تتبع المنهج البريطاني.. ماذا قال وزير التعليم عن المدرسة الدولية؟    أسعار الأسماك واللحوم والدواجن والخضروات.. اليوم 28 أبريل    اعتقال 7 متظاهرين خلال احتجاجات للمطالبة بصفقة أسرى في تل أبيب    زلزال بقوة 6.1 درجة يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    ماكرون يعتبر الأسلحة النووية الفرنسية ضمان لبناء العلاقات مع روسيا    طارق السعيد: الزمالك قادر على تخطي دريمز.. ووسام أبو علي مكسب للأهلي    التصريح بدفن جثة شاب صدمه قطار أثناء عبوره المزلقان بقليوب    الأهالي بيحاولوا يسيطروا عليه.. حريق بمنزل يثير الذعر في المنيا    حزب الله: وجهنا ضربة صاروخية بعشرات صواريخ الكاتيوشا لمستوطنة ميرون الإسرائيلية    مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة، أبرزها مواجهة الزمالك ودريمز وتوتنهام وآرسنال    الفرح تحول إلى جنازة، لحظة انتشال سيارة زفاف عروسين بعد سقوطها بترعة دندرة (صور)    14 مليار دولار في طريقها إلى مصر بسبب رأس الحكمة    أتلتيكو مدريد يفوز على أتلتيك بلباو 3-1 في الدوري الإسباني    اشتباكات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    السفير الروسي: انضمام مصر للبريكس مهم جدا للمنظمة    تسليم أوراق امتحانات الثانوية والقراءات بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    غدا.. محاكمة عاطل متهم بإنهاء حياة عامل في الحوامدية    فضل الصلاة على النبي.. أفضل الصيغ لها    25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل عن 65 عاما    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    حسام البدري: أنا أفضل من كولر وموسيماني.. ولم أحصل على فرصتي مع منتخب مصر    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    عضو اتحاد الصناعات يطالب بخفض أسعار السيارات بعد تراجع الدولار    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الأحد 28 إبريل 2024 بالصاغة    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    لأول مرة بالمهرجانات المصرية.. "الإسكندرية للفيلم القصير" يعرض أفلام سينما المكفوفين    ملف يلا كورة.. أزمة صلاح وكلوب.. رسالة محمد عبدالمنعم.. واستبعاد شيكابالا    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري للبيع والشراء اليوم الأحد 28 إبريل 2024 (آخر تحديث)    تحولات الطاقة: نحو مستقبل أكثر استدامة وفاعلية    الكرملين: مصير زيلينسكي "محسوم"    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    سكك حديد مصر تعلن عن رحلة شم النسيم من القاهرة إلى سيدي جابر    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    بعد جريمة طفل شبرا، بيان عاجل من الأزهر عن جرائم "الدارك ويب" وكيفية حماية النشء    بشرى للموظفين.. 4 أيام إجازة مدفوعة الأجر    وفاة الفنان العراقي عامر جهاد    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    تشيلسي يفرض التعادل على أستون فيلا في البريميرليج    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    حسام غالي: كوبر كان يقول لنا "الأهلي يفوز بالحكام ولو دربت ضدكم (هقطعكم)"    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    «الأزهر للفتاوى الإلكترونية»: دخول المواقع المعنية بصناعة الجريمة حرام    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    رئيس جامعة أسيوط يشارك اجتماع المجلس الأعلى للجامعات بالجامعة المصرية اليابانية للعلوم    شرايين الحياة إلى سيناء    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية ناقصة من تأليف البكباشي جمال عبد الناصر


