من الصعب أن تقابل مثل هذا الرجل مرتين في حياتك، خاصة إذا استمر ارتباطك به لأكثر من ربع قرن .. كان يحمل صفاته الخاصة والمهذبة في اسمه الثنائي مصطفي نبيل، ولا أعرف لماذا وجدت نفسي قبل اسبوعين من رحيله ولا أتصور أنه كان مريضا وجدت نفسي أشتاق إلي سماع صوته وعبر المحمول قلت له إنني فقط أريد أن أسمع صوته، وبنبله المعهود وبكل رقته قال:أعرف أعرف. الغريب جدًا أنه دون أن أعرف في اللحظات التي كان يحتضر فيها في مسكنه بمدينة أكتوبر خطر علي بالي، تدفق سيل ضخم من الذكريات علي طريقة لا وعي جيمس جويس ورفاقه، بمعني أن الذكريات تتدفق دون ترتيب زمني وتتعاظم، ولا تعرف لماذا في هذا الوقت بالذات تفكر في هذا الشخص.. دون غيره. مصطفي نبيل «1937 2011» هو واحد من صناع المجلات الثقافية في مصر في الربع الأخير من القرن العشرين، أو بالتحديد منذ عام 1983 وحتي 2005 فترة طويلة من الزمن، وقد تولي في هذه الفترة أيضا كلا من سلسلة رواياته «الهلال»، وكتاب «الهلال»، بالإضافة إلي ما يسمي في دار «الهلال» بكتب النشر، وعليه فإنه أضاف إلي المكتبة الثقافية العربية خلال فترة توليه هذا المنصب أكثر من ألف كتاب متنوع الاهتمام، ومتعدد الثقافة، ويشهد الله أن أغلبها كان عناوين متميزة. إذا كنت قارئا متابعا للمجلات الثقافية في هذه الفترة فلا شك أن اختيارات مصطفي نبيل قد لعبت دورا بارزا وواضحا في تشكيل عقلك ووجدانك، باعتبار أن هذه المطبوعات كانت ذات سمعة طيبة، وأضاف إليها مصطفي نبيل الكثير من الجدية والجدة. رغم أنه أول رئيس تحرير يأتي من خارج قبيلة المثقفين، فإنه أدار تلك المطبوعات بشكل أفضل بكثير مما كانت عليه، علي الأقل من زمن الدكتور حسين مؤنس ولا أريد أن أرفع من قيمة شخص علي آخر بالمقارنة، لكن لا شك أن استلام مصطفي نبيل لمنصبه في عام 1984 جاء بعد قضاء كمال النجمي في هذا المنصب لمدة عامين، وقد اعتمد رئيس التحرير الجديد سياسة سلفه في التنوع، وفي الاحتفاظ بالقطع الذي التزم به، وهو القطع نفسه لمجلة «المختار» أو «ريدر داجست» العالمية وأيضا مسألة التنوع به، فلم يقم مصطفي نبيل بعمل أي تغيرات حادة في المجلة، وأذكر أنه استعان بكمال النجمي ليعمل مستشارا للمجلة حتي رحيل هذا الأخير وكان أستاذا بمعني الكلمة. العربي والهلال أما الأمر الثاني الذي ساعد مصطفي نبيل، فهو عمله في مجلة العربي الكويتية لمدة سبع سنوات، تحت ريادة أحمد بهاء الدين وفي حضور فهمي هويدي.. ولا شك أن في هذا التواجد تحت سماء بهاء الدين سواء أثناء مرحلة العمل معه في مجلة العربي، أو قبل ذلك بفترة طويلة. وقد بدا هذا التأثر واضحا في تعامل مصطفي نبيل مع مجلة «الهلال»، حيث كان حريصا دوما علي نشر قصة قصيرة واحدة وقصيدة واحدة في كل عدد باعتبار أننا أمام مجلة ثقافية متنوعة وليست مجلة أدبية، وقد ظل هذا التقليد حتي العدد الأخير الصادر في يونية 2005 من الأعداد الكثيرة التي أصدرها مصطفي نبيل، علي نحو آخر كان اكثر اهتماما بالمقالات الفكرية وبسير العظماء وتجاربهم في سلاسل متتابعة من المقالات، إلا أن رئيس تحرير مجلة «الهلال» كان يختلف كثيرا عن المحرر الذي يعمل في مجلة العربي فنادرا ما أصدرت هذه المجلة عددا خاصا طوال عمرها الذي تجاوز نصف القرن، أما مجلة «الهلال» فقد تميزت من خلال أعدادها الخاصة التي حرص كل رؤساء التحرير السابقين علي اصدارها أيا كانت أفكارهم وسياستهم وقد مال مصطفي نبيل أن يمزج بين التجربتين