هذا كتاب يبلغ من العمر ستين عاما إلا سنة، حيث صدر فى عام 1956 عن دار الهلال، بعنوان « القناة لنا»، ويتناول حكاية قناة السويس، منذ أن كانت مجرد فكرة فى أذهان المصريين من أقدم العصور، بدءا من الفرعون سيزوستوريس، مرورا بمغامرة شاب فرنسى مغامر- اسمه فيردينان ديليسبس- عكف على دراسة فكرة لراهب فرنسى، يدعى الأب بروسبير إنفانتان، ينتمى لجماعة سان سيمون الفرنسية الشهيرة، وصولا لملحمة زعيم مصر جمال عبد الناصر فى التأميم، وفى دحر العدوان الثلاثى. كانت تلك الفكرة هى حفر قناة تصل البحرين الأحمر والأبيض. اقتنص ديليسبس الفكرة، ونسبها لنفسه، ثم بدأ مسيرة إتمام المشروع العظيم، إلى أن أصبح المشروع حقيقة.. وهاهم المصريون اليوم ينجحون فى تحقيق إنجاز مماثل، يبهرون به العالم، ويحفرون فى عام واحد فقط قناة جديدة شقيقة للقناة القديمة. يأخذنا الكتاب- الذى يحتوى على نحو مائة من أندر الصور والرسومات والخرائط- إلى محطات مضيئة فى مشوار القناة. واللافت فى الكتاب أن مقدمته( التى خطها بيده الصحفى الكبير الراحل الأستاذ فكرى أباظة) بدأت بما يشبه « القسم»، أو «الوعد»، حيث تقول المقدمة:« لن تلين قناتنا.. فقد تسلمناها- نحن أبناء هذا الجيل- وتسلمنا معها تركة مثقلة، فخلصناها، وأخلصنا لها، وحاربنا من أجلها انجلتراوفرنسا وإسرائيل مجتمعة، واستشهد فى سبيلها نفر من رجالنا ونسائنا وأطفالنا وشيوخنا.. ولن ندخر نحن قطرة من دمائنا فى سبيلها، وسنبقى على إخلاصنا لها، لتبقى حرة، يتوارثها أبناؤنا وأحفادنا.. وهذا المعنى الوطنى الكبير هو الذى حفزنا على إصدار هذا الكتاب. ويضم الكتاب- الذى حرر مادته الراحل الكبير الدكتور حسين مؤنس، وجمع وثائقه التاريخية الراحلة الأستاذة إنجى رشدى أشهر المحررات الدبلوماسيات بالأهرام، ومعها لطفى رضوان، وفوميل لبيب، وأشرف على إخراجه الفنى نسيم عمار- مقدمة وأحد عشر فصلا، تناولت تاريخ قناة السويس منذ الفراعنة وحتى انتهاء العدوان الثلاثى على مصر فى نوفمبر 1956 . فى الفصل الأول، الذى حمل عنوان « هكذا بدأت ماساة القناة»، يستعرض الكتاب تطور حفر قناة تربط بين البحرين أيام الفراعنة، وصولا إلى القرن التاسع عشر، عندما تجدد التفكير فى إيصال البحرين بقناة عبر السويس. بين ديليسبس وسعيد .. ثم يأخذنا الفصل الثانى- الذى جاء بعنوان «كيف تمت المؤامرة»- إلى تاريخ القناة فى الفترة من 1832 وحتى 1859 ، فيحكى حكاية ديليسبس مع الخديو سعيد، والى مصر، وكيف أن ديليسبس نجح فى إقناع سعيد، وحصل منه فى 15 نوفمبر 1854 ، على إذن شفوى ببدء الحفر، ثم على فرمان رسمى فى 30 نوفمبر من العام نفسه. وقد أعطى هذا الفرمان لديليسبس الحق فى إنشاء شركة تقوم بحفر القناة فى برزخ السويس، وتضمّن الفرمان أن يكون لتلك الشركة الحق فى الاستيلاء على ما تريد من أراض يستلزمها المشروع، وذلك دون مقابل، إلا الأراضى المملوكة للأفراد، فتدفع فيها الشركة « ثمنا مناسبا»، كما أن للشركة الحق فى إنشاء قناة ماء عذب، تمتد من النيل إلى الإسماعيلية، على أن تكون هذه القناة وما ترويه من أراض ملكا للشركة، بل إن لها الحق فى أن تبيع ماء الترعة لمن يريد استعماله من الأهالى.. ولم يكن من حق مصر تقدير رسوم القناة، بل تتفق الشركة مع الوالى بشأنها.. وكان للشركة الحق فى زراعة الأراضى التى تملكها بمقتضى هذا الفرمان، مع إعفائها من الضرائب لعشر سنوات(!).. وفى مقابل ذلك تتفضل الشركة على مصر بحصة من الأرباح لا تزيد على 15 % فقط! ويقول هذا الفصل من الكتاب إن ديليسبس ذهب فجمع طوائف من قطّاع الطرق والرعاع من جزر البحر الأبيض المتوسط، وسلحهم بالبنادق، وسلطهم على قرى محافظاتالدقهلية والشرقية والغربية، ليخطفوا الناس، ويرغموهم على العمل فى المشروع.. وكانت تلك بداية قصة السخرة الشهيرة فى