بداية أبغض مصطلح "الربيع العربي" الذي أطلقه الغرب على رياح التغيير، التي أخذت تطيح بالأنظمة الاستبدادية الفاسدة في العالم العربي. والسبب أن الغرب أطلق مصطلح "ربيع براغ" على ثورة تشيكوسلوفاكيا التي وقعت في السبعينات من القرن الماضي بزعامة دوبتشيك ولغرض في نفس يعقوب. هذا الغرض الذي كان يعبر عن رغبة الغرب، في أن تؤتي تلك الثورة أكلها بما يتفق وتمنياته في القضاء على الاتحاد السوفييتي آنذاك، وليس حباً خالصاً في تحرير شعب تشيكوسلوفاكيا من الهيمنة السوفيتية. أما الإجابة على سؤالنا، فهي بالقطع لا .. والأدلة على ذلك كثيرة من أظهرها: أولاً- الثورات التي قامت في عدد من البلدان العربية، استهدفت- بالدرجة الأولى- استعادة كرامة مواطنيها التي أهدرتها النظم الاستبدادية التي ظلت حاكمة لعقود طويلة، والتي كانت تحظى بحماية وتأييد الدول الغربية التي تتقاطع مصالحها مع مصالح الحكام في تلك البلدان. وهذا يعني- في النهاية- أن ثمة عاملاً نفسياً قويا بات يدعم مواقف الشعوب العربية (أقراداً وجماعات ومؤسسات)، في تصديها للهيمنة الغربية على مقدراتها المادية والمعنوية.
ثانيا- يدرك الغرب أن من أهم المكاسب المعنوية التي حققتها الثورات العربية لشعوبها، تحطيمها لحاجز الخوف الذي أقامته القوى الأمنية التابعة لتلك النظم الاستبدادية، كحائط صد أمام أي حركة شعبية تحاول هدم تلك الأنظمة والتخلص من حكامها المستبدين. وهذا يعني- في نظر الغرب- أن لا شيء يمكن أن يقف أمام ثورة الشعوب ضد أي انحراف محتمل إذا ما نجحت في هدم ذلك الحاجز.
ثالثا- آخر ما يريد الغرب أن يراه في بلدان هذه المنطقة، أن يسودها نظام عادل نابع من القيم الأخلاقية والأعراف الإجتماعية السائدة فيها. فالغرب يعرف أن هذه القيم والأعراف تنطوي على إمكان تحقيق العدالة والمساواة والحرية المسئولة واحترام الرأي والرأي الآخر في تلك البلدان، إذا ما ترجم مضمونها إلى أدوات فاعلة للضبط الاجتماعي. كما ستحافظ (تلك القيم والأعراف) على حقوق الإنسان فيها، وتؤمن العيش في أمن وسلام لكل أطيافها ومكوناتها الثقافية والعرقية والدينية والمذهبية.
وهذا يعني- في النهاية- أن الركائز التي تستند إليها الثورات العربية الراهنة في استهدافها تحقيق العدالة في مجتمعاتها، تختلف كثيراً عن قريناتها في المجتمعات الغربية التي يخضع أفرادها وجماعاتها لسطوة المادية المفرطة كأداة مهيمنة من أدوات الضبط الاجتماعي.
فليس من شك أن الحضارة الغربية تبتعد- والحال هذه- عن سيطرة أية ضوابط معنوية تنبع من الضمير الجمعي الذي يحكم سلوك الأفراد والجماعات في المجتمعات الإنسانية. فحتى الحرية التي يدعي الغرب أنها القوة الرئيسة المهيمنة فيه، نراها تقتصر فقط على الحرية الشخصية للأفراد التي تسمح لهم بالتصرف في انفسهم، ما أدى بهم- في نهاية الأمر- للانسياق وراء الغرائز أكثر من ارتباطهم بالقيم الأخلاقية التي تنادي بها القيم الإنسانية والأديان السماوية.
