس هذا أسوأ شىء... أسوأ شىء أنهم طلبوا منى الامتناع عن التدخين إلى الأبد.
لقد أطفأت آخر سيجارة أمام الطبيب، ووعدت ألا أشعل غيرها بعد ذلك».
واستطرد يقول باسماً:
- كأننى عندما أطفأت آخر سيجارة.. ودعت عزيزاً علىّ.. كانت السجائر هى الترف الوحيد الذى أستمتع به، والآن منعت هى الأخرى.
وسألته عن العلاج فقال:
- طلبوا منى أن أعود فى ظرف أسبوعين لعلاج بالمياه الطبيعية فى بلد اسمه «تسخالطوبو» فى جورجيا...
ثم أدوية جديدة...
وأخيراً النصائح التقليدية عن ساعات العمل المحدودة والإجازات المتكررة.
وعاد إلى القاهرة، فحضر المؤتمر القومى الاشتراكى ورتبت نتائج محادثاته فى موسكو ثم ذهب إلى تسخالطوبو لثلاثة أسابيع من العلاج الطبيعى..
ثم عاد إلى القاهرة لأسبوعين من النقاهة، قضاهما فى الإسكندرية.
ولم تكن الآلام قد زالت، بل إن بعضها قد اشتد، وكان ذلك ما توقعه الأطباء السوفيت، كرد فعل للعلاج بالمياه الطبيعية المشعة، وكمقدمة لابد أن يجىء بعدها التحسن التدريجى.
فى بداية سنة 1969، كانت الآلام قد خفت كثيراً عن ذى قبل كما كان يتوقع الأطباء.
وكان الرأى السائد بينهم، هو أن هذه الآلام سوف تختفى تماماً إذا عاد مرة ثانية فى صيف سنة 1969، وكان هو مقتنعاً تماماً بالذهاب فى الموعد المحدد: أغسطس سنة 1969.
وفى ربيع وصيف سنة 1969 كانت معارك المدفعية قد بدأت.. وبدأت عمليات العبور الجسورة، وكان يتابعها ليلة بليلة، ويعرف اسم كل قائد يدخل بمجموعته، ويسأل قبل أن ينام عن عودتهم، وعن الخسائر فيهم.
ثم أعلن بدء حرب الاستنزاف فى يوليو سنة 1969، واشتدت المعارك على الجبهة المصرية.
ثم تأثر، بطريقة لا يمكن أن يتصورها أحد، لحريق المسجد الأقصى.
وحين طرح أمامه فى تلك الظروف، موعد زيارته الثانية إلى تسخالطوبو لكى تنتهى كل الآلام، أشار بتأجيل الموعد إلى شهر سبتمبر حتى تكون الظروف قد تكشفت.
ومع أن الآلام بدأت تعود إليه حادةً مرة أخرى، بعد سنة من أثر العلاج الطبيعى، فإنه لم يتعجل الذهاب للمرة الثانية، لأنه قال - كما يقول للدكتور منصور فايز وللدكتور الصاوى حبيب - لا أستطيع أن أترك أولادنا هنا يموتون، وأذهب لعلاج فى تسخالطوبو.
وكانت آلامه فى بعض الأيام لا تحتمل.
كان الألم يستحكم إذا مشى أكثر من عشر دقائق وإذا جلس ثابتاً فى مكانه أكثر من ساعة.
وكان يمشى بدون حساب للدقائق وكان يجلس ثابتاً فى مكانه بدون حساب للساعات.
وجاء يوم 11 سبتمبر سنة 1969.
كان قد حدد موعداً لسفره إلى تسخالطوبو بعد أيام.
وكان مقرراً أن يجرى الدكتور الصاوى عليه كشفاً عاماً ليعد تقريراً كاملاً قبل السفر.
وصباح ذلك اليوم، كان يشعر بإرهاق شديد، مصحوباً بنوع من الدوار، ولذلك فإنه دعا الدكتور الصاوى ليكشف عليه قبل الموعد الذى كان محدداً للفحص الشامل بعدة ساعات.
كان يقول للدكتور الصاوى دائماً:
«إنك لا تستطيع التحكم فى ملامحك يا دكتور... وأنا أرى نتيجة الكشف عليها قبل أن تخبرنى بها!».
ولأول مرة، فى ذلك اليوم، فإن الدكتور الصاوى لم يرد، لأن المفاجأة كانت كبيرة بالنسبة له.
لقد اكتشف فجأة، والسماعة موجودة على صدر عبدالناصر أنه يسمع ما يسمونه فى طب القلب «الصوت الثالث»...
هناك إذن طارئ جديد ألمّ بالقلب.
وتمالك الدكتور الصاوى نفسه وقال:
«سيادة الرئيس أرى أن تقوم بعمل رسم للقلب، يكون معنا ونحن فى موسكو».
وأجرى رسم القلب، وخرج الدكتور الصاوى بالجهاز يقرأ نتيجة الرسم، خارج غرفة النوم.. وذهل لما رأى!
لم يصدق عينيه، لكن الدليل كان مرسوماً أمامه.
هناك صورة جلطة.. انسداد فى فرع من الشريان الأمامى للقلب.
وحاول الدكتور الصاوى أن يخفى الحقيقة مؤقتاً وأن يتعلل بحاجته إلى استشارة مجموعة من الأطباء، لأنه يجد أمامه حالة أنفلونزا صامتة وحادة، تقتضى بقاء الرئيس فى فراشه.
