في لقائه مع وفد مبادرة "إبدأ".. محافظ أسوان يستعرض الخريطة الصناعية والاستثمارية    الصرف الصحي: الانتهاء من تنفيذ خط طرد محطة بيجام بتكلفة 180 مليون جنيه    وزير النقل: تشغيل مترو الخط الثالث بالكامل رسميا أمام الركاب    الرئيس السيسي يصل البحرين للمشاركة في الدورة ال33 لمجلس الجامعة العربية    مصدر أردني: إحباط محاولة تهريب أسلحة من ميليشيات إلى المملكة    الأهلي يواجه الترجي في ذهاب نهائي دوري أبطال إفريقيا.. الموعد والقنوات الناقلة    رسميًا: إجازة عيد الأضحى 2024 السعودية تبدأ 13 يونيو    المشرف على الحجر الزراعي المصري يتفقد المعامل المركزية بالمطار    الهجرة تتفق مع رجال أعمال الإسكندرية على شراكة بملف تدريب وتأهيل الشباب ومواجهة الهجرة غير الشرعية    تخصيص 1.5 فدان لإنشاء محطات لتحلية مياه البحر في رفح    وزير التعليم العالي ل النواب: السنة تمهيدية بعد الثانوية ستكون "اختيارية"    أمير الكويت يدعو الحكومة الجديدة إلى الإسراع في تنفيذ مشاريع استراتيجية تنموية    نتنياهو يزعم: لا كارثة إنسانية في رفح الفلسطينية بعد إجلاء نحو 500 ألف شخص منها    ب عروض مسرحية وأغاني بلغة الإشارة.. افتتاح مركز خدمات ذوي الإعاقة بجامعة جنوب الوادي    مساعد كلوب في ليفربول يتولى تدريب سالزبورج    محافظ جنوب سيناء: تنفيذ 10 محطات تحلية وأنظمة طاقة شمسية لخدمة التجمعات السكانية    عيد الأضحي 2024: متى يبدأ يوم عرفة ومتى ينتهي؟    إصابة 4 أشخاص في مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    إصابة عامل صيانة إثر سقوطه داخل مصعد بالدقهلية    الحكومة توافق على ترميم مسجدي جوهر اللالا ومسجد قانيباي الرماح بالقاهرة    الفنانة سلمى أبو ضيف تعلن خطبتها    ميريل ستريب تتحدث عن ذكرياتها مع مهرجان كان في لقاء مفتوح    على أنغام "حادى بادى" .. المتحدة تحتفل بعيد ميلاد عادل إمام بمشاهد من أعماله    مناقشة رواية بيت من زخرف لإبراهيم فرغلي بمبنى قنصلية.. الإثنين    ملك قورة تعلن الانتهاء من تصوير فيلم جوازة توكسيك.. «فركش مبروك علينا»    الصورة الأولى لأمير المصري في دور نسيم حميد من فيلم Giant    صحة الإسماعيلية تفحص 776 حالة في قافلة طبية بمركز أبوصوير    «الصحة» تقدم 5 نصائح لحماية صحتك خلال أداء مناسك الحج 2024    بالفيديو| أمين الفتوى يذكر بعض كرامات السيد البدوي: لا أحد يستطيع التشكيك فيها    افتتاح مركز خدمات ذوي الإعاقة بجامعة جنوب الوادي    ماذا قال مدير دار نشر السيفير عن مستوى الأبحاث المصرية؟    6 يوليو.. بدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني بمركز التعلم المدمج ببني سويف    مفتي الجمهورية من منتدى كايسيد: الإسلام يعظم المشتركات بين الأديان والتعايش السلمي    أبرزها «الأسد» و«الميزان».. 4 أبراج لا تتحمل الوحدة    أمين الفتوى: الصلاة النورانية لها قوة كبيرة فى زيادة البركة والرزق    الإفتاء توضح حكم الطواف على الكرسي المتحرك    الأمم المتحدة: أكثر من 7 ملايين شخص يواجهون خطر انعدام الأمن الغذائي بجنوب السودان    بث مباشر.. حجز شقق جنة في القاهرة الجديدة و6 أكتوبر بالقرعة العلنية    تحرير (148) مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    "النقد الدولي" يوافق على قروض لدعم اقتصاد غينيا بيساو والرأس الأخضر    حكم وشروط الأضحية.. الإفتاء توضح: لا بد أن تبلغ سن الذبح    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13238 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    "التعاون الإسلامي" تؤكد دعمها