معا بأن يكون هناك جزء خاص عن موضوع بعينه مقابل ثبات الأبواب في مكان آخر ومقالات متجددة تأتي من كتاب المجلة. وقد كانت هذه سمة متميزة في السنوات الأولي حيث كان هذا الجزء الخاص متنوعا ويعبر عن الأحداث الجارية، وقد أصدر فيما بعد ثلاثة أعداد بمثابة الأعداد السوبر: «واحدا عن مائة سنة سينما» و«مائة سنة من الهلال » و«50سنة من ثورة يوليو» وقد ساهمت بشكل قوي في العددين الأولين، أما العدد الثالث فقد صدر بعد أن كنت خارج المجلة وقد كان حريصا علي كتّاب بأعينهم ليكتبوا المقالات ويري أنهم الأفضل في مجالاتهم حيث كان يري أن مصطفي درويش هو أهم من يكتب في النقد السينمائي، وكان إذا سعي أحدهم للتعامل مع الهلال كانت لديه وسائله للإبقاء فقط علي ناقده المفضل كما كان حريصا علي أن يكتب في المجلة كتاب بارزون من أمثال فتحي رضوان والدكتور شكري عياد والدكتور مصطفي سويف، وقد ظلوا يكتبون في الهلال حتي المقال الأخير في حياة كل منهم، وكان أهم ما نشر في المجلة طوال أكثر من عشر سنوات هو «سنوات التكوين» وأيضا باب عن الإبداع الأول في حياة الكتاب المشهورين وقد أصدر عددا خاصا عن نجيب محفوظ بمناسبة حصوله علي جائزة نوبل وقد ذهب مصطفي نبيل بنفسه إلي الكاتب وأخذ منه تصريحا بتجميع العديد من القصص القصيرة المنشورة في مجموعاته القصصية وأعاد إصدارها في سلسلة روايات الهلال تحت عنوان «أهل الهوي» ولا أعتقد أن الكتاب قد حقق مبيعات مأمولة. صداقة كانت مجلة الهلال هي شاغله وأشهد أن علاقاته الإنسانية كانت متسعة خاصة وسط المثقفين وقد كان العديد من الروائيين والمثقفين علي علاقة صداقة قوية ببهاء طاهر وجمال الغيطاني ويوسف القعيد بالإضافة إلي ارتباطه القوي بأحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل، والحق أنه كان يحظي باحترام ملحوظ من الكثيرين، وكان خصما خاصا لوزارة الثقافة وسياستها وقد ضمته الوزارة إلي إحدي لجانها، فلم يحضر اجتماعا واحدا في هذه اللجنة، وقد قام بإضافة أبواب ثابتة كانت اعمارها قصيرة العمر مثل باب «من الهلال إلي الهلال» وهو بمثابة متابعات ثقافية لما تشهده الساحة وقد بدأ الباب في أول ظهور له في حوالي 43 صفحة ثم تقلص بشكل ملحوظ بعد أشهر قليلة إلي أربع صفحات، ومن الأبواب الأخري «العالم في سطور»، «العالم غدا» وأذكر أنه كان مهتما كثيرا بالمقالات العلمية فاستكتب الدكتور عبدالمحسن صالح، ثم الدكتور محمد فتحي وفيما بعد اكتشف أن هذا النوع من الكتابة قد فقد فرسانه بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة من علاقته بالمجلة، تحولت الهلال إلي مجلة أكثر ارتباطا بالماضي وكنت قد لاحظت شيئا طريفا في عمر هذه المجلة أنها منذ نشأتها عام 1892 إلي عام 1960 كانت المجلة مرتبطة بشكل قوي بالمستقبل، وابتداء من المرحلة الاشتراكية عاشت المجلة مغمورة في الواقع، أما في الثمانينات ولفترة طويلة صارت الهلال مجلة أقرب إلي تاريخ الماضي حتي تكاد تشعر أنها تعيش في القرن التاسع عشر، وقد رأي مصطفي نبيل دوما أن مصر تفتقد إلي مجلة تاريخية شعبية ثقافية علي غرار المجلة الفرنسية Historia وما لبث أن حول مجلة الهلال من مجلة مصنوعة علي غرار «رايدر دايجست» إلي مجلة «هيستوريا» علي الطراز المصري، ولعله في ذلك أحس بمدي ما لدي الناس من حنين نحو الماضي واستكتب في ذلك العديد من المؤرخين ومنهم الدكتور عاصم الدسوقي والدكتور رؤوف عباس وغيرهما وقد كانوا إضافة