لم يكن افتتاح قناة السويس فى عام 1869 مجرد حدث عادى بل كان حدثاً استثنائيا فى التاريخ صاحبه العديد من القصص الغريبة والطريفة والمأساوية أيضاً، بل كان هذا الحدث شاهدا على العصر لفترة من أهم فترات مصر فى العصر الحديث. التقط كل هذه الأحداث المصور الفرنسى «إدوار ريو» وكان من أشهر رسامى فرنسا بل والعالم فى هذا الوقت وكان يستعين به كبار الكتاب ليزود كتبهم برسومه المهمة والمعبرة، وقد حضر ريو حفل افتتاح قناة السويس مع الصحفيين المدعوين، وقام برسم كل الأحداث من رؤية عينيه لتكون خير شاهد على الحفل الأسطورى الذى فاق تصور كل ملوك وأمراء العالم الذين حضروه، بل وقد رسم أيضاً بعض الشخصيات التى حضرت الحفل مثل الإمبراطورة أوجينى، وديليسبس والخديو إسماعيل بالطبع وغيرهم من الشخصيات المهمة، ليخرج لنا صوراً تكاد تكون ملتقطة بعدسة كاميرا حساسة، صوراً فى غاية الروعة والجمال تظل بالفعل شاهداً على هذا الحدث المهم، يبقى أن نذكر أن أعمال ريو كانت تتميز دائماً بتصوير مشاهد الطبيعة ورحلات الصيد، كما شارك بلوحاته الفنية فى المجلات والجرائد الشهيرة التى صدرت فى القرن التاسع عشر، مثل: العالم المصور والوقائع المصرية، وأخبار لندن المصورة، كما قام ريو برسم المشاهد والشخصيات فى روايات مشاهير الأدب فى زمانه فصدرت أعمالهم الروائية محلاة برسوماته، وهو ما نجده فى عديد من أعمال: جول فيرن، الكسندر ديماس، فيكتور هوجو، وهذه اللوحات عن قناة السويس رسمها ريو لتصاحب كتاب فونتان ماريوس: رحلة عبر قناة، وهو الكتاب الذى نشر بباريس أواخر القرن التاسع عشر.هذه الصور التى اهتم بها مركز الخطوط بمكتبة الإسكندرية وجمعها فى اسطوانتين حفظت فى أرشيف المكتبة كوثيقة مهمة وشاهد على حدث افتتاح قناة السويس. وصف الافتتاح كانت أهم أحداث حفل الافتتاح التى سجلها ريو هو حضور الإمبراطورة أوجينى زوجة نابليون الثالث وكانت أول من حضر لرؤية الحفل من الملوك والملكات، حيث أتت قبل الحفل بثلاثة أسابيع لتشاهد معالم مصر وكان لموكبها فى النيل، وهى صاعدة نحو الأقصر مشهد حافل، ذكره الشاعر حافظ إبراهيم بعد ذلك بأربعين سنة، وكانت أوجينى قد عزلت وقسا عليها الزمان، وألمت بمصر وحيدة وقد أحنى الدهر ظهرها، لتدفئ شيخوختها بشعاع من شمس مصر، ورآها الشاعر فرق لحالها وقال قصيدة يسترجع بها أيام العز الذى كان ويتحسر على صروف الزمان. ثم أقبل فرانسوا جوزيف ثم ولى عهد بروسيا ونفر آخر من الأمراء والنبلاء والسياسيين والصحفيين، وعند مدخل القناة أقاموا 3 منصات رائعة مكسوة بالحرير والمخمل، واحدة فى الوسط لكبار الضيوف والملوك وحواشيهم، وواحدة لعلماء المسلمين يتقدمهم شيخ الجامع الأزهر، وواحدة للقساوسة يتقدمهم الرسول البابوى، وأقيم على الشاطئين مظلات لكبار المدعوين والمتفرجين، واختصوا مؤسس شركة القناة بواحدة، والصحفيين بواحدة، ونصبوا فيها الموائد، فكان من ظرف أحد الصحفيين الأجانب أن قال بعد أن ملأ بطنه بالطعام: «الآن أكلت ثروة ثلاثين فلاحاً» وقد تكونت الموائد من سمك ولحوم بقرية مشوية على الطريقة الإنجليزية على قاعدة جيلاتينية من مدينة بيريجيه، ولحوم خنزير مملح مزخرف بلحوم صيد، وطيور لحم على الطريقة دورساى، ولسان بقر مسلوق بالبخار على الطريقة الإنجليزية، ومهلبية لحم أو سمك من مدينة نيراك، ومهلبية سمان وفيليه الثور