شعبان يوسف
عندما تم للضباط الأحرار المصريين السيطرة علي سلطة البلاد في 23 يوليو 1952 وتبين للناس رويدا رويدا أن هؤلاء الضباط مثقفون وكتاب ومبدعون أيضا، ومنهم من جرب العمل الصحفي والترجمة والكتابة الأدبية، ومن أبرز هؤلاء كان ضابط المدرعات ثروت محمود عكاشة، الذي كان ينشر كتاباته وترجماته في مجلات عهد ما قبل الثورة، وأشهر سلسلة (قصص للجميع)، والتي نشر فيها رواية مترجمة تحت عنوان (آدم)، وبعد الثورة ترأس تحرير مجلة (التحرير) الناطقة باسم رجال ثورة يوليو، وكانت هذه المجلة علي وجه الخصوص مجالا خصبا لتدريب وتنمية أقلام هؤلاء الضباط. كان أيضا الضابط أنور السادات، أو البكباشي أنور السادات الذي كتب مذكراته في العام 1948 في مجلة المصور، وتحدث فيها عن فترة السجن التي قضاها محبوسا علي ذمة قضية أمين عثمان، وفي هذه المذكرات التي نشرناها في جريدة الدستور منذ بضعة أعوام، يتحدث السادات عن رفاقه، وعن سلوكياتهم، وعن علاقاته، وعن المسرحية التي قام بتمثيلها وبطولتها، حيث قام بدور (هارون الرشيد)، حيث إنه كان تواقا طوال الوقت للأدوار الأولي، في الحياة وفي التمثيل كذلك، وبعد قيام ثورة يوليو كانت كتابات كثيرة للسادات في مطبوعات عديدة، هذا عدا كتبه الكثيرة التي كتبها مثل: (قصة الثورة كاملة)، و(معني الاتحاد القومي)، الذي قيل أن يوسف إدريس هو من صاغه، وكتابه عن الوحدة العربية، وكتب أخري، وكان أيضا هناك أحمد حمروش وإسماعيل الحبروك، وصلاح نصر الذي كان له كتاب مترجم قبل الثورة، ومما لاشك فيه أن هؤلاء الذين ذكرناهم وغيرهم مثل خالد محيي الدين ويوسف صديق وحسين الشافعي وكمال الدين حسين، ينطوون علي مرجعيات ثقافية لا تنحصر في البعد العسكري، مثل عبدالحكيم عامر، الرجل الذي لم تكن الثقافة الأدبية ذات معني عنده، وهذا يتبدي من كتابات القريبين منه، وفي مذكرات فتحي رضوان عن جمال عبدالناصر، يذكر - مثلا - أن عبد الحكيم عامر لم يكن يعرف أن السيد المسيح مات في سن الثلاثين وأبدي دهشة شديدة من ذلك.
وإذا كان هؤلاء وغيرهم من الذين كانت قلوبهم معلقة بفكرة التحرير والتغيير والتدبير لانقلاب يوليو، هكذا أمرهم، فما بالنا بالقيادي الأول، والقائد الفعلي للثورة بمن فيهم محمد نجيب، أقصد الزعيم جمال عبدالناصر، وأقول انقلابا، لأن هذا ليس من اختراعي، ولكنه كان عنوان أول مقال للزعيم جمال عبدالناصر في العدد الثاني من مجلة التحرير الصادر في 1 أكتوبر عام 1952 أي بعد حدوث الانقلاب بشهرين وبضعة أيام، ونشر المقال دون توقيع جمال عبدالناصر، وكان عنوان المقال: (كيف دبرنا هذا الانقلاب)، وكتب المحرر مقدمة لهذا المقال يقول فيها : «إن الذين صنعوا تاريخ مصر الجديد ووثبوا بمصر هذه الوثبة المباركة يريدون أن يتواروا وراء ستار كثيف من السرية والكتمان والناس يريدون أن يعرفوهم، وأن يقرأوا عنهم، ولهم.. ولكنهم يأبون أن يخرجوا علي الحدود التي رسموها لأنفسهم.. أن تخلو الحركة من أي غرض، ومن أي دعاية، وهم يلزمون هذه الحدود في قسوة.. قسوة تضايق فضول الناس.. وفضول التاريخ.. لقد أرادت التحرير، أن تسجل قصة التحرير، من أحد أعلام التحرير، من واحد، ممن رسموا الخطوط الأولي في حركة التحرير، من واحد ممن وضعوا رءوسهم علي أكفهم في إصرار وطني عنيد، مقسمين إما إن ينتصروا، وإما أن ينتهوا، ولكن هذا الواحد، أصر علي أن يظل اسمه مختفيا، وراء الحدود السميكة التي رسمتها الحركة لنفسها، وحاولنا أن نقنع البطل المرموق.