وجاء عدد من الأطباء: الدكتور محمود صلاح الدين، والدكتور منصور فايز، والدكتور على المفتى، ومعهم الدكتور الصاوى حبيب.
وأعيد رسم القلب فى المساء، وكان الدكتور الصاوى مازال يتظاهر بأن المسألة مسألة أنفلونزا وأن إعادة رسم القلب سببها أن بطارية جهازه قد نفدت عندما كان يقوم بالرسم فى الصباح، فلم تكتمل الصورة.
وجاء الرسم الثانى للقلب تأكيداً للرسم الأول.
وكان رأى الدكتور صلاح الدين أنه من الضرورى أن يعرف الرئيس الحقيقة، لأن تعاونه الكامل وبدقة، مطلوب مع جهد الأطباء.
وبدأ يقول له الحقيقة تدريجياً.
ثم يطلب منه فى النهاية أن يبقى فى الفراش بغير حركة لمدة ثلاثة أسابيع، وبعدها يعاد البحث على ضوء التطورات الصحية.
وذهبت ليلتها أجلس مع الأطباء فى غرفة الصالون فى الدور الأول من بيته، أسأل بالضبط عن تفاصيل الحالة، وعرف هو أننى موجود فى البيت فدعانى لأصعد إلى غرفته.
وعندما دخلت، كان جالساً على مقعد، على وشك أن يبدأ عشاءه:
قطعة من الخبز الجاف وكوب من اللبن الزبادى.
وسألنى بسرعة لكى لا يترك لى وقتاً للتفكير:
- كنت معهم؟
قلت:
نعم!
قال:
هل صحيح ما يقولونه، أم هى محاولة لتخويفى، وحتى يفرضوا علىّ إجازة إجبارية؟
قلت:
إن الأمر يجب أن يؤخذ جداً.
وقال بهدوء:
ليكن... ولكن المهم ألا يعرف أحد، حتى لا تقلق «البلد«.
ثم سألنى:
كيف يمكن أن نغطى غيابى ثلاثة أسابيع؟
قلت:
«قد نقول إنها أنفلونزا... لا يهم ما نقوله، ولكن المهم أن نستريح».
وجلسنا بعد ذلك مجموعة من أصدقائه ومعاونيه نتحدث، واتفق رأينا أن نستعين بخبرة عالمية، وكان تساؤلنا:
- لماذا لا نجىء بأكبر أطباء القلب السوفيت؟
وطارت رسالة سرية عاجلة إلى موسكو، وجاء الدكتور شازوف وزير الصحة فى الاتحاد السوفيتى - وهو نفسه من أكبر خبراء القلب - ومعه مجموعة من صفوة الأطباء وأجرى الكشف، وكانت النتيجة نفس النتيجة، والعلاج نفس العلاج الذى اقترحه وطبقه الأطباء المصريون.
وقبل أن يعود شازوف إلى موسكو ذهب لزيارة عبدالناصر، وكل ما يطلبه منه هو الراحة.
وقال الرئيس لشازوف:
- «كان مقرراً أن أجىء إلى تسخالطوبو لأستكمل العلاج لآلام التهاب الشرايين».
وقال شازوف:
- سيدى... لم تعد تستطيع أن تجىء إلى تسخالطوبو لأن القلب لا يحتمل العلاج بالماء الطبيعى، إلا بعد مرور خمس سنوات على الأقل.
وسكت عبدالناصر لحظة.
عرف وقتها أن عليه أن يتحمل القلب.. وأن يتحمل آلام التهاب الشرايين فى نفس الوقت.
وبدأ التحسن يظهر فى رسوم القلب، لكن الدكتور صلاح الدين كان يشعر أن التحسن لا يسير بالسرعة الواجبة.
ولم يكن معقولاً أن يتحسن شىء بالسرعة الواجبة.
كان هناك عمل كثير لتدعيم موقف دول خط المواجهة.
وكان هناك عمل كثير لتعزيز موقف الثورة الجديدة فى ليبيا.
وكانت هناك دورة مجلس الأمة، يتعين افتتاحها، ولا يمكن تأجيلها بعد الموعد الدستورى المقرر لها.
ثم تلاحقت الحوادث، وهو وسطها يقودها وتقوده.
مؤتمر القمة فى الرباط، وكل ما جرى فيه، وزيارته الأولى لليبيا ثم زيارته للسودان.
وعاد إلى مصر بأنفلونزا حادة، وكان قد اقتنع بضرورة أن يستريح بعض الوقت.
لكن التطورات لم تتركه يستريح، فقد بدأت غارات العمق، ولا يمكن لأحد يصف شعوره عندما كانت تصله خسائر بين المدنيين، خصوصاً بين الأطفال الذين كانوا أحب شىء فى الوجود إلى قلبه.
وقرر أن يسافر إلى موسكو.
وحينما عرف الدكتور الصاوى قرار السفر، دخل عليه والجد كله على وجهه، يقول له:
- سيادة الرئيس، هل صحيح خبر السفر إلى موسكو؟
وقال هو:
- نعم!
وقال الدكتور الصاوى:
- إن هذا مستحيل لأن الأنفلونزا لم تتحسن، ودرجة الحرارة فى موسكو كما عرفت ست وثلاثون تحت الصفر.
