سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    "ارتفع 140جنيه".. سعر الذهب بختام تعاملات الأمس    "فيتش" تغير نظرتها المستقبلية لتصنيف مصر الائتماني إلى إيجابية    إسكان البرلمان تعلن موعد تقديم طلبات التصالح في مخالفات البناء    شهيد وعدد من الإصابات جراء قصف شقة سكنية بحي الجنينة شرق رفح الفلسطينية    مفاجآت في تشكيل الأهلي المتوقع أمام الجونة    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    حار نهاراً معتدل ليلاً.. حالة الطقس اليوم على القاهرة والمحافظات    «صلت الفجر وقطعتها».. اعترافات مثيرة لقاتلة عجوز الفيوم من أجل سرقتها    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    آمال ماهر تغني بحضور 5000 مشاهد بأول حفلاتها بالسعودية    «من الأقل إلى الأكثر حظا».. توقعات الأبراج اليوم السبت 4 مايو 2024    فوبيا وأزمة نفسية.. هيثم نبيل يكشف سبب ابتعاده عن الغناء السنوات الماضية    وفاة الإذاعي أحمد أبو السعود رئيس شبكة الإذاعات الإقليمية الأسبق.. تعرف على موعد تشييع جثمانه    محمد سلماوي يوقع كتابه «الأعمال السردية الكاملة» في جناح مصر بمعرض أبو ظبي    المتحدة تنعى الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    التموين تشن حملات لضبط الأسعار في القليوبية    لندن تتوقع بدء عمليات ترحيل اللاجئين إلى رواندا في يوليو المقبل    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    بركات: شخصية زد لم تظهر أمام المقاولون.. ومعجب بهذا اللاعب    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    سيول وفيضانات تغمر ولاية أمريكية، ومسؤولون: الوضع "مهدد للحياة" (فيديو)    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    مراقبون: صحوات (اتحاد القبائل العربية) تشكيل مسلح يخرق الدستور    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    سيدات سلة الأهلي| فريدة وائل: حققنا كأس مصر عن جدارة    ملف يلا كورة.. اكتمال مجموعة مصر في باريس.. غيابات القطبين.. وتأزم موقف شيكابالا    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    تراجع سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    "والديه كلمة السر".. كشف لغز العثور على جثة شاب مدفونًا بجوار منزله بالبحيرة    مصرع طفلين إثر حادث دهس في طريق أوتوستراد حلوان    احتراق فدان قمح.. ونفوق 6 رؤوس ماشية بأسيوط    أمن القليوبية يضبط «القط» قاتل فتاة شبرا الخيمة    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    حسين هريدي ل«الشاهد»: الخلاف الأمريكي الإسرائيلي حول رفح متعلق بطريقة الاجتياح    شيرين عبد الوهاب : النهاردة أنا صوت الكويت    السودان وتشاد.. كيف عكرت الحرب صفو العلاقات بين الخرطوم ونجامينا؟ قراءة    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    تصريح دخول وأبشر .. تحذير من السعودية قبل موسم الحج 2024 | تفاصيل    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    حسام موافي يوجه نصائح للطلاب قبل امتحانات الثانوية العامة (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طه حسين والكتَّاب الواقعيون صفحة مجهولة من معاركه النقدية
نشر في الشروق الجديد يوم 22 - 10 - 2010

