نعم .. استمرار بشار الأسد في استخدام العنف المغلظ بحق الأغلبية في سوريا، يعتبر- في نظره- مسألة حياة أو موت بالنسبة له ولأتباعة ولطائفته. فهو يضع في حساباته أن خسارته أمام من يريد الإطاحة به، تعني في النهاية أفول نجم أسرته وطائفته وكل من والاه. و"بدون لف أو دوران" .. نقول : هذا صحيح، إذا ما أصرَّ بشار على استخدام الخيار الأمني في التعامل مع الأزمة، وإذا ما قرر استخدام "الطائفية" كأداة لإنقاذه ونظامه من السقوط.
هنا نسأل: من الذي أوصل الوضع في سوريا إلى هذه الدرجة من التأزم والتعقيد، الذي سيؤدي- في حال استمراره- لنتائج كارثية؟.
كان على بشار ونظامه أن يسأل نفسه- منذ بداية التظاهرات والاحتجاجات- عن الأسباب الحقيقية التي دفعت بجموع الشعب السوري للخروج في تظاهرات على النحو الذي رأيناه ونراه الآن .. والتي يحتج فيها على الأوضاع المتردية التي ظل يعيشها في ظل الفساد والاستبداد الذي استشرى في جسم الدولة ومؤسساتها كالسرطان خلال العقود الأربعة الماضية.
في البداية، كان الشعب ينادي فقط بتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي وعد بها بشار شعبه عندما اعتلي سدة الحكم منذ أحد عشر عاما .. فما الذي حال دون اتخاذه خطواتٍ جادة نحو تنفيذ وعوده، ودون أن يلجأً للخيار الأمني بصورته المغلظة التي نراها اليوم في محاولة القوى الأمنية قمع المتظاهرين؟.
ما من شك أن بشار كان وما زال يقتفي سياسة أبيه في التعامل مع الأزمات، وبخاصة تلك التي يكون الشعب السوري الطرف الخصم للنظام فيها. وقد رأينا ذلك النهج الاستبدادي الذي استخدمه الراحل حافظ الأسد في التعامل مع معارضيه في الثمانينات من القرن الماضي، وبخاصة جماعة الأخوان المسلمين والسلفيين الذين "شيطنهم" بشار في خطابه الأخير (معاذ الله)!!!.
ورأينا كيف تعامل الراحل مع أهل مدينة حماة- أنذاك- حيث دمر أكثر من ثلث المدينة على رءوس أهلها، وفتك بما لا يقل عن 25.000 شهيداً، بخلاف آلاف الجرحى والمعتقلين والمفقودين الذين وقعوا ضحية تلك الهجمة البربرية، وكانت حجته في ذلك تخليص سوريا من هؤلاء "الإسلاميين" الذين يتخذون من مدينة حماة وكراً رئيساً لهم!!!.
ليس من شك أن الراحل كان يدرك جيداً أن هؤلاء الذين يصفهم هو وولده بالشياطين ينتمون لغالبية الشعب السوري، كما الحال في كل الشعوب العربية. ويدرك أيضاً أن التعامل مع هذه الجماعات بالغلظة والقسوة التي تعامل بها هو وولده من بعده، لا بد أن تثير الأغلبية في سوريا، وتضعهم في مواجهة صريحة مع نظامه الذي كان يتحكم في قوتهم وارزاقهم ومستقبلهم، دون خشية من المحاسبة.
الأسد الأب (ومن بعده الابن) كان يراهن على أن قدرته في التصدي لهذه الغالبية ترتبط بتجييش قوة مدججه بالسلاح والعتاد، تكون قادرة على قمع المعارضين للنظام أولا، ثم تسليحها بعقيدة تزرع في عقول أفرادها ووجدانهم كماَّ كبيراً من الحقد والكراهية والتعصب ضد الآخر، والذي يبدو- أغلب الظن- أن الأسد الأب صوَّره، على أنه الخطر الداهم الذي يهدد النظام والطائفة التي ينتمي إليها.
من هذا المنظور، عمل الراحل على اختيار عناصر تلك القوة من أبناء الأقليات في سوريا، التي اعتبرها المصدر الرئيس والآمن لتشكيل تلك القوة على النحو الذي خطط له، وجعل من الطائفية المتكأ الذي يعتمد عليه في تحقيق هدفه الغائي من تشكيل تلك القوة، وهو الاستيلاء على الحكم وتوريثه لأبنائه.