وقال الرئيس وهو يضحك:
- نحن لسنا ذاهبين للتزحلق على الثلج، ولكن لعمل، وقاعات الاجتماعات مدفأة.
وقال الدكتور الصاوى:
- «إننى أرى أن الإجازة الآن ضرورية قبل أى شىء».
وسكت عبدالناصر فترة، والدكتور الصاوى واقف أمامه صامتاً ينتظر الرد.
وجاءه الرد من عبدالناصر بسؤال مفاجئ:
- يا دكتور... من الذى يعطينى هذه الإجازة؟
واحتار الدكتور الصاوى ثم وجد نفسه ينطلق ليقول:
«الطب يا سيادة الرئيس» وهز الرئيس رأسه وقال:
«الطب لا يستطيع أمام الموت... هناك ناس يموتون كل يوم وبينهم أطفال، ليس هناك طب يستطيع أن يعطينى إجازة فى مثل هذه الظروف».
واستعان الدكتور الصاوى فى اليوم التالى بالدكتور منصور فايز يحاول إقناع الرئيس، وقام الدكتور منصور فايز بشرح كامل للموقف.
واستمع الرئيس فى أناة ثم قال فى النهاية:
«إن معنى ما تقول لى الآن هو أنه يجب أن أترك هذه المسؤولية وأمشى، وأنا لا أستطيع أن أفعل ذلك الآن».
وحزم الدكتور منصور فايز حقائبه. ووضع نفسه على طائرة الرئيس إلى موسكو، ومن الغريب أنه أحس بتعب هناك وسمع عبدالناصر، فذهب إليه فى غرفته بالدور الثانى من قصر الضيافة.. صاعداً على السلم.. وكان صعود السلالم من الممنوعات القطعية بالنسبة له.
وسافر إلى موسكو بعد ذلك لزيارة رسمية، وجاءه الدكتور شازوف يرجوه فور الانتهاء من محادثاته أن يذهب إلى مصحة بربيخا لكشف طبى شامل جديد عليه.. قال له شازوف:
إننى أفزع عندما أتابع برنامج عملك وزياراتك.
وتم الكشف الشامل عليه فى «بربيخا» وجاءنى شازوف ومعه الدكتور فلاديمير فى بهو مستشفى بربيخا يقولان لى:
- من الضرورى أن يبقى الرئيس هنا شهراً.
ثم ذهب شازوف إلى بريجنيف يرجوه الإلحاح على الرئيس بالبقاء.
واقتنع عبدالناصر، بعد أن رأى تقارير الفحص، أن يبقى أسبوعين، وقال لشازوف:
إننى مضطر للعودة من أجل المؤتمر القومى، لابد أن أكون فى مصر قبل يوم 20 يوليو.
وعاد إلى مصر، لمعركة من أعنف المعارك.
وقف أمام المؤتمر القومى يتكلم، ويقبل مشروع روجرز، لأسباب قدرها، وحسب حساباتها. ومضت الحوادث وجهده لا يتوقف، وانفعالاته تلاحق جهده، فقد كان يعمل بكل مشاعره. وبدأ يحس بالإرهاق يضغط عليه، وبآلام تشتد، وقرر أن يذهب إلى مرسى مطروح، فى إجازة لأسبوع كامل. واتفقنا ألا يتصل به أحد مهما كانت الظروف. لكن الأزمة فى الأردن انفجرت.
وبقى الكل متردداً فى الاتصال به هناك، أول أيام الأزمة، لكنه عند المساء كان قد سمع من الإذاعات بما يجرى، واتصل هو يطلب موافاته أولاً بأول بالتفاصيل.
وعاد إلى القاهرة، وكان المؤتمر الكبير الذى أقيم فيها لبحث أزمة الأردن على وشك أن ينعقد.
ومن سيارته، على الطريق الزراعى بين الإسكندرية والقاهرة كان التليفون فى يده وكان يرتب للاجتماع الكبير.
وكان أطباؤه جميعاً فى حالة ثورة كاملة. وكانت كلمتهم له بالإجماع تقريباً:
«إن الأمور لا يمكن أن تسير على هذا النحو».
وحين نقل إليه الدكتور الصاوى رأيهم، وأنا واقف معه فى غرفته بفندق هيلتون - الذى كان مقراً للاجتماع الكبير - كان رده بغضب:
«ماذا تقولون..!
فى كل دقيقة يمكن أن يقتل عشرات الرجال والنساء والأطفال فى عمان..؟
ألا ترون أننا فى سباق مع الموت!»
................
................
رباه، كأنه كان يعرف!
كنا بالفعل فى سباق مع الموت!
..................
..................
لماذا عجزت عن «التصديق» «والتصور» إذن أياماً بعد الرحيل؟
كيف لم أستسلم وقد كنت بين شهود ملحمته الرائعة فى الصراع مع الألم؟
وكيف وقد كنت مع تلميحاته عن النهاية؟
وكيف وقد كنت سامعا تلميحاته عن النهاية؟
وكيف وقد كنت واحداً من الذين وقفوا بجوار فراشه لحظة الرحيل..؟!
لا أعرف!
................
................
الأربع والعشرون ساعة الأخيرة...
كان البحر الأبيض - قلب الدنيا وبؤرة التاريخ - كان يستعد يومها لحدثٍ كبير.