كل عام، وفى أكتوبر على وجه الخصوص، تتجدد ذكرى رحيل عميد الادب العربى بغير منازع وبالتالى يتجدد الجدل حوله وحول دوره وتتجدد مدائح المحبة وعرائض الاتهام المكررة والتى تقدر بالصيغ ذاتها والمضامين والافكار والحجج التى لا تصلح لتكون حججا بل هى محاولات للى أعناق الحقائق واستنطاق الاحداث بغير ما توحى أو تشى، وعلى رأس هذه الاتهامات اتهامه بالتعامل أو العمالة للصهيونية، وهذا لأنه رأس تحرير مجلة «الكاتب المصرى» التى صدرت عام 1945 بتمويل من عائلة هرارى اليهودية ويكتفى الاتهام لنسف أى كاتب أو مثقف أو مبدع من خارطة الثقافة لو تبنت التهمة، هذه التهمة التى ليس لها دليل سوى أن تمويل المجلة يهودى باعتبار أن اليهودى لابد أن يكون صهيونيا وهذا مخالف للحقيقة فاليهود شىء والصهيونية شىء آخر تماما وهذه حقيقة ناصعة تعد من البديهات ولا تحتاج منا إلى شرح وتأويل وتفسير، ولكن الغرض مرضى وأصحاب الغرض دوما يبحثون عن ادوار ليملأوا بها فراغات يشعرون بها أما الاتهام الآخر فيشغله بتجديد دعاوى تقول إن طه حسين كان يريد هدم الثقافة العربية ولأنه متزوج من مسيحية فرنسية، فهو لديه نزوع قوى نحو ذلك ويكفى قراءة كتابى «طه حسين.. الجريمة والادانة» لجابر رزق و«طه حسين حياته وفكره فى ميزان الإسلام» أما تهمة الصهيونية فقد تجددت بمقال كتبته د. عواطف عبدالرحمن فى جريدة الحياة ولا يوجد دليل مقنع بهذه التهمة، ومن المعروف أن المجلة على مدى اعدادها كرست لثقافة وابداع طليعيين ودشنت كتابا اصبحوا كبارا فيما بعد مثل لويس عوض، وسيد قطب ومحمد سعيد العريان وسهير القلماوى وعبدالقادر القط وغيرهم. هذا بالإضافة لكتاب كانوا راسخين مثل سلامة موسى ومحمود عزمى وحسن محمود ومحمد محمد الجواهرى ومحمد عبدالله عنان واستكتبت المجلة كتابا غربيين يكتبون مباشرة للمجلة مثل جان بول سارتر واندريه جيد وهذا فضلا عن المطبوعات التى كنت تصدر عن المؤسسة وأحدثت طفرة ثقافية وأدبية وفكرية مبهرة فى ذلك الوقت ولا توجد أدنى شبهة فى المادة المتشددة فى اعداد المجلة ومطبوعاتها تعنى بهذه التهمة الشائعة.
وعلى الجانب الآخر هناك منذ أن رحل طه حسين والكتابات فرطت ومدحت كثيرة أيضا بداية بكتاب «مع طه حسين» لسامى الكبالى الذى صدر فى نوفمبر 1973 اى بعد رحيله بأيام حيث رحل فى 26 أكتوبر 1973 وفى العام الثانى وفى ذكراه الأولى أكتوبر 1974 صدر كتاب «ذكرى طه حسين» لتلميذته النجيبة د. سهير القلماوى مرورا بسامح كريم ومصطفى عبدالغنى حتى كتاب «طه حسين والصهيونية» للكاتب الصحفى حلمى النمنم وهو مذكرة دفاع حارة من عاشق ومحب ومؤمن بأفكار طه حسين ودوره وإنجازه المهيب.
وطالما أن هذه القضايا قتلت بحثا، ولن توضع فيها نقطة النهاية هكذا هى المشاريع والقامات الضخمة تظل مثيرة للجدل والخلاف وهذا ما حدث مع محمد على رائد النهضة الحديثة ومع أحمد عرابى قائد أول ثورة تقف امام الطغاة ومع الشيخ محمد عبده ومع الزعيم جمال عبدالناصر ومع عباس محمود العقاد وسلامة موسى والقائمة تطول وتطول.
لذلك سأنأى عن هذه المناطق الشائكة ليس لأنها شائكة، بل لأنها تحتاج إلى قراءة تستغرق صفحات طوال وأنا لست مع نبرة العداء الايديولوجية التى ابداها العقائديون وايضا لست مع الذين رفعوا طه حسين إلى درجة النبوة ونزهوه عن أى خطأ أو نوازع إنسانية من الممكن أن تدفع به نحو الضعف الذى يوقعه فى مزالق شتى مثل الصمت عن قضايا سياسية حادة أو مثل معركته مع زكى مبارك والاطاحة به من الجامعة رغم كفاءة الاخير واحتياجه الشديد وهذا لمجرد اختلافات حادة بينهما واستخدم طه حسين سلطته وفصله من الجامعة أو بالأحرى لم يجدد له عمله وهناك مثل هذه الأمور الكثير، انتماؤه للاحرار الدستوريين ثم انقلابه عليهم وانضمامه للوفد وانقلابه عليه ثم استوزاره فى آخر حكومة للوفد عام 1951 كل هذه مواقع لابد أن تدفع الرجل إلى مواقف شتى وربما مختلفة وربما متناقضة، موقفه من قضية الشرق والغرب كانت تتشكل دوما بطرق ملتبسة حتى برزت فى اعلى صورها فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» هذه قضايا عولجت كثيرا وما زالت تحتاج إلى قرارات أعمق وبموضوعية وبدرجة عقلانية اكثر بعيدا عن أى تشنج.