على طريقة الإمبراطور، وسلطة جمبرى بالجرجير اسبارج إيطالى بالزيت، وفخذ ظبى بطريقة سان هنتار، وديك رومى مضاف إليه رفت الرعد، طائر فاسينوس بالجرجير، طير محشى سمان، والحلو بسكويت مزخرف من إقليم سافرا نابوليتان وجيلاتى وبودنج بالبسكويت والكريمة ومثلجات. ومن بورسعيد أخذ ركب السفن يتهادى تتقدمه السفينة «لايجل» أى النسر، وعلى ظهرها أوجينى إلى جانيها الخديو إسماعيل ووقف إلى جانبه ولى عهده محمد توفيق والسير هنرى اليوت سفير بريطانيا فى الآستانة، ممثلاً لخليفة آل عثمان. وفى محاذاة المنصات الثلاث الرائعة وقف الركب، ونزل اسماعيل والنشيد الوطنى الفرنسى يعزف ثم نزلت أوجينى متكئة على ذراع فرانسوا جوزيف، ومن خلفها سار فردينان دى ليسبس فمجلس إدارة الشركة فالأمير عبد القادر الجزائرى، ثم بقية الناس، وفى صباح 20 نوفمبر 1869 وصل الركب إلى السويس وتم افتتاح القناة. دكتوراه فرنسية ولم يكن ريوهو الوحيد الفرنسى الوحيد المهتم بقناة السويس فقد ظلت قناة السويس محل اهتمام الكتاب والباحثين وخاصة فى فرنسا، وفى كل المجالات ليس فقط على المستوى الاجتماعى ولكن على مستوى التقنيات العلمية والابتكار وهو ما جعل الباحثة الفرنسية المعاصرة «نتالى مونتل» تقدم رسالة الدكتوراه الخاصة بها فى فرنسا عن قناة السويس، والتى نالت عنها جائزة جان إدوار جوبى من الأكاديمية الفرنسية ثم قامت بتحويل الرسالة إلى كتاب «ورشة حفر قناة السويس» والذى ترجمه الدكتور عباس أبو غزالة وصدرت الترجمة عام 2005 وقد تناولت الباحثة فى الكتاب حقبة السنوات العشر التى استغرقتها عملية حفر قناة السويس أى منذ بداية أول ضربة فأس لفلاح مصرى حتى إقامة حفل الافتتاح الذى دعا إليه الخديو إسماعيل ملوك وأمراء العالم، وتتجلى خصوصية البحث فى اعتماده أساساً على وثائق تاريخ حفر القناة ذات الدور المهم فى الذاكرة المعاصرة، وقد ركزت المؤلفة فى رسالتها على «تأريخ التقنية» كما ينظر الكتاب إلى مشروع حفر قناة السويس فى إطارين: الإطار المصرى ثم الإطار الأوسع وهو تاريخ الإنجاز الإنسانى وخاصة مجال تطبيق التقنيات فى مجال الأشغال العامة أى تجريب التكنولوجيا، وهذا المنظور الجديد للتعامل مع تجربة حفر قناة السويس لا يناقش مجرد الأهمية التاريخية لهذا المشروع العملاق بالنسبة لمصر لكن يضعه فى سلسلة تطور الحداثة الإنسانية غير غافل عن البعد المصرى، كما يضع حتى وإن لم يكن متخصصاً فى سياق التفكير فى عوامل نجاح أو فشل عملية البناء، علاوة على الإجابة عن سؤال كيف ساهم مشروع حفر قناة السويس فى تحديث التقنية وتطوير نظريات العلم على ضوء التطبيق، ليس هذا فقط بل لم تعتمد الباحثة على الكتابة التاريخية المباشرة بغية الوصول إلى أقصى درجة من وضوح الرؤية فقد اعتمدت على التقارير والمراسلات والرسومات والأوامر الوظيفية التى حفظت فى دار الوثائق الوطنية الفرنسية والتى تشغل حجماً من الأرفف يصل إلى 1600 متر هذا إلى جانب دور المحفوظات ومكتبات مدارس المهندسين والمؤسسات العلمية والفنية الفرنسية، فقد استهدفت الباحثة تاريخ الخبرات الفعلية بحسب قولها، وتحكى الباحثة أن أولى الصعوبات التى واجهت الحفر هى توفير المياه العذبة الضرورية للحياة فى صحراء قاسية والحلول مرت بماكينات تعمل بالبخار لتحلية المياه أو تعاقد مع أنفار لتوريد مياه النيل الحلوة