كأن مأساة عنيفة - مما روى تاريخ الإغريق - كانت تحوم حول آفاقه، وتوشك أن تنزل على شواطئه كالزلزال.. ترجه رجاً من الأعماق السحيقة، إلى قمم الموج العالية:
- فى شرق البحر الأبيض، فى عمان، كان القتال مازال محتدماً بشدة وقسوة، وكانت دبابات الجيش الأردنى، من طراز باتون، تركز هجماتها على منطقة الأشرفية تريد أن تخلع منها بقايا جيوب المقاومة الفلسطينية فى عمان، وكان مستشفى الأشرفية - بالذات - هدف تركيز شديد، فقد كان معروفاً أن قيادة المقاومة اتخذت منه - فى وقت من أوقات الصراع - مقراً لها، توجه منه عملياتها.
- وفى شمال البحر الأبيض، كان الرئيس ريتشارد نيكسون قد وصل بنفسه إلى نابولى، وكانت أقوى قطع الأسطول السادس الأمريكى أمامه تحيط بجزيرة كابرى.
- وفى جنوب البحر الأبيض، فى القاهرة، كان جمال عبدالناصر فى لحظة من أروع لحظات حياته ونضاله، يحاول ولا يكل، من أجل السلام العربى، ومن أجل السلامة العربية، لكى تظل أمته فى وضع القدرة على مواجهة التحدى المستمر، ولكى يتوقف نزيف الدم المتدفق من قلبها.
كان جهده مركزاً أشد ما يكون التركيز.
وأهم من هذا كله.. أن ذلك الإنسان العظيم - وسط ما كان من حوله ودوره هو فيه - كان يعرف حقيقة ما به، وكان يدرك مخاطر ما يقوم به من عمل وما يعانيه من انفعالات، على صحته المثقلة بالألم، وعلى قلبه الجريح من جلطة جاءته تحذيراً فى سبتمبر سنة 1969.
وأقول لنفسى الآن، ولم تعد هناك جدوى من أى قول:
«كأنه كان يعرف».
وتجيش فى أعماقى الآن مشاعر متناقضة ملتاعة، وأنا أتذكر بعض ما سمعت من إشاراته، وأنظر إليها على خلفية ما أعطى من جهد وأعصاب فى أيام الأزمة فى الأردن:
قوله مرة، وكنت أحدثه عن عمله، الذى يفوق طاقة احتمال صحته... بل طاقة أى بشر، حتى إن كان فى تمام صحته، وكان قوله:
«فى مثل ظروفى، لا أستطيع أن أتصرف إلا كما أتصرف الآن.. وعلىّ أن أتحمل النتائج كيفما تكون!».
وقوله مرة أخرى، وكنا نتحدث فيما بعد الحرب، وعن اعتزال السياسة عندما يتحقق النصر، وكيف يجب أن نجلس معاً ونحن شيوخ لكى نكتب مذكراتنا عن قصة جيلنا، وحتى تبقى للأجيال، وكان قوله:
«لا تعتمد علىّ فى ذلك.. لا تنتظرنى فى الشيخوخة.. إن من يعيش الحياة التى أعيشها لا يطول به العمر».
ثم قوله فى اليوم الأخير... يوم الرحيل. وكان قد اتصل بى تليفونياً فى الساعة الواحدة ظهراً. وأحسست أنه منهك مجهد، وسألته عما إذا كان من الضرورى أن يذهب إلى المطار لوداع أمير الكويت، وكان آخر المسافرين من القاهرة بعد إنهاء اجتماعها الكبير، وكان قوله:
«لابد أن أقوم بالواجب إلى النهاية.. وعلى أى حال فهذا هو الوداع الأخير..».
وأترك هذه الإشارات وأعود إلى ما كنا فيه.
كنا عندما يجرى على شواطئ البحر الأبيض، شمالاً وشرقاً.
وكان هو فى القاهرة، جنوب البحر الأبيض، يرقب كل الآفاق القريبة والبعيدة، ويفكر ويحسب، ويتحرك ويحرك، أياماً بعد أيام.
وكان ذلك الإنسان العظيم وسط ما كان من حوله، ودوره هو فيه يعرف - كما قلت - حقيقة ما به، وكان يدرك مخاطر ما يقوم به من عمل، وما يعانيه من انفعالات على صحته المثقلة بالألم، وعلى قلبه الجريح من جلطة جاءته تحذيراً فى شهر سبتمبر سنة 1969.
سوف أكتفى هنا بالأربع والعشرين ساعة الأخيرة أروى وقائعها كما عشتها بجانبه... حتى جاءت لحظة الرحيل.
......
كنت قد تركته عند الرابعة بعد الظهر - يوم الأحد 27 سبتمبر - فى الجناح الذى كان يقيم فيه بفندق هيلتون حيث نزل كل الملوك والرؤساء العرب الذين التقوا فى القاهرة، بحثاً عن حل «يوقف نزيف الدم فى الأردن»، كما كان هو يقول.
كانت هناك جلسة بعد الظهر عاصفة، فقد حضرها الملك حسين لأول مرة.
وكانت هذه الجلسة قد بدأت فى الواحدة بعد الظهر، وانتهت فى الثالثة والنصف.
وعندما انتهت الجلسة فى الثالثة والنصف، كنت فى انتظاره بجناحه فى الدور الحادى عشر، وعرفت منه بعض التفاصيل عما حدث، وتركته ليستريح بعض الوقت، ودخل إلى غرفة نومه وكانت الساعة الرابعة، وتوجهت أنا إلى بيتى، أغير قميصى كما قلت له وأعود بعد قليل، وكان الموعد المحدد للجلسة الختامية هو الساعة السادسة مساء.