أما ما أريد أن أطرقه هنا هو معركة طه حسين مع الكتاب الواقعيين الشباب الذين بدأت اقدامهم تدب بقوة على أرض الحياة الثقافية والابداعية وذلك بعد قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 واستطيع أن ارجح أن دور طه حسين الاعظم كان قد اكتمل بعد استفزازه واطلاقه شعار «التعليم كالماء والهواء» وبعد تركه للوزارة لا أظن أن طه حسين أنجز ادوارا أوا فكارا تقارن بما تخبره قبل ذلك لأنه كان قد أصبح سلطة دولة بالإضافة إلى سلطته الثقافية وهذه دوما موقعة يخرج منها المثقف خاسرا، فعندما يرتدى ثياب السلطة وينعم بها ويستمتع بأجهزتها يتحول إلى صفات تنأى به عن دوره السابق كمثقف وكناقد ومفكر وكاتب كبير ومهما حاول استعادة هذا الدور نجده ينأى عنه بدرجات تطول أو تقتصر وهذا ما حدث للدكتور طه!! وهو صاغ فى معركته مع الكتاب والشاعر والصحفى الشاب آنذاك عبدالرحمن الشرقاوى على صفحات المجلة المستقلة الغد فى اغسطس، سبتمبر 1953 وجاءت هذه الرسالة عقب تعذر لقاء الشرقاوى بطة حسين الذى سافر إلى أوروبا وكان هناك حوار دائر بينهما حول الادب الأمريكى، يتهم فيه طه حسين الكتاب الجدد بكراهيتهم لهذا الادب، وهنا يقف الشرقاوى موقفا مزدوجا بالاحترام من ناحية والغضب من ناحية أخرى ويبدأ رسالته ب (أرجو ألا تجد فى هذا الحديث ما يغضبك.. ولى رجاء: لئن اغضبك بعض هذا الحديث فلتذكر لنا انا والذين تسميهم الادباء الشبان فلتذكر لنا على الاقل اننا قدرناك دائما فأوفينا واننا لم نقسط فى موازيننا أحدا حتى نقسط طه حسين.
ويتضح من الاستهلال ان الشرقاوى وصحبه كان يقدر طه حسين عاليا ويقبله ويسثنيه وحده عن باقى الاساتذة ولذا كانت هذه الرسالة التى هى رسالة عتاب وتبكيت اكثر منها رسالة احتجاج وهجوم بعدما تعذرت سبل الحوار، وبعدما اعتصم طه حسين بقلعته الحصينة أو قلاعه المتعددة اولها السفر خارج البلاد.
ثانيا: ردوده الحادة والتى تتسم بقدر كبير من تسخيف الخصم وتجهيله ووصمه بعدم الحكمة وقلة المعرفة ولذلك نجد الشرقاوى يحاول أو يغمز ويلمز فيقول «اجل ياسيدى بقيت انت تخرج من كل معركة متوجا بالغار لتدخل معركة اخرى» ثم يقول ملوحا بالنعيم والتعالى الذى يعيش فيه العميد.
ثم يوجه له نداء بالعودة والنزول الى الناس ومناقشتهم عندما يكتب انك تستطيع ان تعود إلى مصر ففى مصر ينتظرك الكثير! فى مصر ينتظرك الملايين وينتظرك تاريخك نفسه وفى مصر ينتظرك المستقبل وينتظرك قومك فما اعتبك عن قومك يا طه؟! وبالطبع الشرقاوى لاينتظر اجابة ولكنه يجيب بتهكم «لقد ذهبت الى مؤتمر السلام المسيحى فهل تشغلك عن ذلك هذا؟ وتقريبا يريد الشرقاوى أن يقول له «انك تخليت عن دورك فعد» هل هذا ماكان يمثله العميد فعلا فى تلك المرحلة؟ مرحلة ما بعد الاستوزار وآن للفارس ان يستريح.