رابعاً- يعلم الغرب أن نجاح الثورات العربية في تحقيق هذه الأهداف، يعني مواجهته لمجتمعات باتت قادرة على التعامل معه بندية فاعلة، ما يعرض مصالحة في المنطقة للخطر، كما يهدد وجود الكيان العبري في المنطقة كعضوٍ ثابت في المنطقة، وكحارس على المصالح الغربية فيها.
خامساً- من السذاجة بمكان أن تعتقد دول العالم الثالث- والدول العربية جزء منه- بصدق الغرب في دعوته لها للأخذ بالنظام الديمقراطي كسبيل لتنميتها وتضييق الفجوة التي تفصل بينها وبين الدول المتقدمة. ولعل تذبذب موقف أمريكا من الأنظمة العربية خلال العقدين الماضيين فيما يتصل بدعوتها للأخذ بالنظام الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، يعتبر خير دليل على أنها ترسم سياساتها نحو الآخر، من منظور مصالحها الخاصة.
ومن ثم كان لزاماً على الشعوب العربية أن تدرك أن محاولة الدول الغربية الظهور بمظهر المؤيد للثورات العربية لا تستند لقيم أخلاقية، وإنما كان هدفها وسيظل المحافظة على مصالحها التي باتت تخشى عليها من (الصحوة الوطنية)، التي فجرت إمكانات الشعوب العربية وقدراتها باتجاه التخلص من عفن النظم الاستبدادية التي سادت لعقود طويلة، والتي ما كان لها أن تستمر لولا الحماية التي أمنتها لها الدول الغربية وبخاصة أمريكا.
والواقع أن هناك الكثير مما يمكن أن يقال في هذا الصدد، لكن ما يهمنا الآن هو تقويم موقف الغرب مما يجري في سوريا حاليا في ظل تلك الدلائل، وما قد يجري في دول أخرى في المنطقة من ثورات مشابهة.
فكما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن، بدأ الشعب السوري ثورته بمطالبة النظام (سلمياً) بتنفيذ الإصلاحات التي كان رئيسه بشار قد وعد بها حين اعتلى سدة الحكم في سوريا قبل نحو أحد عشر عاما. فكما نعلم جميعاً، كان شعار"سلمية سلمية" هو (اللازمة) التي صاحبت التظاهرات التي اجتاحت المدن والقرى السورية في بداية الثورة.
غير أن ردة فعل النظام كانت صادمة ليس للشعب السوري فحسب، وإنما للشعوب العربية والمجتمع الدولي أيضاً. فقد لجأ نظام بشار منذ اللحظة الأولى إلى استخدام الخيار الأمني المغلظ في التعامل مع المتظاهرين، في محاولة لقمع تظاهراتهم السلمية التي اقتصرت مطالبها في بداية الأمر على مجرد تنفيذ إصلاحات اقتصادية وسياسية كان النظام قد وعد بها كما ذكرنا.
وقد تمادى هذا النظام في تصعيد استخدامه للخيار الأمني المغلظ، حتى وصل إلى حد قصف المدن والقرى بقذائف الدبابات والمدفعية والرشاشات الثقيلة والصواريخ، والتي طالت الأطفال والنساء والشيوخ قبل الشباب، وأوقعت ما لا يقل عن عشرة آلاف شهيداً، فضلاً عن عشرات الألاف من المعتقلين الذين قضى عدد كبير منهم، نتيجة تعرضهم للتعذيب حتى الموت.
فماذا كان موقف الغرب حيال ثورة الشعب السوري بعامة، وحيال الجرائم التي ارتكبها وما زال يرتكبها بشار الأسد ونظامه بحق شعبه بخاصة؟.
أغلب الظن أن الغرب فوجئ بالثورة السورية، مثلما فوجئ بالثورات التي شهدتها الدول التي اجتاحتها رياح التغيير، ونجحت- على الأقل- في إسقاط رءوس الأنظمة الفاسدة التي جثمت على صدور شعوبها لعقود طويلة.
وليس من المبالغة في شيء القول، بأن السبب في ذلك يعود إلى اعتقاد الغرب بأن الشعوب العربية كانت تعيش- قبل قيام هذه الثورات- في حالة خمول وضعف ووهن، كما لم تكن اكثر من كيانات مفككة وفاسدة ومهمشة .. لا حول لها ولا قوة، بسبب الإرهاب والإذلال والتعذيب والتقتيل الذي كانت تمارسة الأنظمة الحاكمة بحق شعوبها.