وفى الساعة الخامسة كنت أدخل على أطراف أصابعى مرة أخرى إلى جناحه، وكان محمد داود الذى يقوم بخدمته الخاصة واقفاً على باب حجرة النوم، واقترب منى يقول:
- إن الرئيس نائم، وقد طلب إيقاظه فى الساعة الخامسة والنصف.
ودخلت غرفة الصالون، المواجهة لغرفة النوم، واتجهت إلى الشرفة، أطل منها على النيل... وأنتظر.
وبعد دقائق جاءنى السيد محمد أحمد السكرتير الخاص للرئيس يقول لى:
- إن الرئيس جعفر نميرى والسيد الباهى الأدغم فى طريقهما الآن إلى جناح الرئيس فهل نوقظه؟.
ونظرت فى ساعتى - كما أتذكر جيداً - وكانت الخامسة وسبع دقائق، وقلت:
- «ننتظر بعض الوقت.. نعطيه دقائق إضافية من النوم لو كنا نستطيع!».
وقمت باستقبال الرئيس نميرى والسيد الباهى الأدغم وقلت لهما همساً:
- «إن الرئيس نائم.. ولم نشأ إيقاظه.. ولكننا نوقظه إذا أرادا».
وقال الرئيس نميرى:
«نتركه بعض الوقت.. لقد جئنا بمشروع اتفاق كلفنا بإعداده على ضوء مناقشات جلسة بعد الظهر، ليكون أساساً لحديثنا فى جلسة المساء».
وناولنى الباهى الأدغم مشروع الاتفاق لأقرأه.. وقرأته على مهل، وفى ذهنى أن أطيل الوقت إلى أقصى حد ممكن.
وتناقشنا فى بعض بنود المشروع.. واتجه حديثنا إلى بعض ما دار فى جلسة بعد الظهر.. ثم كان الوقت يقترب من الخامسة والنصف، وطلبت من محمد داود أن يدخل لإيقاظ الرئيس.
وجاء محمد داود بعد دقيقة يطلبنى إلى غرفة نوم الرئيس وذهبت، وكان واقفاً بجوار الفراش، واستمع إلىّ فى ثوانٍ قليلة ثم قال:
«اجلس معهما... وسوف آخذ حماماً سريعاً وألحق بكم».
واستطرد وهو يتنهد:
«لقد كنت فى نوم عميق من شدة التعب».
ولحق بنا إلى الصالون، وكانت الساعة الخامسة والنصف تماماً..
وأمسك بيده مشروع الاتفاق، ولم يجد معه نظارته، وناولنى الأوراق، وطلب منى أن أقرأه على مسمعه.
وكان تعليقه أن المشروع يمكن أن يكون أساساً مقبولاً «إذا خلصت النوايا».
ودخل العقيد معمر القذافى وجاء بعده السيد محمد أحمد يقول إن كل الملوك والرؤساء بدأوا يفدون على القاعة فى انتظار بدء الاجتماع.
وقال الرئيس عبدالناصر:
- هل نذهب؟
وأردف:
- هل نذهب لنفض الاجتماع.. أم لنواصل الحديث، سعياً وراء هدفنا؟
وقال الرئيس نميرى:
- على بركة الله نذهب.
وقام الجميع إلى المصعد.. نازلين إلى قاعة الاجتماعات فى الدور الثانى، وفكرت من جانبى - متوقعاً أن يطول الاجتماع - فى الذهاب إلى الأهرام بنفسى بدل عناء الاتصالات التليفونية.
ووصلت إلى الأهرام لأجد كبير الياوران على التليفون يطلبنى ويقول لى:
- إن الرئيس يريدك فى القاعة فوراً.
وعدت بسرعة إلى فندق هيلتون متوجهاً إلى القاعة، ولمحنى الرئيس عبدالناصر أدخل من بابها فأشار إلىّ أن أجلس بجانبه.
وقال لى همساً:
«لقد تم الاتفاق.. وهم الآن يكتبون صيغته النهائية على الآلة الكاتبة لكى نوقع عليها جميعاً».
وجاء إلى جناحه فى الدور الحادى عشر، وكانت سعادته بالوصول إلى اتفاق تغطى إحساسه بالإرهاق بعد كل ما عمل وبذل.
ووقف فى الشرفة المطلة على النيل وقال:
«هذا أجمل منظر تراه العين».
وجاء أنور السادات وحسين الشافعى وعلى صبرى، وراح يروى لهم بطريقته المرحة بعض ما دار فى الاجتماع.
ثم سأل فجأة:
«أين معمر القذافى؟».
وجاء السيد محمد أحمد بعد قليل يقول إن الرئيس معمر القذافى توجه من قاعة الاجتماع إلى المطار ليعود إلى بنغازى، وإنه عندما صافح الرئيس بعد انتهاء الجلسة فعل ذلك مودعاً، وهو لا يريد أن يثقل على الرئيس ولهذا فهو يرجوه ألا يذهب لوداعه فى المطار.
وقال الرئيس على الفور:
- «اتصلوا بالمطار وعطلوا الطائرة حتى أذهب.. لابد أن أودعه بنفسى».
