مسلسل «سراى عابدين» هو نموذج صارخ للاستسهال الذى يعانى منه بعض كتاب الدراما، لأن صناع المسلسل لجئوا إلى اقتباس عملهم من بعض المسلسلات التركية مثل «حريم السلطان» بدلا من أن يجهدوا أنفسهم قليلا فى قراءة كتب التاريخ أو حتى البحث على الإنترنت.
المسلسل الذى يعج بقصص الحب التى لا أساس لها من الصحة يتجاهل واحدة من أشهر قصص الحب وأكثرها درامية فى التاريخ، وهى دراما الحب التى جمعت بين الخديو إسماعيل وإمبراطورة فرنسا أوجينى دى مونتيجو، أو مونتيخو، وبين أوجينى وفرديناند ديليسبس من ناحية ثانية، وبين أوجينى وزوجها الإمبراطور نابليون الثالث من ناحية أخرى.
أوجينى إسبانية الأصل كانت واحدة من أجمل نساء عصرها وأكثرهن ثقافة وصاحبة طموح ونشاط سياسى لا يهدأ، عشقها معظم رجال عصرها وأكثرهم نفوذا كان نابليون الثالث الذى تزوجها فى حفل أسطورى عام 1853 وكان عمرها 27 عاما، مع ذلك فقد كان حب الامبراطور لأوجينى من طرف واحد لأن المرأة كانت تعشق شخصا آخر هو ديليسبس، صاحب مشروع شق قناة السويس. قصة حب أوجينى وديليسبس كانت محورا لكتب ودراسات تاريخية كثيرة كما كانت محورا لعدة أفلام أقدمها وأشهرها فيلم أمريكى بعنوان «السويس» من انتاج عام 1938 وبطولة النجمين تيرون باور فى دور ديليسبس ولوريتا يونج فى دور أوجينى.
الطرف الرابع والأصغر فى حكاية الحب كان الخديو إسماعيل، الذى وقع فى حب الامبراطورة، خلال إحدى زياراته إلى باريس. يومها سيطرت عليه فكرة تحويل مصر إلى قطعة من فرنسا.
كان حب إسماعيل لأوجينى تعبيرا عن نفوره من الحرملك والجوارى والوضع المزرى لنساء مصر، وعن رغبته فى تغيير هذا الوضع، وهو ما سعى إليه بطرق شتى، مثل تعليم البنات، ومحاربته لتجارة الرقيق، وكانت أقصى جائزة يطمح إليها هى نيل إعجاب وانبهار الامبراطورة الساحرة!
هذه اللحظة الكبرى جاءت مع افتتاح قناة السويس فى السادس عشر من نوفمبر 1869، وهى اللحظة التى أنفق إسماعيل حياته، وأموال مصر، من أجلها.
لم يكتف إسماعيل باهدار الملايين على مشروع القناة وحفل افتتاحها الذى دعا إليه آلاف المدعوين من أنحاء العالم. لكنه شق بجانب القناة أول خط للسكك الحديد فى مصر، ودعا واحدا من أشهر موسيقيى عصره، الإيطالى فيردى، لتأليف أوبرا يعبر من خلالها عن حبه لأوجينى، كما قام ببناء قصر كامل لإقامتها وسط النيل، وهو قصر «الجزيرة» الذى تحول فيما بعد إلى فندق «ماريوت»، وكذلك بتطوير استراحته المجاورة للأهرامات، لترتاح فيها خلال زيارتها لآثار الجيزة، وهى الاستراحة التى تحولت فيما بعد إلى فندق «مينا هاوس».. بالإضافة إلى رصف الطريق المؤدى إلى الأهرامات الذى أصبح شارع الهرم فيما بعد.. حتى إن الشائعات تقول إن الخديو أمر بوجود منحنى حاد على الطريق، لا ضرورة له سوى أن تقع الامبراطورة بين أحضانه عندما تمر العربة التى تجرها الخيول!
لكن شبه المؤكد أيضا أن علاقة إسماعيل بأوجينى لم تتجاوز الحب العذرى، فمن ناحية كان برنامج زيارة الامبراطورة لمصر حافلا ومشغولا جدا بدرجة لا تسمح لهما بالاختلاء، كما أن أوجينى نفسها، رغم قوة شخصيتها واختلاطها الدائم بالرجال، كانت كاثوليكية متزمتة وتخشى على سمعتها الملكية كثيرا.
المؤكد أيضا أن أوجينى أحبت إسماعيل، وعندما مات كانت تتردد سنويا على مصر لزيارة أرامله، كما تقول «الأميرة جويدان» فى مذكراتها. كانت المرأة الجميلة قد فقدت شبابها وعرشها، وأصبحت آخر امبراطورة عرفتها فرنسا. كانت مجرد امرأة عجوز، فقيرة، لا يعرفها أحد، عندما كانت تتردد على مصر سرا لتذكر أيام مجدها وحبها القديم.. . قبل أن تعود إلى مسقط رأسها فى إسبانيا، ذات يوم، لتموت وحيدة، فى الرابعة والتسعين من العمر.