ربما، لكن الأمور لم تستقر، ولم يتوقف الحوار العنيف بينه وبين الجيل الجديد، الجيل الذى راح يحمل لواء الواقعية، الشباب الذين ظهرت إبداعاتهم وأفكارهم وأشكال تذوقهم بطرق عديدة، محمود العالم وعبدالعظيم أنيس ومحمد مندور وعلى الراعى فى النقد، وصلاح عبدالصبور ونجيب سرور وعبدالرحمن الشرقاوى فى الشعر والرواية، ومحمد صدقى ويوسف إدريس ومحمود السعدنى ومصطفى محمود وصلاح حافظ ومحمد أحمد فى القصة القصيرة، وزكريا الحجاوى وأحمد رشدى صالح وشوقى عبدالحكيم وفاروق خورشيد فى الأدب الشعبى.. وغيرهم كثيرون، جيش من الشباب بدأ يتنفس تحت سقف العهد الجديد، وانفتح لهم المجال، وانفتحت أبواب للنشر فى جرائد مثل المساء، ومجلات مثل الرسالة الجديدة والتحرير، بالإضافة إلى مطبوعات مستقلة ودور نشر خاصة، أزعم أن طه حسين وصحبه (العقاد والحكيم وآخرين) لم يستطيعوا استيعاب هذا الجيش الجرار، فراح العقاد يسمهم ويحرض عليهم عندما قال على عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم: (إننى لا أحاور همابل أقبض عليهما)، وكتب الحكيم سلسلة مقالات يهاجم فيها الواقعية، ثم ضمها فى كتاب فيما بعد أمحاه (أدب الحياة).. وانفرد طه حسين بردود حادة، وربما مهينة، ولكنها تنطوى على وجهة نظر تخصه وتخص جيله، إن الأذواق تختلف حقا، وهذه هى طبيعة التطور، وطبيعة الأشياء، وفى تلك الفترة حدثت المعركة الفيصل بينه وبين أنيس والعالم، عندما كتب سلسلة مقالات، ذات عناوين واضحة وجامحة مثل: (من «أجل ثقافة مصرية»، وفى الأدب الواقعى، و«من أجل أدب واقعى» كتب الدكتور طه حسين مقالا فى جريدة «الجمهورية» بتاريخ 5/21/1954، تحت عنوان «صورة الأدب ومادته»، ليس ردا مباشرا على ما كتبه أنيس والعالم، بل هو عرض لوجهة النظر الأخرى، ففيه يقدم الدكتور طه حسين النظرة النقدية السائدة، والتى تقوم على أساس أن «اللغة هى صورة الأدب، وأن المعانى هى مادته»..
وأضاف الدكتور عنصرا ثالثا فى الدراسة وهو ما سماه «عنصر الجمال».. وبالإضافة لمقال طه حسين، كتب العقاد فى أخبار اليوم، فانبرى أنيس والعالم بالرد عليهما فى جريدة «المصرى».. بثلاث مقالات: (الأدب بين الصياغة والمضمون، و(عبقرية العقاد)، و(حصار المعركة).. والأمر أيضال لا يختلف عما أثاره الشرقاوى، فهما يكنان تقديرا للأستاذ، ورغم الاختلاف، ورغم حدة الخطاب، ولكنهما يخاطبانه بصفة العميد.. يبدأ المقال ب(قضية أثارها عميد الأدب، ما كان لنا أن نحجم عن تحديد موقفنا، وهى قضية حمل أعباءها عميد الأدب وحواريوه من أدبائنا القدامى طوال ربع قرن من تاريخنا القومى الحديث، والقضية هى طبيعة العلاقة بين صورة الأدب ومادته أو بين صياغته ومضمونه، ونحب أن نقرر أولا أن ما تهتم به حركتنا النقدية من تغليب للجانب الاجتماعى، إنما يرجع إلى ما أشاعه هؤلاء الأدباء القدامى من فهم قاصر