وبهذا الخيار يبدو أن الأسد الأب، قد وضع أول حجر في جدار الفصل الطائفي (إذا جاز التعبير) في المجتمع السوري، والذي اعتقد أنه يمكنه من جعل الطائفة العلوية التي ينتمي لها هي الأعلى، وما دونها هي السفلى!!!.
ورأينا كيف اعتمد- في محاولته (ومن بعده نجله) ضمان اصطفاف الأقليات في سوريا بجانبه- أسلوبا جهنمياً يقوم على تخويفهم من الغالبية السنية، التي أوهمهم بأن تزمتها وتعصبها يمكن أن يصل إلى حد تهميشهم واضطهادهم، إذا ما قدر لها أن تستولي على الحكم.
وأغلب الظن أن الراحل وزمرة من الضباط العلويين في الجيش السوري وبخاصة في سلاح الطيران الذي كان يقوده قبل استيلائه على الحكم، هم من وضع المخطط الرامي للسيطرة على الجيش أولاً، ثم الاستيلاء على الحكم في سوريا ثانيا .. وهذا ما سار على خطاه الأسد الابن تماما.
فها نحن نرى المناصب القيادية في الجيش السوري بمختلف فروعه، وقد سيطر عليها عسكريون ينتمون- بالدرجة الأولى- للطائفة العلوية وبالأخص لعائلة الأسد، إضافة لعدد غير قليل من المنتفعين الذين ينتمون لطوائف أخرى .. من بينها الطائفة السنية.
وعلى هذا النحو، سارت بعض وحدات الجيش من القوات البرية مثل الفرقة الرابعة التي اشتهرت بارتكاب أفظع الجرائم بحق المتظاهرين، ومثل القوات الجوية التي يعرف الشعب السوري ذلك الدور المشين الذي لعبته وتلعبه استخباراتها في قمع المتظاهرين وقتلهم وتعذيبهم والتنكيل بأسرهم.
بالطبع لم يكن العقلاء والمثقفون من أبناء الطائفة العلوية، يتفقون مع هذا المخطط الإجرامي الذي باشر الأسد الأب بإعداده، حتى من قبيل إدراكهم (الصائب) بأن هكذا وضع لن يدوم مهما طال الزمن، وأن النتيجة الحتمية هي أن يجد الموالون لهذا المخطط (والذين غرر بالكثير منهم) .. يجدون أنفسهم وقد أصبحوا ضحية للجرائم التي يرتكبها آل الأسد وأتباعهم بحق الشعب السوري.
لذلك رأينا عدداً من هؤلاء العقلاء وشيوخ العشائر العلوية يرفضون الممارسات القمعية التي يرتكبها بشار بحق المتظاهرين، انطلاقاً من قناعتهم بأن هذا النظام إنما قام ليحفظ لعائلة الأسد التفرد في حكم سوريا، والتحكم بشعبها، والاستيلاء على ثرواتها.
وهذا ما أكدته الأخبار الصحفية التي تواترت عن وضع العديد من هؤلاء العقلاء تحت الإقامة الجبرية، ما يعني أن ثمة خلافاً حاداً يدور الآن بين أوساط الطائفة العلوية وعشائرها، حول خطورة النهج الطائفي الذي ينزع بشار الأسد لولوجه، كي يوجد له خروجاً آمنا من الأزمة الحالية التي تعصف بنظامه.
فالكثير من الزعامات العلوية تخشى أن يعتقد الشركاء في هذا الوطن (وبخاصة السنة) من أن جميع أبناء الطائفة العلوية، يقفون حالياً وراء مخططات نظام بشار وجرائمه ويؤيدونها .. وأن أبناء هذه الطائفة هم الذين يقومون بتنفيذ هذه المخططات ويرتكبون تلك الجرائم، وبذلك تشتعل حرباً طائفية مدمرة لا يعلم سوى الله جلت قدرته .. إلى أين تسير وكيف ستنتهي.
في الخطابين اللذين القاهما يومي 10، 11 من شهر يناير الجاري 2012، أوضح بشار بما لا يدع مجالاً للشك، أنه لن يتراجع عن استخدام الخيار الأمني المغلظ ضد كل من يعارض النظام، واعتبر أن من لا يقف معه هو عدو يجب التعامل معه على هذا الاساس، وحتى أولئك الذين يحاولون إيجاد حل توافقي بين المعارضة الشعبية وبين النظام اعتبرهم بشار غير موالين للنظام.