الثابت لحقوق الشعب الفلسطيني    للنهائى الأفريقي فوائد أخرى.. مصطفى شوبير يستهدف المنتخب من بوابة الترجى    «حياة كريمة» تطلق قافلة تنموية شاملة إلى قرية شماس بمركز أبو النمرس    الصحة تشارك في اليوم التثقيفي لأنيميا البحر المتوسط الخامس والعشرين    ضبط 123 قضية مخدرات في حملة بالدقهلية    أحمد مجدي: السيطرة على غرفة خلع ملابس غزل المحلة وراء العودة للممتاز    6 ميداليات لتعليم الإسكندرية في بطولة الجمهورية لألعاب القوى للتربية الفكرية والدمج    سؤال يُحير طلاب الشهادة الإعدادية في امتحان العربي.. ما معنى كلمة "أوبة"؟    بعد الصين.. بوتين يزور فيتنام قريبا    تصالح مرتضى منصور مع عبد الناصر زيدان في دعوى السب والقذف    الداخلية: سحب 1539 رخصة لعدم وجود الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    تشاهدون اليوم.. نهائي كأس إيطاليا وبيراميدز يستضيف سيراميكا    «إكسترا نيوز»: قصف مدفعي إسرائيلي عنيف على عدة مناطق في رفح الفلسطينية    النائب إيهاب رمزي يطالب بتقاسم العصمة: من حق الزوجة الطلاق في أي وقت بدون خلع    بشرى سارة للجميع | عدد الاجازات في مصر وموعد عيد الأضحى المبارك 2024 في العالم العربي    ريال مدريد يكتسح ألافيس بخماسية نظيفة في ليلة الاحتفال بالليجا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هيكل وآخر يوم في حياة جمال عبد الناصر (2)
نشر في أخبار الحوادث يوم 29 - 09 - 2010

ان الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل من أقرب الناس إلي الرئيس جمال عبد الناصر.
وعاش هيكل مع عبد الناصر منذ بداية الثورة وحتي رحيل عبد الناصر.. صديقًا مخلصًا ورفيقًا ملهمًا.. في كل وقت.. وطوال الوقت.
ولا بد أن هيكل قد بذل جهدًا كبيرًا لكي يستطيع أن يكتب عن "نهاية عبد الناصر"!
لكنه في النهاية كتب القصة الحزينة.. بعد شهر من رحيل عبد الناصر..
وقال هيكل فيها:
"لقد كان شعوري غريبًا خلال ساعات الرحيل الحزينة..
كيف رحل.. ولم أرحل معه؟
هذه هي السفرة الأولي التي يذهب فيها ولا أكون في رفقته!
ولم أستطع لفترة طويلة أن أعزي نفسي، بأن ذلك لم يكن اختيارًا أراده هو.. وإنما المقادير هي التي فرضته عليه وعلي.
وظللت أيامًا أقنع قلبي كالأطفال عندما يغيب أحبابهم "أنه سافر" خصوصًا تلك الأيام الثلاثة.. التي انقضت بين لحظة الرحيل.. وبين اللحظة التي هجع فيها علي مثواه الأخير، كفنًا أبيض طاهرًا، فوق فرشه من الرمال، في قبر أقيم علي عجل، خلف مسجد بناه بنفسه.. محبة في الله.. وحبًا للمؤمنين.
لماذا أنكرت الحقيقة بالقلب كالأطفال عندما يغيب أحبابهم؟
وكان يجب أن أكون أول مستسلم أمامها. لأني عشتها معه في البداية إلي النهاية؟".
ومضي هيكل أقرب الناس إلي عبد الناصر يروي القصة ويكتب عن نهاية ناصر قائلًا:
لقد كنت أعرف ما به.. وكنت شاهدًا علي ملحمته الرائعة في الصراع مع الأيام.. وأظن أنه صراع مع الألم سوف يبقي أنبل معاركه، لأنه ذروة المأساة في قصة البطل!.
ولقد كنت قريبًا منه. أسمع تلميحاته عن النهاية، ولا أعرف كيف ضاع مني الفهم الصحيح لمعانيها؟
لقد كنت بجوار فراشه لحظة الرحيل.. وأحسست بذلك المزيد المخيف من الحزن والهزيمة معًا.. الحزن لرحيله وحده.. والهزيمة لأن الموت انتصر علينا جميعا.. بينما بعضنا يحاول بالعلم.. وبعضنا يحاول بالصلاة.. وبعضنا يحاول بالدموع!.
إحساس لم أجربه من قبل.. إلا خلال تلك الأيام السوداء من يونيو 1967 ويومها كنا معًا في ذلك الإحساس.. لكن هذه المرة لم يكن معنا بقدرته الخارقة علي التشجيع والإلهام.
إن ملحمة صراعه مع الألم بدأت سنة 1958.