لهذه العلاقة بين صورة الأدب ومادته، وإلى ما يتميز به أدبهم من جمود وانفصال عن حركة الحياة، وإلى ما رسبوه فى وجداننا القومى من قواعد نقدية فجة لا تقضى بالإبداع الفنى إلا إلى أزقة مقفلة)، ويستطرد التعقيب أو الرد، ويقدم ما يشبه المانيفستو النقدى للحركة الأدبية الناهضة والفنية، وجاءت فى المقال مفاهيم تكاد تكون جديدة على الحركة الأدبية المصرية، ومما لم تتطرق إليه الأقلام، فاستشاط غضب العميد، فكتب ساخرا مقالا تحت عنوان: (يونانى فلا يقرأ).. وذلك فى جريدة الجمهورية بتاريخ 5/3/1954، وأراد فيه طه حسين تسخيف ما كتبه أنيس والعالم، وهذا الأمر جعل الناقدان الشابان بالرد عليه مرة أخرى بمقال بعنوان «حصاد المعركة»، وتدخلت فى المعركة أطراف أخرى، حتى بعد أن صدرت مقالات الناقدين الشابين فى كتاب عنوانه: «فى الثقافة المصرية» عن منشورات دار الفكر الجديد ببيروت، وكتب له مقدمة المفكر اللبنانى حسين مروة، وكان الكتاب بمثابة مانيفستو الحركة الجديدة، وظل هكذا حتى رحيل الناقدين، ورغم صدور الكتاب إلا أن طه حسين كتب مقالا فى مجلة «الرسالة الجديدة» تحت عنوان (واقعيون) ليسخر فيه مجددا من الحركة الواقعية، وكان المقال فى أبريل 1956، واستهله ب: (ولكنهم يفهمون مذهبهم على نحو مريح لا يكلفهم جهدا ولا عناء، وإنما يغريهم بالنقل والتسجيل وهم واعون وكان طه حسين يكتب فى تلك الفترة عن أعمال يوسف السباعى وثروت أباظة وغيرهم ممن يرى فيهم ذوقه، فكتب عن أعمال خمسة ليوسف السباعى وهى: (إنى راحلة، وطريق العودة، ورد قلبى، وليل له آخر، وأقوى من الزمن، ولا داعى لنقتبس عبارات المديح والتقريظ التى تطرز هذه المقالات الخمس، ويكفى أن يكتب عن «طريق العودة» التى نبذها جميع النقاد آنذاك فيقول: (قصة رائعة بأوسع معانى هذه الكلمة وأدقها، ويكتب عن «ليل له آخر»، يظهر أن يوسف السباعى قد أزمع أن يكون المؤرخ الحقيقى لعهد الثورة، كما يصنع كبار القاصين الغربيين بالنسبة إلى الأحداث الكبرى التى تحدث فى أوطانهم منذ ابتكر والتر سكوت أو كاد يبتكر هذا النوع من القصص التاريخى، أى أن طه حسين قد انحاز إلى كتابة أدبية تعبر عن ذوق قديم، وربما استهلاكى، لا ينتج سوى التسلية والاقناع الأجوف ولذا جاء مقاله «واقعيون»، الذى رد عليه فى الشهر التالى مباشرة الدكتور محمد مندور وبمقال عنوانه: «نحن واقعيون».. يدافع فيه عن اتجاه الواقعية قائلا: «إن الدعوة إلى الأدب الواقعى دعوة خيرة مخلصة، وهى أوجب ما تكون فى مرحلة حياتنا الحاضرة التى أخذنا نراجع فيها القيم وتكشف عن النقائص ومواضع الضعف، ونعمل جاهدين على أن نخفف من آلام الحياة لجمهرة هذا الشعب الصابر المضنى، واستمر السجال فكتب كما أسلفنا توفيق الحكيم، ونزل يوسف السباعى بهراوة ضخمة تمزق ظهور كل النقاد والجدد، وبالتالى كتب على الراعى فى مجلة الإذاعة.