وهكذا نجده مصراً على الذهاب إلى المنعطف الخطير الذي ينتظر البلاد، وهو إشتعال حرب أهلية عمادها الطائفية البغيضة التي لن ينجو منها أي من أبناء سوريا، حتى الذين يريدون الوقوف على الحياد. وما من شك أن العناصر التي يستعين بها النظام في قتل المتظاهرين وتعذيبهم، هم الذين سيدفع بهم بشار لإشعال أتون تلك الحرب.
فإصراره على الخيار الأمني في قمع المظاهرات والاحتجاجات كما أوضح في خطابية، يظهر أن العد التنازلي نحو إشعال حرب طائفية يبدو وكأنه قد بدأ بالفعل، وبخاصة حين أدرك أن خططه بشأن قبول المراقبين العرب والتسويف المتوالي الذي اتبعه في قبول المبادرة العربية وبروتوكول المراقبين بهدف شراء الوقت قد انكشف تماما وافتضح أمره، ليس أمام الشعوب العربية وإنما أمام المجتمع الدولي قاطبة.
وليس في هذا القول مغالاه .. فبشار وجه تقريعاً صريحاً ومهيناً للجامعة العربية، حيث اتهمها- ومن تمثلهم- بأنها تعمل وفق أجندة أجنبية تقضي بإحالة الملف السوري لمجلس الأمن وتدويل المشكلة، كما اتهم الأنظمة العربية بأنها تتآمر على سوريا بسبب احتضانها للمقاومة ووقوفها بجانب القضايا العروبية، وذلك استجابة لأرباب تلك الأجندة الذين يستهدفون القضاء على المقاومة في المنطقة، حفاظاً على أمن إسرائيل ووجودها وعلى مصالحهم في المنطقة.
وهكذا نرى بشار وقد قضى- في كلمات قليلة- على المبادرة العربية التي تسعى- في نظر النظام الرسمي العربي- لإيجاد حل توافقي يحقق للشعب السوري مطالبه من ناحية، ويوجد لنظام بشار مخرجاً آمنا من الأزمة التي كلفت سوريا حتى اللحظة ما لا يقل عن ستة آلاف شهيداً، بخلاف الآلاف من المصابين والمعتقلين والمخطوفين.
من جانب آخر، يصر بشار على أن عصابات مسلحة تعمل لصالح جهات محلية وخارجية، هي التي تقوم بقتل المتظاهرين وليس عناصر الجيش وقوى الأمن وما يسمون بالشبيحة. كما يصر على أن ثمة مؤامرة عربية وخارجية ضد سوريا تستهدف إخراجها من دائرة المقاومة، التي تتصدى للعدو الإسرائيلي وتقف حائلاً دون تحقيق الطموحات الأمريكية في الهيمنة على المنطقة.
وكان يأمل- على ما يبدو- حين قبل ببعثة المراقبين العرب، أن يستثمر وجودها في إقناع الرأي العام العربي والعالمي بصدق ادعاءاته، عن أن النظام المقاوم في سوريا يتعرض لمؤامرة خارجية. غير أن المواقف التي تعرض لها هؤلاء المراقبين يبدو أنها ستحول دون تحقيق هذا الهدف لسبب بسيط، وهو أن قبوله بهذه البعثة لم يكن يعني بأي حال من الأحوال تخليه عن الخيار الأمني في معالجة الأزمة.
ثمة تساؤل لا يقل خطورة عما سبق .. وهو ما إذا كان ثمة اختلاف في مبلغ الضرر الذي سيلحق بالشعب السوري بمختلف أطيافه وطوائفه : أولاً .. في حال ما تدخل المجتمع الدولي عسكريا لحل الأزمة حتى لو جرى هذا التدخل وفق النمط الذي تم في ليبيا، وثانيا .. في حال تفرد النظام بالشعب واستخدامه للجيش بكل فروعه وللمؤسسات الأمنية والاستخبارية في قمع المتظاهرين ووءد الثورة في سوريا؟.
من وجهة نظرنا، أن كلا من الخيارين سوف يؤدي لنتائج كارثية على الشعب السوري. فتدويل القضية يعني التدخل العسكري الذي ستقوم الدول الغربية بتنفيذه وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا.