ولكن البطل المرموق الذي انتصر علي الملك السابق، انتصر أيضا علي إرادة مجلة التحرير ! (علامة التعجب في الأصل وليست من عندي)، علي أنه انتصر هذه المرة بالإقناع، فما كان من (التحرير) إلا أن تحيي البطل المرموق في هذا الاتجاه السليم .. وتكتفي بأن تسجل قصة الحركة.. القصة الحقيقية - كما حدثت - تنشرها (التحرير) لأول مرة في تاريخ الحركة، وفيما يلي ما سجله البطل المرموق».
آثرت أن أثبت التقديم كاملا، لأنه التقديم الأول في تاريخ الصحافة المصرية لجمال عبدالناصر، ويبدو بالطبع الارتباك بين تقديم هذا البطل المجهول باعتباره مرموقا، مما يدفع الناس للبحث عن هذا المجهول بين المرموقين، ولكن هذا التجهيل لم يستمر طويلا، ولا أعرف لماذا تخلي عبدالناصر - سريعا - عن صفة إنكار الذات، لأن العدد الثاني مباشرة، والصادر في 15 أكتوبر، أفصحت المجلة عن هذا البطل المرموق، وجاء الفصل الثاني من المقالات: «كيف دبرنا الانقلاب» بهذا التقديم: «استطعنا أن نقنع أحد أبطال التحرير.. أحد الذين رسموا الخطوط الأولي في تلك الحركة أن يكتب قصتها.. قصة الكفاح الطويل الذي قام به أبطال مصر في سبيل مصر، ونشرنا لك الجزء الأول من هذه القصة الوطنية في العدد السابق، فتوالت علينا مئات الرسائل والبرقيات تسأل.. من البطل؟ الذي كافح ثم سجل قصة الكفاح..؟ إن من حقنا أن نعرف من هو ونقدم لك البطل الذي قام بنصيبه الوافر في حركة التحرير.. ثم كتب قصة التحرير إنه البكباشي أركان حرب جمال عبدالناصر».. وجاء اسم تعريف جمال عبدالناصر ببنط كبير، يختلف عن البنط السابق، وفوق هذه المقدمة صورة للزعيم جمال عبدالناصر منفردا، صورة تنم عن تواضع جم، وعزة واضحة، وثقة متناهية، ثقة تخلو من أي كبرياء، ولو خضعت هذه الصورة للدرس النفسي سوف تفصح عن أشياء كثيرة، وفي الصفحة المقابلة، صورة أخري للواء محمد نجيب، كتب تحتها: «محمد نجيب: مع أركان حرب الانقلاب»، وبجواره جمال عبدالناصر جالسا، بينما عبدالحكيم عامر وحسين الشافعي يقفان خلفهما، ويبدو في الصورة من الجلوس جمال وصلاح سالم وزكريا محيي ويوسف صديق - الذي حذفت صورته بعد ذلك من أي صور تضم مجلس قيادة الثورة.
أريد أن أنوه أن الشاعر كامل الشناوي كتب في العدد الثاني من مجلة التحرير، أي العدد الذي ينطوي علي المقال الأول لجمال عبدالناصر، مقالا عنوانه : «متي يعود الجيش إلي ثكناته؟» وجاء في مقدمة المقال: «ما أكثر الذين يتساءلون: متي يعود الجيش إلي ثكناته؟ متي يستريح من نضاله ؟ متي يهدأ؟ متي يغفو؟ فمنذ قامت ثورة الإصلاح وسلاحه مشهر في يده.. وبذلته العسكرية تستر جسده، ورأسه مثقل بالأفكار، وجبينه ملتهب تعبا.. وعيناه مفتوحتان»!