ونظراً لأهمية سوريا الجيوسياسية والاستراتيجية في المنطقة، وبسبب تاريخ شعبها الطويل في الدفاع عن القضايا العربية، وتمسكه بخيار المقاومة في التصدي لإسرائيل وحلفائها، (والذي استغله نظام الأسدين في تثبيت اركان حكمه)، وجد الغرب نفسه في حيرة من أمره حين طالبته الدول العربية الحليفة له في المنطقة، بالتحرك لمنع المجازر- على الأقل- التي بات نظام بشار يرتكبه يومياً ضد الشعب السوري.
فالغرب يتخوف من أن تدخله الميداني في سوريا (سواء كان عسكريا أو لوجستيا)، يمكن أن يعرضه لمواقف لا تصب- في نهاية الأمر- لصالحه. فيبدو أنه بات على يقين من أن حاجز الخوف الذي استطاعت الثورات العربية أن تقتلعه تماما من نفوس شعوبها، يمكن أن يكون المعول الذي تهدم به تلك الشعوب مصالح الغرب في المنطقة، والتي تتلخص في بسط هيمنة الغرب على دولها والاستيلاء على ثرواتها وبخاصة النفطية منها.
لذلك فإن جل ما فعلته وتفعله الدول الغربية حيال ما يجري في سوريا، يقوم على ركائز ثلاثة :
الأولى- الادعاء المستمر بأن الغرب يقف بجانب الشعب السوري، مع الحرص الشديد على وجود خط يمكنه من التراجع، إذا ما تتطلب تطور الأوضاع ذلك.
والثانية- رفضه تسليح الشعب السوري ليتمكن من الدفاع عن نفسه أمام بطش نظام بشار، واستخدامه لكل ما في ترسانته العسكرية من سلاح وعتاد ضد الشعب الثائر. وحجة الغرب في ذلك أن عسكرة الصراع سوف تؤدي لقيام حرب أهلية، كما أن احتمال وقوع الأسلحة التي تزود بها المقاومة السورية بأيدي رجال القاعدة أمر وارد.
والثالثة تطبيق عقوبات اقتصادية وسياسية، ثبت أنها لا تقدم ولا تؤخر أمام الدعم المادي والعسكري واللوجستي الذي يلقاه نظام الأسدين من الدول الحليفة له، وبخاصة إيرانوروسيا الاتحادية والصين.
والمعروف أن لهاتين الدولتين مصالح على الصعيدين الإقليمي (الشرق الأوسطي) والدولي. فسوريا تكاد تون الدولة الوحيدة التي تؤمن لروسيا الاتحادية بالذات التواجد في المنطقة، كما تحاول في موقفها هذا تأكيد عودتها للساحة الدولية كلاعب رئيس مقابل أمريكا والدول الغربية، تعاضدها في ذلك الصين.
ومع ذلك، وبغض النظر عن موقف روسيا والصين من الثورة السورية، فأغلب الظن أن أمريكا ودول أوروبا ومعها إسرائيل، ترى في استمرار الصراع بين النظام والشعب في سوريا فرصة ثمينة لتدمير هذا البلد، الذي ظل لعقود طويلة عقبة كأداء أمام إسرائيل والغرب في فرض الأجندة الصهيوغربية على دول المنطقة، كي ترضخ للشروط الخاصة بحل القضية الفلسطينية من ناحية، والاعتراف بوجود الكيان العبري كعضو رئيس وفاعلٍ ومهيمن في المنطقة من ناحية أخرى.
ومهما يكن من أمر التصريحات التي تطلقها الدول الغربية تأييداً للشعب السوري، يظل هذا الغرب حريصاً على بذل كل ما يستطيع من أجل تفريغ الثورات العربية من مضمونها، سواء بالعمل على احتوائها، أو بمحاولة توظيف إمكاناتها الاستخبارية لتدميرها من الداخل.