ثم قال على الفور:
«أظن أنه لم يبق هناك داع الآن لبقائى فى الفندق.. أريد أن أبيت الليلة فى بيتى... لقد أوحشنى «الأولاد»، ولعلى أستطيع أن أراهم قبل أن يناموا الليلة».
والتفت إلىّ يقول:
- هل أنت متعب؟
قلت:
أبداً.
قال:
إذن ابق هنا، لقد كلفت الفريق صادق أن يقابل الباهى الأدغم وأن يبحث معه ترتيبات سفر لجنة الرقابة... احضر معهم هذا الاجتماع.
ثم استطرد:
ولعلك أيضاً تقابل إخواننا من المقاومة.
وقلت:
إننى سأبقى ومشيت معه من جناحه إلى المصعد، وسلمت عليه قبل قفل الباب.. ولم يكن يخطر بخيالى أنها آخر مرة أصافحه.
وصلت إلى مكتبى بالأهرام فى الساعة الثامنة والنصف من صباح اليوم التالى، الاثنين 28 سبتمبر.
وحين دخلت، كان أول ما قيل لى:
«إن الرئيس اتصل بنفسه وسأل عنك.. ولما عرف أنك لم تحضر بعد، قال إنه لا داعى لأن تطلبه، لأنه خارج إلى المطار الآن، وسوف يتصل بك هو عند الظهر».
ولم أذهب إلى وزارة الإرشاد كما أفعل عادةً فى الحادية عشرة صباحاً، وإنما بقيت فى الأهرام قريباً من التليفون الذى يطلبنى عليه عادةً.
كان تليفونه قبل الثامنة والنصف أول اتصال أجراه ذلك اليوم.
ثم قام - كما علمت فيما بعد - إلى حمام الصباح، ثم جلس إلى إفطاره وأكل تفاحة واحدة من صندوق تفاح جاءه به الوفد اللبنانى إلى مؤتمر القاهرة ثم فنجان قهوة مع السيدة الجليلة قرينته.
وقالت له هى قبل أن ينزل إلى أول وداع رسمى ذلك اليوم فى مطار القاهرة:
- إن «الأولاد» سيكونون جميعاً على الغداء اليوم. وقال لها إنه سوف يراهم جميعاً على الغداء.
وخرج من البيت قبل الساعة التاسعة بدقيقتين.
وفى الساعة الواحدة دق جرس التليفون فى مكتبى... وجاءنى صوته، وأحسست به متعباً، متعباً إلى أقصى حد.
وأعدت عليه حديث الإجازة، وقال إنه سوف يستريح بعد وداع أمير الكويت..
وسألته عما يشعر به، وقال:
«أجد نفسى غير قادر على الوقوف».
وسألته:
- هل رأيت الطبيب؟
وقال:
«كان عندى الدكتور الصاوى وأجرى رسماً جديداً للقلب... وقال لى إن كل شىء كما هو».
وقلت:
- «وآلام الساق.. أما من دواء لها؟».
وقال:
- «سوف أضع قدمى فى ماء دافئ به ملح، وأظن أن الألم سوف يتحسن.. هو طول الوقوف فيما أعتقد!».
وعدت ألح فى حديث الإجازة، وأقترح أن يذهب إلى الإسكندرية وقال:
- لا أستطيع الذهاب متعباً بهذا الشكل.. سوف أنام هنا يوماً كاملاً.. وبعدها أفكر فى الذهاب إلى الإسكندرية.
ثم تطرق الحديث إلى السياسة كالعادة، وسألنى عن رد الفعل فى إسرائيل لاتفاق حكومة الأردن مع المقاومة.
وأجبته بملخص البرقيات التى وردت ذلك الصباح.
ثم مضى الرئيس يقول:
- قد لا أتصل بك فى المساء لأننى سوف أنام.
- ووجدتنى أقول له بطريقة تلقائية.
- تصبح على خير.
وقال ضاحكاً:
«ليس بعد... نحن مازلنا الآن فى عز النهار!».
وكانت تلك آخر مرة أسمع فيها صوته.
واستراح قليلاً فى غرفته، ثم قام يرتدى ملابسه، مستعداً للتوجه إلى المطار لمراسم الوداع الأخير مع أمير الكويت.
واتصل بالسيد سامى شرف يسأله عما إذا كان هناك جديد؟
وقال له سامى شرف إنه ليس هناك جديد، ولكنه يلح على الرئيس فى ضرورة أن يريح نفسه، لأن الجهد الذى يبذله عنيف.
وقال الرئيس:
«سوف أنام بعد أن أعود.. سوف أنام نوماً طويلاً».
ثم استطرد:
« وفى الغد نتكلم عن الإجازة».
وخرج من غرفته متوجها إلى السلم، وتردد لحظة أمام المصعد، ثم ضغط على الزر يطلبه، وكانت أول مرة منذ تركيب المصعد فى بيته يستعمله فيها للنزول.. كان دائماً يستعمله فى الصعود.. وعند النزول كان يفضل السلم.
فى وداع أمير الكويت، أحس فى الدقائق الأخيرة، أنه متعب بأكثر مما يحتمل، لكنه تماسك بجهد لا يصدق.
وقبل أمير الكويت وهو يتصبب عرقاً.. والدوار يعتريه.