وعلى النقيض مما يقال عن أن النموذج الليبي لا يمكن تطبيقه على الحالة السورية، بسبب الوضع الجيوسياسي الهام الذي تتمتع به سوريا في المنطقة .. فمن المؤكد- في نظرنا- أن هذا التدخل العسكري سيكون أشد ضراوة وأعظم قسوة، بسبب توجهات بشار الأسد لااستخدام كل الأوراق المتاحة لديه لكي يحول دون سقوط نظامه.
وليس من شك أن هذه الأوراق تتمتع بأهمية استراتيجية تؤثر على مستقبل الأوضاع في المنطقة، بل وسينعكس تأثيرها إذا ما تم تفعيلها على جوانب هامة من الأوضاع العالمية.
فالكل يعرف أن ثمة تحالفاً بين إيران والحكومة العراقية وسوريا وحزب الله في لبنان .. يرى أن سقوط النظام في سوريا يعني فرط عقد هذا التحالف، والذي يحلو لبعض المعارضين له أن يطلقوا عليه "الهلال الشيعي الخصيب"!!! الذي يمتد من شرق إيران وحتى ساحل البحر الأبيض المتوسط في لبنان، هذه ورقة ،،،
،،، والورقة الثانية: ادعاءاته المتكررة بأن النظام في سوريا، هو الذي بقى- من دون الدول العربية- على موقفه الثابت الذي يطالب باستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وسر القوة في هذه الورقة أن التحالف الذي أشرنا إليه، يداوم على استثمار القضية الفلسطينية في ذات الاتجاه الذي يسير عليه النظام السوري في تعامله مع فصائل المقاومة الفلسطينية بخاصة والقضية الفلسطينية بصفة عامة، الأمر الذي تؤكده تصريحات الرئيس الإيراني نجاد حول ضرورة إزالة الكيان العبري من المنطقة.
أما خطورة الورقة الثالثة- وهي مخلَّقة من رحم ذلك التحالف- فتتمثل في التهديدات التي سبق أن أطلقها بشار الأسد بشأن إحداث زلزال في المنطقة، إذا ما تعرضت سوريا للتدخل العسكري. فهذه الورقة تنطوي على تهديدات صريحة لأمريكا والغرب مؤداها، أن سوريا وحلفاءها لن يترددوا في مهاجمة الكيان العبري إذا ما ضاق الحال بالنظام السوري نتيجة التدخل العسكري.
كذلك لن يترددوا في إثارة النعرة الطائفية في منطقة الخليج، ما سيؤثر على أمدادات النفط للدول المستهلكة ومعظمها ينتمي للدول الغربية من ناحية، كما سيؤثر على استقرار النظم الحاكمة في دول الخليج العربية المحسوبة على الغرب من ناحية أخرى. أضف إلى ذلك أن القوى العالمية الأخرى لا يُتوقع منها أن تقف مكتوفة الأيدي حفاظا على مصالحها في المنطقة.
وأمام هذا التعقيد في المسألة السورية لا يرى المراقبون أي نور في نهاية النفق، إذا ما استمر الصراع بين النظام والشعب على حاله. وهذا الحال يتلخص في أن الشعب لا يملك من الوسائل أو الأدوات ما يواجه به الآلة العسكرية الضخمة للنظام. فالشعب يعتمد على شعار "سلمية التظاهر"، بينما يستخدم النظام كل أنواع الأسلحة البرية والجوية والبحرية في مواجهة الثورة.
ومهما يكن من أمر، ففي اعتقادنا أن النظام لن ينعم بالطمأنينه والاستقرار، حتى لو استطاع أن يجبر الشعب على البقاء في منازله، خشية تعرض أبنائه لأعمال لتقتيل والتعذيب التي لا يتورع النظام عن ارتكابها. فلو تحقق له ذلك، فسيظل في حالة استنفار دائم، ما سيعرض النظام للتآكل سواء من داخله، أو بفعل انعدام التفاعل الإيجابي بينه وبين أطياف الشعب وطوائفه.
وهنا ينهض سؤال مفصلي حول حسم هكذا وضع وهو: ما الذي يستوجب من الطرفين المتصارعين فعله حتى يحقق انتصاراً حاسماً على الطرف الآخر؟.