بقوارب عبر بحيرة المنزلة أو من الإسكندرية لكن المعضلة الكبرى كانت الأيدى العاملة، وبناء على فرمان الخديو كانت السخرة هى النظام المعمول به فى مصر فكانت أعداد ضخمة من الفلاحين تسخر فى صيانة شبكات الرى وتطهير القنوات وإقامة السدود، فكانت السخرة وسيلة استجلاب العمالة المصرية بمعدل عشرة آلاف عامل كل شهر إلى العمل ووصل الرقم إلى 25 ألفا بعد عام 1861 فكانت رءوس العمل فرنسية وقاعدة العمل المسخرة مصرية. فكانت الحياة فى ورشة العمل نوعين حياة محدثة بالمطاعم والمخابز ومحلات بيع المشروبات والمغاسل والمقاهى وحتى البارات للصفوة الأجنبية وجزارات وورش خياطة وصالونات حلاقة وحمامات للخواجات، وحياة أخرى بائسة لعمال السخرة من عشش قماش وجفاف وقهر ومذلة، وكانت النشرة الصحية للأمراض الأكثر انتشاراً كانت هى التهاب الكبد والدوسنتاريا والرمد وأوجاع المعدة لكن كل ذلك يهون إلى جانب الكوليرا التى ظهرت فى مايو 1865 وانتشرت فى السويس مع وصول الحجاج. العمال المتخصصون الأعلى شأناً لم يكونوا مصريين.. البناءون.. النجارون.. الحدادون.. الميكانيكيون.. كانوا من إيطاليا وشبه جزيرة الأردياتيك، وكان إنشاء دور العبادة إحدى الوسائل التى لجأت لها الإدارة لحفظ النظام وتجنب أو تخفيف العنف والمشاجرات، فقد كان هناك إدارة صحية وإدارة سكن وإدارة دينية بنت مساجد وكنائس، كما أدخلت إدارة للأمن، وقد لعب حفر قناة السويس دوراً فى تجديد نشاط التقنية الفرنسية خاصة فى مجال آلات الحفر والرفع بمجرد الإعلان عن انطلاق العمل لوحظ فى فرنسا نشاط المخترعين الذين بدأوا فى دراسة الوسائل الاقتصادية لاستخراج ونقل ناتج الحفر والجرف ونقل الأتربة والوسائل الميكانيكية عامة. ويقدم الكتاب رصداً تفصيلياً لأنواع الآلات وتركيباتها وما تقوم به سواء المحركات أو الصنادل أو الرافعات حتى يصل إلى نوعية التحديث التقنى المتكامل والمساعد على الإنجاز وهذا الجزء من العمل، علاوة على الجزء الذى يناقش علاقة تطور تكوين المهندس الفرنسى وخبراته ومدى استفادته من المحك العملى لمشروع حفر قناة السويس ورصد العلاقة بين المعرفة العلمية النظرية وتطبيقات الواقع، هذا الجزء يشكل العصب الأساسى للكتاب لأن فى إطاره تدخل أفرع هندسية عديدة استفادت وتعلمت وطورت خبراتها فى ورشة حفر القناة. وتقول الباحثة إن ورشة حفر قناة السويس كانت مسرحًا للثقافة التقنية الإدارية ومركزًا للابتكار لمواد ومعملًا لدراسة ممارسات العاملين، كل هذا قد تم على خلفية مصرية فيها خديو ضعيف وشعب مكوى بالشقاء. قناة السويس.. رحلة الملوك كما قام المؤرخ والمترجم الدكتور عباس أبو غزالة بإصدار ترجمة لكتاب «افتتاح قناة السويس.. رحلة الملوك» بمناسبة مرور 145 سنة على افتتاح قناة السويس، ويحكى فيه حكاية التنافس بين الخديو إسماعيل وفردينان ديليسبس. صدر كتاب «افتتاح قناة السويس – رحلة الملوك» باللغة الفرنسية فى طبعة فاخرة عام 1869 وصدرت الترجمة عام 2010 عن المركز القومى للترجمة ويتضمن الكتاب 40 لوحة مائية رسمها الفنان « إدوار ريو» لاحتفالات افتتاح قناة السويس. وهو الكتاب الذى أهداه الخديو إسماعيل إلى الملوك والسفراء وغيرهم من كبار شخصيات أوروبا تخليدا لجهود مصر من أجل وصل البحر الأبيض بالأحمر. وتوجد نسخة من هذا الكتاب الفخم بين الكتب النادرة فى مكتبة الإسكندرية.