وصعد أمير الكويت إلى طائرته، والتفت الرئيس يطلب سيارته.. وكان ذلك على غير المعتاد، فقد كانت العادة أن يذهب هو ماشياً إلى حيث تقف سيارته، وأن يحيى جماهير المودعين.
وجاءت السيارة ودخل إليها وهو يقول للسيد محمد أحمد:
- «اطلب الدكتور الصاوى يقابلنى الآن فى البيت».
واستقل المصعد من الدور الأول فى بيته إلى الدور الثانى... وكانت الأسرة كلها فى انتظاره.
وأحسوا جميعاً أنه متعب، ولكنه وقف وسطهم دقيقة يتحدث فيها مع حفيديه «هالة» و«جمال»، ثم يتوجه بعد ذلك إلى غرفة نومه، وتلحق به السيدة الجليلة قرينته، تسأله متى يريد الغداء، ويقول لها وهو يخلع ملابسه:
«لا أستطيع أن أضع شيئاً فى فمى».
ويرتدى بيجامة بيضاء مخططة بخطوط زرقاء ويدخل إلى سريره ويجىء الدكتور الصاوى، وتستأذن السيدة الجليلة قرينته فى الخروج، لأنها - كما عودها دائماً - لا تقف فى الحجرة وهناك فيها غيره، حتى ولو كان الطبيب.
لكن قلبها لا يطاوعها على الخروج بغير سؤال لمحه الرئيس فى عينيها قبل أن تنطق به.
وقال لها مطمئناً:
- لا تخافى، أظنه نقصاً فى السكر..
وقالت بسرعة:
- هل أجيئك بشىء...؟
وقال الدكتور الصاوى:
- أى عصير..
وذهبت هى تعصر كوب ليمون وكوب برتقال..
بينما الدكتور الصاوى يشعر من أول لحظة أن هناك طارئاً خطيراً.. ويخرج من الغرفة ليتصل بالسيد محمد أحمد على التليفون.. ويطلب منه استدعاء الدكتور منصور فايز والدكتور زكى الرملى.
ويعود إلى الغرفة، والسيدة الجليلة قرينة الرئيس تدخل إليها حاملة كوب عصير برتقال وكوب عصير ليمون.
ويختار الرئيس كوب البرتقال ويشربه.. وتخرج هى من الغرفة، ويبدأ الدكتور الصاوى محاولاته لوقف الطارئ الخطر.
كان تشخيصه على الفور أن هناك جلطة فى الشريان الأمامى للقلب.. ولما كانت الجلطة السابقة فى سبتمبر من العام الماضى قد أثرت فى الشريان الخلفى.. إذن فإن الموقف دقيق وحرج.
ويصل الدكتور منصور فايز، وعند وصوله، تحس السيدة الجليلة قرينة الرئيس أن هناك شيئاً غير عادى.
كانت طوال الوقت واقفة تنتظر فى قاعة الجلوس التى تجتمع فيها الأسرة، وهى على مدخل البهو المؤدى إلى غرفة مكتب الرئيس، ثم غرفة نومه فى الدور الثانى من البيت.
وحين وجدت الدكتور منصور فايز أمامها، اقتربت منه والقلق يشد ملامحها، لتقول له:
«لا تؤاخذنى يا دكتور.. لا أقصد إساءة.. ولكن مجيئك يقلقنى.. أنت تجىء عندما يكون هناك شىء غير عادى».
وقال لها الدكتور منصور فايز:
«أرجوك أن تطمئنى.. كل شىء بخير إن شاء الله».
ودخل.. وبعد قليل لحق به الدكتور زكى الرملى.
كان التشخيص واحداً.. وكانت الإسعافات التى بدأها الدكتور الصاوى قبل مجيئهما مستمرة، وكان الرئيس متنبهاً إلى كل ما يجرى.
وحوالى الساعة الخامسة، بدا أن الأمل يقوى.
كان النبض قد بدأ ينتظم، وضربات القلب تعود إلى قرب ما هو طبيعى.
واستراح الأطباء، والتقطوا أنفاسهم وهم بجواره، وهو يراقبهم بابتسامة هادئة على شفتيه.
ثم بدأ يتحدث معهم.
كانت الساعة الخامسة إلا خمس دقائق بالضبط.
وقال له الدكتور منصور فايز:
«إن الرئيس فى حاجة إلى إجازة طويلة».
وقال الرئيس:
«كنت أريد أن أذهب إلى الجبهة قبل الإجازة.. هل أستطيع أن أذهب وأرى أولادنا هناك قبل أى إجازة».
وقال الدكتور منصور فايز:
«إن ذلك سوف يكون صعباً.. ويجب أن تسبق الإجازة أى نشاط آخر».
وهمّ الرئيس فى فراشه ومد يده إلى جهاز راديو بجانبه وفتحه، يريد أن يسمع نشرة أخبار الساعة الخامسة من إذاعة القاهرة.
استمع الرئيس إلى مقدمة نشرة الأخبار ثم قال:
«لم أجد فيها الخبر الذى كنت أتوقع أن أسمعه...».
ولم يقل شيئاً عن الخبر الذى كان ينتظر سماعه.
وتقدم منه الدكتور الصاوى وقال:
- ألا تستريح سيادتك.. إنك فتحت جهاز الراديو ثم قفلته ولا داعى لأى مجهود الآن؟
وعاد الرئيس يتمدد تماماً على فراشه، ويقول بالحرف:
- «لا يا صاوى... الحمد لله... دلوقت أنا استريحت».