وبعد أن يتحدث الشناوي عن مراوحة الجيش بين المكوث في السلطة ومغادرتها ، وتنويهه عن قيادة الجيش قابعة في السلطة لحماية المنجزات، لأن الحاكمية والشرعية - كما كتب - يعيشون بأجسادهم في العهد الجديد، ويعيشون بأفكارهم ورؤوسهم في عهد قديم سحيق، ولذلك فالمشروعات تتكأكأ، وتتسكع، وأشار إلي أن الجيش لم يمكث هذه المدة إلا لحماية وإنجاز الأهداف التي جاء من أجلها، ولكن الشناوي يختم مقاله الذي كتبه بعد شهرين فقط من قيام الانقلاب قائلا : «لقد طال انتظار الجيش خارج الثكنات.. وكان يمكن أن يعود إلي ثكناته منذ اليوم الأول لو أننا عرفنا أهدافه وما أبسط هذه الأهداف !
إنها ليست إلا تطهير مرافقنا من الفساد بلا تفرقة ولا تمييز، وتحرير نفوسنا من الحقد والخوف والخنوع.. فهل كثير علينا أن نعيد الجيش إلي ثكناته؟ هل كثير علينا أن نحارب الفساد؟ هل كثير علينا ألا نحقد، ولا نخنع، ولا نخاف؟»، ويبدو أن الشناوي كان يضرب في تيه شعري بعيدا عن حركة الواقع، هو يريد أن يعيد الجيش إلي ثكناته، والجيش كان يثبت أقدامه بقوة في السلطة، وها هم أبطاله يحكون عن بطولات في التحرير والتدبير والتغيير، وهذه البطولات كانت حقيقية لكن سردها وطرحها بهذه القوة كان تمهيدا للاستمرار واستقرار الجيش في السلطة تحت دعاوي كثيرة، وارتباك الحياة السياسية والاجتماعية والحزبية - آنذاك - كان مؤهلا لكل هذه الارتبكات، وسط مناخ مشتبك بقوة مع بعضه، وهناك تناقضات تصل إلي حد العداء السافر بين الكتل السياسية المتعددة، وتفرق هذه القوي السياسية أعطي ذريعة عظمي وكبيرة لمجلس قيادة الثورة أن يجد مبررات بقائه، ومبررات امتلاكه وإدارته لشئون البلاد، مهما تطايرت تصريحات من هنا وهناك من بعض قيادات هذا المجلس تقول بأن الجيش سيعود إلي ثكناته، وظل الصراع قائماً بين بقاء الجيش في السلطة وبين السلطة المدنية حتي حسم فيما عرفناه تاريخياً بأزمة مارس 1954 وكانت الذرائع قد توحشت والمبررات اشتد عودها، وكانت السلطة العسكرية مهدت المناخ لقبولها.