بعد حرب السويس.. وبعد المؤامرة علي سوريا.. وبعد الوحدة وبعد ثورة العراق وسقوط حلف بغداد.
اكتشف الأطباء أن لديه مرض السكر.. وكتب الأطباء تقريرًا عن حالته يقولون فيه:
إن المرض يمكن السيطرة عليه.. ولا بد من السيطرة عليه. وذلك يقتضي ضبط ثلاثة عناصر رئيسية في طريقة حياته.
ضبط الطعام.
وضبط المجهود.
وضبط الانفعالات.
وقرأ التقرير..
ووضع علامة الموافقة علي البند الأول مما يطلبون ضبطه، وهو الطعام وترك البندين الباقيين بدون إشارة إلي رأيه فيهما!.
وطلب أطباؤه موعدًا معه لمناقشته.
وجلس معهم كأنه يبحث أي مشكلة مما يواجهه كل يوم يقرر فيها الممكن والمستحيل. ويحاول بإرادته التوفيق بينهما.
وقال للأطباء وهو يمسك بالتقرير..
وبالنسبة لضبط الطعام ممكن بشرط واحد.. هو أن لا يمتد المنع إلي الجبنة البيضاء.
وكانت الجبنة البيضاء أكلته المفضلة.. ولم يخرج من مصر في رحلة إلا وكانت في الطائرة صفيحة من الجبنة البيضاء.. وكانت مآدب العشاء الفاخرة تقام له في قصور الدولة حيث يذهب.. وكان يتظاهر بأكل بعض
ما هو موضوع أمامه.. أما عشاءه الحقيقي.. كان حين يعود بعد الرسميات إلي جناحه.. ثم يطلب الجبنة البيضاء والخبز الجاف!.
ورضي حين قال له الأطباء إن الجبنة البيضاء.. لن تكون ضمن المحظورات، فتمت الموافقة علي بند ضبط الطعام.
وانتقلت المناقشة إلي البندين الأخيرين في التقرير.. ضبط المجهود وضبط الانفعالات.
وقال لهم الرئيس عبد الناصر في بساطة: كيف لي أن أسيطر علي المجهود والانفعالات.. هذه حياتي كلها!.
ثم وعدهم في النهاية أن يحاول..
لكنهم كانوا يرون بعيونهم أنه لا يحاول!
وجاءت انتكاسة الثورة في العراق..
ثم مشاكل الوحدة.. ثم ثورة الاشتراكية. ثم ضربة الانفصال.. ثم مواجهة آثار الانفصال في مصر وفي العالم العربي. ثم حرب اليمن.. ثم خطط التنمية المتلاحقة ومنجزاتها ومشاكلها.
ثم هموم الانحرافات.. وكانت قد بدأت تضايقه بشدة سنة 1965 و 1966.. ثم جاءت مؤامرة العدوان سنة 1967.. ثم الهزيمة في معارك الأيام الستة ثم يومي 9 و 10 يونيه بانفعالتهما المضنية..
وخلال ذلك كله كانت مضاعفات السكر بغير أي محاولة لضبط المجهود أو ضبط الإنفعالات تزداد، وحين أجري عليه كشف عام يوم 1 يوليو سنة 1967. فإن الأطباء. وأولهم طبيبه الخاص الصاوي حبيب.. أحسوا بالخطر! وكانت مضاعفات السكر قد أحدثت تأثيرها في شريان القدم اليمني.
وكانت هناك في أعصاب الساقين مسببة لآلام شديدة..
لكنه لم يكن مستعدًا أن يسمع من أحد!
فقد كان عمله كله في عملية إعادة بناء القوات المسلحة.. وفي عملية ترتيب الجبهة الداخلية والجبهة العربية.
كان يمشي في طريقه.. وكان يدوس علي كل الآلام!
ويكمل هيكل بقية قصة صراع عبد الناصر مع المرض فيقول:
وفي يوليو سنة 1968..
وكان علي موعد لسفر إلي موسكو.. واقترح عليه الأطباء أن تكون تلك فرصة.. يدرس معهم الأطباء السوفيت فيها حالته.
وفوجئت بشدة آلامه وأنا جالس أمامه في الطائرة المسافرة إلي موسكو.. كانت تطورات الحوادث في مصر في بداية سنة 1968 قد شغلتنا جميعًا عن حالته الصحية.. لكني روعت حين وجدته في الطائرة لا يستطيع الجلوس في مقعده من شدة الألم!
وفرش له الأطباء سريرًا في الجزء المخصص له في مقدمة الطائرة..
وكنت أحاول أن أخفي الانزعاج.. ولكنه لمح آثاره..