عملية حفر القناة.. والتى هلك فيها 120 ألف مصرى وهم يعملون تحت وهج الشمس الحارقة 18 ساعة فى اليوم الواحد، بطعام لا يكفى طفلا صغيرا! إلا أن بريطانيا رفضت! فى الفصل الثالث- الذى حمل عنوان» صراع حول القناة»- نقرأ أن بريطانيا أدركت أن مشروع القناة ليس مجرد شركة تجارية عادية، بل هو خطة فرنسية مدبرة للسيطرة على مصر أولا، وعلى أسواق آسيا ثانيا.. وقررت لندن أن تحبط المشروع. إن انجلترا لم تكن تقتنع آنئذ إلا بأحد أمرين؛ إما القضاء على المشروع نهائيا، أو تسليمه لها هى لتقوم به وحدها. وقد فضلت تركيا الضعيفة( التى كانت مصر جزءا من امبراطوريتها الآفلة) أن تقف تحت ظل بريطانيا. وأما مصر.. فلم تجد أحدا تقف فى ظله. وانتهى الأمر بأن كرس الخديو إسماعيل موارد مصر كلها لإنجاز المشروع.. إلى أن أعلن المرابون الدائنون إفلاس مصر. فى الفصل التالى، يتحدث الكتاب عن احتفال مصر بافتتاح القناة فى 16 نوفمبر 1869 . لقد أخذ الكتاب موقفا سلبيا من حفل الافتتاح، حتى أن عنوان الفصل الخامس جاء بعنوان « الاحتفال الذى كلف مصر حريتها!».. ويقول الكتاب إن الخديو إسماعيل قرر أن يطوف بنفسه عواصم العالم ليدعو ملوكها وأمراءها ليشاركوه الفرحة بافتتاح القناة. وكانت الامبراطورة أوجينى زوجة امبراطور فرنسا نابليون الثالث اول من حضر الحفل. لقد أتت قبل 3 أسابيع لتتفرج على معالم مصر. ولا ينسى الكتاب أن يذكرنا بأن الامبراطورة أوجينى كانت فى ذلك الوقت قد عزلت، وقسا عليها الزمان، فجاءت تدفىء شيخوختها بشعاع من شمس مصر! ثم اقبل فرانسوا جوزيف امبراطور النمسا، ثم ولى عهد بروسيا. ونفر آخر من الأمراء والنبلاء والصحفيين. وعند مدخل القناة أقاموا 3 منصات رائعة مكسوة بالحرير والمخمل، وأقاموا على الشاطئين مظلات لكبار المدعوين والمتفرجين، واختصوا الصحفيين بواحدة من تلك المظلات. ثم القى شيخ الأزهر كلمة الافتتاح، وأعقبه رسول بابا روما بخطاب طويل.. وفى الليل أقيم حفل راقص عظيم رقصت فيه التيجان، وتخاصرت أوجينى مع فرانسواجوزيف، بينما إسماعيل يتفرج. وفى صباح 20 نوفمبر 1869 وصل الركب إلى السويس، وتم افتتاح القناة. من أجل مصر أممناها فى الفصول التالية، نتعرف على كيف أنه بعد جلاء آخر جندى عن مصر فى يونيو 1956 وضع قادة مصر برنامجا طويل المدى لإنهاض مصر، وتثبيت اقتصادها، وإيجاد حلول لمشكلات تزايد السكان وانخفاض مستوى المعيشة، وقلة القوى المحركة للتصنيع. وكان فى مقدمة مشروعات هذا البرنامج مشروع السد العالى الذى يستلزم تنفيذه ملايين كثيرة، غير أن البنك الدولى، ومن ورائه أمريكاوانجلترا، رفض التمويل، فكان لابد لمصر أن ترد هذه الإهانة. واختار الرئيس جمال عبد الناصر شركة قناة السويس، آخر معقل من معاقل الاستعمار فى مصر، فأعلن قرار التأميم فى خطابه الخالد فى 26 يونيو 1956 . وطبعا ما كانت قوى الإمبريالية لتصمت، فاجتمع رئيس الوزراء البريطانى حينذاك أنتونى إيدن مع نظيره الفرنسى جى مولييه، وتم إعلان الحرب على مصر.. وجرى الاتفاق على أن تبدأ إسرائيل العدوان بمعاونة فرنسا.. وهكذا تعرضت مصر الأبية للعدوان الثلاثى فى 29 أكتوبر 1956 . وكانت الخطة الخبيثة تتضمن أنه إذا هب الجيش المصرى للدفاع عن سيناء تقوم المدمرات البريطانية والفرنسية بدك القناة.. ومن ثم يتم عزل القوات المصرية فى الصحراء، فتضطر مصر إلى التسليم.. وعندئذ يتحقق حلم إسرائيل الوهمى بضم سيناء إلى فلسطين التى اغتصبتها.. ويتحقق حلم فرنسا وإنجلترا بإعادة فرض السيطرة على قناة السويس. غير أن مصر كشفت المؤامرة، وأفشلتها بسحب القوات من غزةوسيناء.. وفى بورسعيد وقف الجيش بجوار شعبه، وقواته الشعبية، وهاجم الغزاة بورسعيد بأعداد تفوق عدد سكان المدينة الباسلة.. لكن المدينة صمدت.. وانسحبت جيوش البغى والغدر.. وبقيت لنا قناتنا.