وبعيداً عن كل هذا أود الإشارة إلي جمال عبدالناصر الذي قدمته المجلة هذا التقديم الفخم، وجاءت مقالاته تنم عن شخص مسكون بكل ميراث الوطنية المصرية، وما يشغلنا هنا هو الأسلوب السردي الجميل الذي كتبت به المذكرات أو المقالات.. هذا الأسلوب الذي يفصح عن رجل مثقف تتخلل مقالاته دراية وخبرة بفن الكتابة الأدبية. هذه الكتابة التي لم تأت من فراغ، وفي كثير من أحاديثه تحدث عن ثقافته وخص بالذكر الكاتب المسرحي توفيق الحكيم، وتأثره - أي جمال عبدالناصر - بروايته عودة الروح، ولم يكن من المستغرب أن يكون توفيق الحكيم هو أحد المثقفين والكتاب الذين اجتذبتهم السلطة السياسية بشكل قوي، وأجرت معه مجلة التحرير الناطقة بلسان مجلس قيادة الثورة حواراً في عددها الثاني، وقدسته بشكل يعني أنه من الآباء الروحيين للثورة، وسألته عن المعني الجديد للثورة خاصة أن الجيش هو الذي قام بها، فما كان من توفيق الحكيم إلا أن قدم تفسيرات جديدة تسوغ وجود الجيش في السلطة، ومن بين ما قال: «إننا لا نخاف علي الحركة ممن قاموا بها بل إنهم استطاعوا أن يحولوها من مجرد انقلاب عسكري محدود الهدف إلي انقلاب اجتماعي واسع المدي قد يغير معالم مصر، ويبرز شخصيتها الدفينة، ويثبت حيوية شعبها إلي ألف عام مقبلة».. هذا الكلام الذي تنازل عنه الحكيم فيما بعد في كتابه «عودة الوعي»، والجدير بالذكر أيضاً أن جمال عبدالناصر استثني توفيق الحكيم من قوائم التطهير التي كان قد أعدها إسماعيل القباني - آنذاك - وزير المعارف وكان توفيق الحكيم مدير دار الكتب، ولم يكن الحكيم يقوم بوظيفته كما يجب، وكان اسمه علي قوائم التطهير فحذفه جمال عبدالناصر وعندما تعرض توفيق الحكيم عام 1958 لانتقادات شديدة أعطاه جائزة كبري فسكتت الأقلام وجفت الصحف بعد ذلك، ولم يتطاول أي أحد علي توفيق الحكيم، لذلك كان توفيق الحكيم هو أحد المراجع الأدبية الكبري لجمال عبدالناصر، ودوماً كان عبدالناصر يستدل به، ويسترشد بآرائه، وفي روايته الوحيدة أو مقدمة روايته التي كتبها جمال عبدالناصر، وهو طالب في الثانوي كان بطل روايته هذه المعنونة ب«في سبيل الحرية» كان بطله اسمه محسن، تيمنا ببطل «عودة الروح» للحكيم، أو تأثراً به، وكانت هذه الرواية - في سبيل الحرية - تدور أحداثها حول معركة رشيد، التي انتصر فيها المصريون عام 1807 وقاوموا الإنجليز بضراوة، وأثبتت الأحداث أن المصريين قادرون علي الانتصار، وكانت عبارات جمال عبدالناصر الأدبية مدججة بحماس عال، وبوعي مبكر ثاقب وهناك شبه قوي بين أسلوبه في هذه الرواية، وبين مقالاته: «كيف دبرنا لهذا الانقلاب» ولأن هذه الرواية لم يكملها جمال عبدالناصر فقد أجرت وزارة الثقافة عام 1958 مسابقة لاستكمالها وتباري الأدباء والكتاب، وفاز بالمركز الأول كاتبان هما عبدالرحمن فهمي، عضو الجمعية الأدبية - آنذاك - وكتب رواية وصلت صفحاتها إلي خمسمائة صفحة، والكاتب الثاني هو عبدالرحيم عجاج، ورغم أن رواية عبدالرحمن فهمي أجمل وأكثر تمكناً إلا أن تكملة عبدالرحيم عجاج قررت علي المدارس الثانوية في العام 1970 - 1971 وبعد رحيل جمال عبدالناصر تم رفعها وحل مكانها كتاب: «ياولدي هذا عمك جمال» لأنور السادات، وكان هذا فعلاً مدهشاً، وغير لائق، أن يتم رفع نص جمال عبدالناصر، وهناك كاتب ثالث وهو فاروق حلمي، فاز بالمركز الثاني ونشر نصه في سلسلة اقرأ عام 1966 ولكن هذا النص لم ينل شهرة واسعة، وأظن أن النصوص الثلاثة التي استكملت ما بدأه جمال عبدالناصر، في طي النسيان الآن، وسنتناول هذه النصوص وطرق معالجتها في مقال لاحق إن شاء الله، وكيف رأي الكتاب الثلاثة التطور الدرامي للشخصيات التي وضعها جمال عبدالناصر، رغم أن ما كتبه عبدالناصر لا يرقي ليكون كتابة أدبية مبهرة، ولكن كونه كان رئيساً للجمهورية، جاءت هذه المسابقة التي أنشأها المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب، وبالتأكيد أن التكملات الثلاث، كانت أكثر رسوخاً مما كتبه عبدالناصر، هذا يعود لأن هؤلاء الكتاب محترفون، ويعرفون مهنة الأدب بشكل كبير.