فقال برقة لم يكن يستطيعها غيره: سوف أنام بعض الوقت.. وحين أستيقظ سوف يكون الألم أخف!
وجلسنا بجواره..
أنور السادات وأنا علي كرسيين متواجهين في الطائرة.. وكنا ساكتين لنعطيه فرصة للنوم.. ولكن نظرات عيوننا لم تكن ساكتة!
واستيقظ.. وكانت الطائرة فوق بولندا..
وعاد إلي كرسيه معنا لكننا لم نشعر أن آلامه قد خفت حدتها.
وحاول هو تغيير الموضوع..
فقال لي: اطلب ياسر عرفات ليجئ فيجلس معنا هنا بعض الوقت.. حتي لا يشعر بالغربة مع بقية أعضاء الوفد من ركاب الطائرة.
وكان ياسر عرفات معنا علي الطائرة ذاهبًا إلي موسكو.. ولم يكن يعرف بوجوده علي الطائرة أحد.. ولا كان أحد في العالم قد سمع باسمه بعد.. ولكن جمال عبد الناصر أراد أن يأخذه معه إلي موسكو.. ليفتح للمقاومة الفلسطينية بابًا يكون لها مصدر سلاح.
وحين جاء ياسر عرفات وجلس بجواره.. كان هو قد سيطر تمامًا بإرادته القوية علي آثار الألم ومظاهره علي ملامحه.
* * *
ويكمل هيكل تفاصيل رحلة موسكو قائلًا:
وشهدته في مراسم الاستقبال الرسمي في مطار "نينوكفو". وأنا أعلم كم يكلفه الوقوف والمشي.. وظلت سيطرته كاملة علي آلامه.. حتي وصل إلي قصر الضيافة.. وأجري اجتماعًا تمهيديًا مع الزعماء السوفيت.. وتمشي معهم في حديث ودي في حديقة قصر الضيافة الواقع علي ربو تلال لينني.
وكان برجنين يريه لأول مرة أشجار الكريز.
ثم صعد إلي غرفة نومه وخلع ملابسه وتمدد علي السرير.. رافعًا قبضة إرادته القوية عن آلامه الشديدة الصلبة.
وكنا معه في الغرفة ثلاثة..
أنور السادات والشهيد عبد المنعم رياض وأنا..
وجاء طبيبه الخاص وتركناه معه قليلًا.. وخرجنا إلي غرفة المكتب الملاصقة لغرفة النوم في جناحه.
وعبد المنعم رياض يقول لي: كيف تركناه حتي تصل به الآلام إلي هذه الدرجة.. إنه واحد في الدنيا كلها لا أطيق أن أراه يتألم.
وذهب إلي مستشفي بربيني..
وأجري له كشف كامل.. وعاد من المستشفي ومعه أنور السادات..
الذي بادرني قائلًا: المسألة بسيطة..
قاطعه الرئيس عبد الناصر: أنور.. سوف نقول الحقيقة.. يجب أن يعرف هو الآخر!.
ثم مضي يقول: لقد وجدوا أن هناك تصلبًا في شرايين الساق.. من أثر مضاعفات السكر.
ثم استطرد ضاحكًا..
ليس هذا أسوأ شيء.. أسوأ شيء أنهم طلبوا مني الامتناع عن التدخين إلي الأبد.. لقد أطفأت آخر سيجارة أمام الطبيب.. ووعدته ألا أشعل غيرها بعد ذلك.
واستطرد يقول باسمًا..
وكأنني عندما أطفأت آخر سيجارة.. ودعت صديقًا عزيزًا علي.. كانت السجائر هي الترف الوحيد الذي أستمتع به.. والآن منعت هي الأخري!
وسألت عن العلاج..
قال: طلبوا مني أن أعود في ظرف أسبوعين للعلاج بالمياه الطبيعية في بلد اسمه "تسخا لضوبو" في جورجيا.. ثم أدوية جديدة وأخيرًا النصائح التقليدية عن ساعات العمل المحدودة والإجازات المتكررة.
يقول هيكل:
وعاد إلي القاهرة..
وحضر المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي.. ورتب نتائج محادثاته في موسكو.. ثم ذهب إلي "تنس الطوبر" لثلاثة أسابيع من العلاج الطبيعي.. ثم عاد إلي مصر لأسبوعين قضاهما في الإسكندرية.
ولم تكن الآلام قد زالت.
بل إن بعضها اشتد، وكان ذلك ما توقعه الأطباء السوفيت.. كرد فعل للعلاج بالمياه الطبيعية المشعة.. وكمقدمة لا بد أن يجيء بعدها التحسن التدريجي.