وكتب أحمد رشدى صالح فى مجلة التحرير، واستمر وطيس المعركة حاميا لم تهدأ نيرانه، وفى تلك الفترة صدر كتاب عن «دار الفكر» يجمع عددا من القصص القصيرة، وكتب مقدمته طه حسين، وكتب دراسة نقدية عنه محمود أمين العالم، وضم أسماء شابة آنذاك مثل عبدالرحمن الشرقاوى ويوسف السباعى ومحمود السعدنى ومصطفى محمود، والذى لم تعجبه الطريقة التى عوملت بها القصص من قبل طه والعالم، فكتب مصطفى محمود فى صباح الخير (26 يناير 1956) مقالا تحت عنوان (مذبحة القلعة وأين يقف حق الناشر؟) شن فيه هجوما على طه حسين والعالم والناشر أيضا، كتب واصفا ما حدث للكتاب المشاركين فى الكتاب, وعقب أحمد بهاء الدين بمقال ينتصر فيه لمصطفى محمود فى العدد التالى وعقب الناشر لطف الله سليمان ومبرءا نفسه من أن يكون خدع مصطفى محمود وشركاءه فى الكتاب. وآخر فصل فى معركة الواقعية عندما كتب طه حسين مقدمة للمجموعة القصصية الثانية «جمهورية فرحات» ليوسف إدريس، والتى صدرت فى يناير 1956، وكان يوسف إدريس آنذاك قد خرج توا من السجن فى صفقة سياسية مع الدولة، لكى تستعين بهم فى مهمة عاجلة بالخرطوم، ويبدو أنهم احتضنوه بقوة فكلفوا طه حسين يكتب مقدمة له.. ،وكتب طه حسين المقدمة، وبذلك يكون قد أرضى السلطة، ولكنه أرضى ضميره أيضا فكتب ما لا يروق لإدريس ناصحا له: «أن يرفق باللغة الفصحى العربية ويبسط سلطانها شيئا ما على أشخاصه حين يقص كما يبسط سلطانها على نفسه..».
وصمت إدريس ولكنه عندما ضم مجموعتين «أرخص ليالى» و«جمهورية فرحات» فى كتاب واحد، أبقى مقدمة طه حسين، ولكنه جعلها مؤخرة فى نهاية الكتاب وقال فى مقدمته: «آثرت أن أضم لتلك المجموعة المقدمة المهمة التى تفضل أستاذنا الدكتور طه حسين وطلب منه عقب صدور أرخص ليالى أن يكتبها لجمهورية فرحات، إنها (بركة) من طه حسين مهما اختلفنا فى الرأى حولها لا أظننى أن أعيد طباعة المجموعة دون أن أشرفها بطبعها مع المقدمة، وهكذا يريد يوسف إدريس بهذه الجمل القصيرة أن يؤكد على ثلاثة أشياء، الأول أن طه حسين هو الذى طلب منه أن يكتب المقدمة، ثانيا، فإدريس يعلن اختلافه مع طه حسين حول ما جاء بالمقدمة، ثالثا فهو يصف المقدمة بأنها «بركة».. وهذا ساخرا، فضلا عن الإطاحة بالمقدمة من أول الكتاب إلى آخره، ولكن طه حسين لم يترك وجدان يوسف إدريس الذى يكن له كل التقدير والاحترام مع الاختلاف، فكتب مقالا عام 1988، أى بعد رحيل العميد بخمسة عشر عاما تحت عنوان: «أحفادك يا طه».. واصفا الحركة الدائبة والمبشرة فى معرض الكتاب، فيكتب: «يا أستاذنا طه حسين الذى قلت فى أعوام عجاف، أخشى أن تكون القاهرة قد فقدت دورها كعاصمة للثقافة، ألا تحس فى مرقدك العظيم الغريب بدبيب الآلاف والآلاف من القراء والمتعلمين» وهنا لا ينهى إدريس خلافات بابل هو يرممها، ويعيد لها بريقها، واحترامها.. وما حدث ويحدث دوما بين الأجيال من شد وجذب وخلافات تصل إلى حد تكسير العظام، ما هو إلا اختلاف أجيال وأذواق ومراحل، وهذا يحدث بين النفوس والقامات الحقيقية، بعيدا عن السفاسف التى لا يرجى منها سوى التحطيم والتعتيم، والاستقواء بالسلطة الحكومية على السلطة الثقافية، فعندما ينسى المسئول أنه ناقد، فله أن يفعل ما يريد، يمنع ويمنح ويقصى ويجذب براحته، وعليه أن يفرض ما يريد ومن يريد، ولكن لا يصح إلا الصحيح. رحم الله طه حسين الذى ما زال يثير الجدل، ويفجر طاقات فكرية فى علم المجهول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.