مهمة للمجلة. سوف يحسب ل«مصطفي نبيل» دوره في تطوير روايات الهلال وخاصة ابتداء من عام 1986 بعد أن أصدر قراره أن أتولي سكرتير تحرير الرواية كانت السلسلة قد وصلت إلي حد من الاستهانة بالقارئ أن نشرت الكثير من الأعمال مختصرة خاصة الروايات العلمية، وفي فترتي صالح جودت وحسين مؤنس وفي العامين الأولين من توليه السلسلة، كان يعيد نشر روايات مختصرة ل«ألكسندر ديماس» وروايات عن «زورو» واستعان بالمترجمين الذين تعمدوا اختصار الروايات وقد اقترحت عليه أن نقوم بتقديم الروايات العالمية المعاصرة جدا وتقديمها كاملة إلي القارئ، دون حذف العبارات أو الفصول وكانت الرواية الأولي من اختياره وهي رواية «أكلة الموتي» التي كتبها مايكل كرايتون عن رحلة «ابن فضلان» والتي نشرت عام 1986 في روايات الهلال وهي الرواية التي تحولت إلي فيلم أمريكي باسم «المحارب الثالث عشر» بطولة أنطونيو بانديراس وعمر الشريف عام 1999 . كان حريصا علي تنفيذ الاقتراح فكان يطلب من زملائه خارج مصر احضار الروايات الحديثة الأكثر مبيعا في الغرب، وكنا ندفع بالرواية إلي مترجم من الذين تتعامل معهم السلسلة لترجمتها «كاملة» مثل رواية «امبراطورية الشمس» تأليف «ج.ج.بالارو» التي تحولت فيما بعد إلي فيلم من إخراج «سيبلبرج». نوبل وصار من تقليد روايات الهلال أن تترجم رواية للكاتب الفائز بجائزة نوبل عقب إعلان اسمه بشهر أو اثنين علي أكثر تقدير وكان «كمال النجمي» قد بدأ هذا التفكير من خلال رواية ترجمتها باسم «آلهة الذباب» ل«ويليام جولدنج» قبل أن التحق بالمؤسسة ومن هذه الروايات ترجمت رواية «المفسرون» ل«وول سونيكا» و«الريح» ل«كلود سيمون» ورواية «عائلة باسكوالي ديوراته» «لخوسيه ثيلا» و«ابنة برج» ل«نادين جورديمر»، بل إن السلسلة نشرت رواية «منعطف النهر» ل«نايبول» وكتب في المقدمة أن هذا الكاتب سيفوز فيما بعد بجائزة نوبل، وقد ترجمت روايات عديدة حاصلة علي جوائز عالمية لباتريك موديانو وسيلفي جيرمان، كما ترجمت أهم روايات تلك الفترة كاملة منها «إنسان» للإيطالية أوريانا فلاتشي، «1934» لألبرتو مورافيا، «الطبالة الصغيرة» لجون لوكاريه، وثلاث روايات بالغة الروعة لجون فاولس وعشرات الروايات الأخري ولا أعرف كيف كانت ستصبح عليه أرفف الروايات المترجمة في المكتبة المصرية في حالة عدم صدور كل هذه الترجمات. من ناحية أخري آمن مصطفي نبيل بأن يكون الإصدار الشهري لروايات الهلال بمثابة نشر رواية لكاتب مصري بالتبادل مع رواية عالمية حديثة وقد خالفته الرأي كثيرا في أن هناك أكثر من مكان لنشر هذه الروايات لكن السلسلة الوحيدة التي لها رسالة في تقديم الأدب العالمي هي روايات الهلال، ولاشك أن موقفه قد أثري السلسلة بروايات كل من صنع الله إبراهيم وبهاء طاهر ومحمد المنسي قنديل وجميل عطية إبراهيم ويوسف القعيد ويوسف أبو رية ورضوي عاشور وسلوي بكر وجمال الغيطاني وغيرهم، وقد صدرت لكل منهم أكثر من رواية وبدا بعضهم كأنه لا يكتب إلا كي ينشر في السلسلة وقد نجحت السلسة كثيرا من روايات أسماء أخري اخشي أن انساها لكثرتها وأهميتها ومنهم محمد البساطي وإبراهيم عبدالمجيد ومحمد ناجي وأحمد الشيخ. سوف تظل هذه الفترة هي الأكثر خصوبة في الحياة الثقافية المعاصرة وقد ينسي الناس اسم مصطفي نبيل بعد فترة لكن لاشك أن الباحثين الذين سيدرسون المجلة والرواية في هذه الفترة سيعيدون الرونق لاسم رئيس التحرير الذي كان يحمل الكثير من اسمه مصطفي نبيل.