ولم يفرغ الدكتور الصاوى من عبارة يقول فيها:
«الحمد لله يا فندم...».
لم يفرغ، ونظره مركز على الرئيس، حتى وجده يغمض عينيه ثم وجد يده تنزل من فوق صدره، حيث كان وضعها، وتستقر بجواره.
بعدها لم يشعر عبدالناصر بشىء..
لم يقل كلمة.
وكانت ملامح وجهه تعكس نوعاً غريباً من الراحة المضيئة.
وجرى الدكتور الصاوى هالعاً ينادى الدكتور منصور فايز ووقف كل الأطباء حول الفراش، وبيدهم وعقولهم كل ما يستطيعه العلم.
ووصلت إلى البيت، وصعدت السلم قفزاً، وكانت السيدة الجليلة قرينة الرئيس أول من لقيت، وكانت إحدى يديها تضغط على خدها، واليد الأخرى تمسك برأسها، وليس على لسانها، وقد ملكها الخوف والخطر، إلا نداء واحد:
«جمال... جمال...».
وكانت تكتم نداءها حتى لا ينفذ إلى حيث يرقد هو.
وعبرت غرفة مكتبه بسرعة إلى غرفة نومه، وإلى فراشه، وكان الأطباء مازالوا من حوله، وكان ممدداً على الفراش وسطهم.. بالبيجامة البيضاء وخطوطها الزرقاء.
وفوجئت بما رأيت.
عندما دعيت إلى البيت لم يخطر ببالى ما قدر لى أن أراه.
أقصى ما خطر ببالى عندما دعيت إلى بيته «لأنه متعب»، هو أن شيئاً مما ألم به فى العام الماضى قد عاوده.
لكنى لم أكن مهيأ لما رأيت.
ولأول نظرة على الفراش، فإننى أحسست بما لا أستطيع اليوم، ولا غداً أن أصفه من مشاعرى.
كان هناك على الفراش هدوء غريب.
صمت كامل..
كان هناك شىء واحد يلمع بشدة، وهو دبلة الزواج فى يده، ينعكس عليها ضوء النور المدلى من السقف.
ولم أحاول أن أقترب من أى واحد من الأطباء، فلم يكن من حق أحد أن يشغلهم.
والتفت حولى إلى بقية من فى الغرفة: شعراوى جمعة، وسامى شرف، ومحمد أحمد.
وكانوا جميعاً مثلى معلقين بين السماء والأرض.
ووجدتنى أدور فى الغرفة وأبتهل..
أردد والدموع تنزل صامتة: يا رب.. يا رب.
ثم أرقب محاولات الطب الأخيرة، وأناديه فى علاه يا رب غير ممكن.. يا رب غير معقول.
وتستمر محاولات التدليك الصناعى للقلب.
وتتكرر تجربة الصدمة الكهربائية، والجسد الطاهر المسجى يختلج، ولكن الهدوء يعود بعد كل اختلاجه.. بلا حس ولا نبض.
وأحسست أن الأطباء قد فقدوا الأمل.. وأنهم لا يحاولون بالعلم.. ولكن يحاولون ضد العلم.
وجاء على صبرى ووقف مبهوتاً أمام ما يجرى.
وجاء حسين الشافعى، واستدار إلى القبلة يصلى لله.
وجاء أنور السادات ووقف أمام الفراش رافعاً وجهه إلى السماء يتمتم بآيات من القرآن.
ودخل الفريق أول محمد فوزى والذهول يملأ وجهه، فى نفس اللحظة التى قال فيها أحد الأطباء:
«إن كل شىء قد انتهى..».
وقال الفريق أول فوزى بحدة ملتاعة:
- لا.. لا يمكن.. واصلوا عملكم».
وانفجر الدكتور منصور فايز باكياً.. وانفجر معه كل الأطباء باكين.
وانهمرت الدموع.. طوفان من الدموع.
......
ودخلت السيدة الجليلة قرينته إلى الغرفة المشحونة بالجلال والحزن.
...لا يمكن لأحد أن يصف أحزانها المتوهجة كالجمر المشتعل..
أمسكت يده تقبلها وتناديه.
وسمعت أحد الباكين يقول:
- الرئيس.. الرئيس..
والتفتت تقول:
«لا تقولوا الرئيس.. قولوا إنه جمال عبدالناصر وكفى.. سيبقى بالنسبة لى وللناس كلهم جمال عبدالناصر».
ثم انحنت عليه تقبل يده مرة أخرى وهى تقول:
«لم يكن لى فى الدنيا سواه.. ولا أريد فى الدنيا غيره.. ولا أطلب شيئاً إلا أن أذهب إلى جواره حيث يكون».
وأقبل أحد الأطباء يغطى وجهه.
ونظرت إليه متوسلة بالدموع والنشيج:
«اتركوه لى.. أنظر إليه.. أملأ عينى به».
واستدار كل من فى الغرفة خارجين.. تاركين لها اللحظة الأخيرة، وحدها معه..
وعندما جاءت السيارة التى تنقل جثمانه الطاهر إلى قصر القبة، كانت فى وداعه حتى الباب، وكانت كلمتها المشبوبة باللهب الحزين والسيارة تمضى به:
«حتى بعد أن مات.. أخذوه منى.. لم يتركوه لى».
وانطلقت به السيارة فى جوف الليل الحزين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.