وأذكر يومًا في تلك الفترة.. وكنت قد ذهبت إلي زيارته في الإسكندرية وسألته في الآلام.
فقال: لم يظهر التحسن بعد.. ولكن الأطباء يقولون إنه سيحدث.
وسكت قليلًا..
ونظره علي أمواج البحر المترامي.. أمام شرفة استدامة المعمورة التي كنا نجلس فيها وحدنا.
ثم عادت نظراته إلي..
وهو يقول: إنني أفكر جديًا في قرار أريد أن أناقشه معك.
وانتظرت ساكتًا ليكمل حديثه.
فاستطرد: إذا لم تذهب هذه الآلام فكيف أستطيع أن أواصل العمل في هذه الحالة سوف أعتزل.. هل تجد أمامي سبيلًا آخر؟!
حكمت بسذاجة ألوم نفسي عليها الآن.
لو استطعنا فقط تنظيم عملك.. لتمكنت أن تريح نفسك ولو قليلا.
قال هو: إنني لا أتحدث عن نفسي.. ولكن أتحدث عن "البلد".. كيف أستطيع أن أقوم بكل ما يجب علي القيام به.. وأنا متعب هذا ليس ذلك عدلًا بالنسبة للقياس.
واستطرد: شيء واحد يمنعني.. أخشي أن يفسر ذلك في العالم العربي. أو هناك في العالم الخارجي. بأنني يائس من احتمالات النصر.. وذلك عكس اعتقادي قلت له: أليس الأفضل أن ننتظر التحسن الذي يتوقعونه.. قبل التفكير في مثل هذا القرار؟
قال وهو يهز رأسه..
- ننتظر!
* * *
ويمضي هيكل في رواية رحلة عبد الناصر مع المرض والآلام فيقول:
في بداية سنة 1969..
كانت الآلام قد خفت كثيرًا عن ذي قبل كما كان يتوقع الأطباء..
وكان الرأي السائد بينهم. هو أن هذه الآلام سوف تختفي تمامًا. إذا عاد مرة ثانية في صيف 1969. وكان هو مقتنعًا تمامًا بالذهاب في الموعد المحدد أغسطس 1969.
وكان ربيع 1969.. وصيفها من أكثر الفترات عملًا وانشغالًا في حياته.. خصوصًا بالنسبة للقوات المسلحة.. وراودته أحلام الجبهة الشرقية في تلك الفترة وأعطي جهدا كبيرًا لها. وجاهد في مناقشات ميزانية تلك السنة لتعود التنمية غير متأثرة إلي أقصي حد ممكن بمطالب المجهود الحربي.
وركز تركيزًا كبيرًا علي ضرورة الانتهاء من السد العالي تمامًا في يوليو سنة 1970.
وفي ربيع وصيف سنة 1969 كانت معارك المدفعية قد بدأت..
وبدأت عمليات العبور الجسورة.. وكان يتابعها ليلة بليلة.. ويعرف اسم كل مجموعة ويسأل قبل أن ينام عن عودتهم وعن الخسائر فيهم.
ثم أعلن بدء حرب الاستنزاف في يوليو سنة 1969 واشتدت المعارك علي الجبهة المصرية..
ثم تأثر بطريقة لا يمكن أن يتصورها أحد لحريق المسجد الأقصي..
وحين طرح أمامه في تلك الظروف موعد زيارته الثانية إلي تنس الطوبر لكي تنتهي الآلام، أشار بتأجيل الموعد إلي شهر سبتمبر.. حتي تكون الظروف قد تكشفت.
ومع أن الآلام بدأت تعود إليه حارة مرة أخري بعد سنتين إثر العلاج الطبيعي.. فإنه لم يتعجل الذهاب للمرة الثانية.. لأنه كما قال للدكتور
منصور فايز وللدكتور الصاوي حبيب.
لا أستطيع أن أترك أولادنا هنا يموتون.. وأذهب أنا للعلاج في موسكو.
وكانت أزمة في بعض الأيام لا تحتمل.
كان الألم يستحكم إذا مشي أكثر من عشر دقائق.. وإذا جلس ثابتا في مكانه أكثر من ساعة.
وكان يمشي بدون حساب للدقائق.. وكان يجلس ثابتًا في مكانه بدون حساب للساعات!
ومع ذلك فإن أي عناء لم يستطع أن يحجب ابتسامته الدائمة للناس.. وسعادته الغامرة حينما يكون وسطهم!
ولم يستطع العناء أيضًا أن يقيد روحه المرحة.. وقدرته الدائمة علي أن يري الناحية المشرقة في كل الأشياء والأحداث!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.