مواقف عبدالناصر مع الثقافة والمثقفين كانت حادبة وعاطفة، والموقف الأبرز هنا هو استكمال نشر رواية «أولاد حارتنا» في جريدة الأهرام، عام 1959 وكانت تنشر مسلسلة ولاقت بضعة اعتراضات فما كان من عبدالناصر إلا أن يأمر باستمرار النشر، ومن المعروف أن عبدالناصر أشار بعدم المساس بالشاعر صلاح جاهين، والكتاب محمد عودة وخالد محمد خالد، وكتب خالد محمد خالد في مذكراته، أن عبدالناصر كان يقتني عشرات النسخ من كتبه، ويعيد توزيعها علي أصدقائه، ويكتب فتحي رضوان في كتابه: «72 شهراً مع عبدالناصر»، عن الجانب الثقافي عند جمال، ويكتب بالتفصيل عندما طلب منه أن يذهب إلي المسرح القومي لكي يشاهد مسرحيته «دموع إبليس»، وعندما شاهدها أبدي عدة ملاحظات عنها، وكانت «دموع إبليس» محل جدل وانتقادات - آنذاك - رغم أن فتحي رضوان كان في السلطة، وكان وزيراً مرموقاً، وأحد صناع القرار، ولا يفوتني هنا أن أنوه عن المقدمة التي كتبها جمال عبدالناصر لكتاب «هذه هي الصهيونية» عام ,1956 ورغم أن الكتاب يتحدث عن الصهيونية إلا أن عبدالناصر كان ينطلق من وعي ثاقب بفكرة «اعرف عدوك».. وكتب في المقدمة «وقد يري القارئ في بعض فصول هذا الكتاب ما لا يقره من الرأي أو من طريقة الخبر، ويجد بعض ذلك، يسوءه، فليتسع صدره لما يجد من ذلك، فإنما هو كتاب أنشأه أحد غلاة الصهيونيين «إسرائيل كوهين» يقص قصة الصهيونية من وجهة نظر صهيونية، مؤمناً بما قال، أو مدعياً ليخدع الرأي العام الدولي، فليصدق في بعض ما قال أو يكذب فيه كله، فليس يعنينا ما قاله إلا أن نعرف قصة الصهيونية كما رواها، رجل من أهلها ليكون لنا من العلم بها وعي جديد يعيننا فيما نستقبل من مراحل الكفاح.
هذه إطلالة سريعة علي شذرات من أفكار ومواقف وكتابات جمال عبدالناصر، ينقصها الكثير، ولن تستكمل إلا بتوغلنا في قراءة مستفيضة في بعض ما كتب، ولكن هذه الإشارات تنم عن زعيم كان مثقفاً، وجرب الكتابة الأدبية، وإن لم يستكمل ذلك، وكان يحترم من الكتاب من يحبهم، رغم ما جري لكتاب آخرين، لكننا سنواصل الكتابة عن روايته الوحيدة التي استكملها آخرون، وهذه الرواية التي طواها النسيان، رغم أنها تسجل فترة مجيدة من حياة المصريين، وتسجل انتصاراً مهيباً لهم ثم تجاوزه فيما بعد بفعل آخرين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.