د. زاهي حواس مثل كل من نشأ وتربي في قري مصر بصعيدها ودلتاها تفتحت عيناي وأنا أري الناس يحرصون ويجتهدون كل الجهد لاستكمال الركن الخامس من أركان الإسلام, ألا وهو حج بيت الله الحرام, فالحج سيظل دائما أمنية كل مسلم خاصة المصريين الذين أحسبهم من أتقي شعوب الأرض وقلوبهم معلقة بمكةالمكرمة وزيارة مسجد المصطفي صلي الله عليه وسلم, وهم لذلك يسلكون كل الطرق الممكنة وغير الممكنة لتحقيق تلك الأمنية العزيزة الي نفوسهم. وكنت دائما أصبر النفس بأن هناك موعدا مقدرا لذهابي الي مكة والطواف ببيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه صلي الله عليه وسلم بالمدينةالمنورة, وطال هذا الموعد وكان العام يمر تلو العام حتي إن كثيرا من أصدقائي ومعارفي ظنوا أن عملي بالتاريخ والآثار الفرعونية قد شغل كل وقتي ولم أعد أفكر إلا في مواصلة العمل والقراءة والكتابة عن حياة الفراعنة, كنت أحس بهذا علي الرغم من أن أحدا لم يبح به أمامي ولكنها الفكرة الخاطئة عن علماء تاريخ وآثار الحضارات القديمة بصفة عامة, أما الحقيقة فهي عكس ذلك تماما, فأنا أؤمن أن هذه الطائفة من الناس هم أكثر البشر احساسا بقدرة خالق الكون, الذي نري بديع خلقه في كل مفردات الكون من حولنا, ولأهمية ذلك العلم علم الآثار دعانا المولي عز وجل في كتابه العزيز الي السير في الأرض لنري ونتفكر في آثار من سبقونا. لقد بدأت فكرة التوحيد في مصر القديمة قبل عصر الملك أخناتون الذي أعلن في عهده وجود إله خالق واحد لا شريك له, ونري فكرة الوحدانية في مصر القديمة منذ أقدم عصورها عند التعرض الي مفهومهم عن بداية الخليقة ففي البدء كان هناك دائما الإله الخالق الذي أوجد نفسه بنفسه ولم يسبقه شئ, هذا هو ما نراه في أساطير بدء الخليقة عند المصري القديم, وقد يسأل البعض اذا كان أخناتون قد دعا الي عبادة الإله الواحد فلماذا لم تستمر دعوته كثيرا؟! أما الإجابة فهي أن أخناتون قد جعل من نفسه وسيطا بين الناس والإله الواحد وربما لم يسمح للناس أن تعبد الإله مباشرة إلا من خلاله هو ولهذا انتهت الدعوة الجديدة تماما بموت هذا الوسيط اخناتون, وعاد المصريون لعبادة آلهة مختلفة يرأسهم آمون رع, اننا ندرس الآثار لنتعلم من الماضي الذي ينير لنا الطريق الي المستقبل, انها متعة روحية لاتفوقها متعة معرفة تطور الفكر الانساني والديانات القديمة وصولا الي الاسلام ونسأل أولئك المتشككين في العلوم التي ندرسها عن أثر ذلك الكم الكبير من القصص القرآني الذي نزل علي سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم, في أوقات عصيبة من حياته عليه الصلاة والسلام, وسبيل نشر دعوة الإسلام, ألم تكن بهدف التسرية عنه صلي الله عليه وسلم, واكسابه العلم بأخبار الأولين وما مروا به من خبرات والصعوبات والآلام التي واجهت الأنبياء والرسل من أجل نشر الدين, إن القرآن هو بحق معجزة تحيا بيننا وحتي يرث الله الأرض ومن عليها ويجد فيه كل عالم في تخصصه معجزات لا يقدرها إلا هو ومن هم في مجال تخصصه, ونحن علماء الآثار أكثر الناس دراية بمدي الاعجاز القرآني عند استعراض حياة الرسل والأنبياء, خاصة ممن ولدوا أو عاشوا بمصر أو لجأوا إليها طلبا للحماية أو زاروها أو تزوجوا منها وكذلك حياة الأمم السابقة. لقد من الله علي هذا العام بنعمة الحج الي بيته الحرام, وأرجو أن يتقبل الله مني وممن أدوا فريضة الحج عملهم ويحسبه عنده في الأعمال الصالحات, وقد حدث في يناير الماضي أنني كنت أقوم بالحفائر في معبد قريب من مدينة الاسكندرية وفي أثناء العمل سقط علي رأسي حجر كبير وكان من لطف الله أن سقوطه جاء من علي مسافة قريبة لا تتعدي المترين, وقد غبت عن الوعي لدقائق معدودات, وبعد إجراء فحوصات طبية اتضح وجود ثقب في العين.. ولم يعرف أحد سبب وجود هذا الثقب, وما اذا كان سقوط الحجر قد أدي إليه أم أنه كان موجودا قبل الحادثة, ولم يكن من الممكن الكشف عنه لولا سقوط الحجر علي رأسي, وتقرر سفري الي الخارج لإجراء الجراحة الدقيقة والتي تتطلب بعد اجرائها أن يظل المريض لمدة أربع وعشرين ساعة يوميا ولمدة عشرة أيام ينظر الي أسفل وبعد الجراحة اتضح أن الثقب لم يغلق وكانت صدمة للطبيب المعالج والذي نادرا ما تفشل له عملية جراحية وتقرر اجراء جراحة أخري. وحدث وأنا في طريقي الي المستشفي ورأسي الي أسفل أن دعوت الله أن يوفقني هذا العام لأداء فريضة الحج وزيارة قبر رسوله الحبيب سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم, وقد تقبل الله دعوتي ومن علي بالشفاء وعندما وطأت قدماي أرض المدينةالمنورة علي صاحبها الصلاة والسلام نظرت الي السماء أتأملها وعجزت كل الكلمات أن تعبر عن شكري لله.. فأنا الآن في المكان الذي هاجر إليه سيد الخلق وعاش ومات ودفن فيه, وكانت الأحداث التي مر بها صلي الله عليه وسلم هو وأصحابه تمر بذهني وأتعجب لماذا غاب عنا هذا الدرس العظيم الذي علمنا إياه رسولنا الكريم من الوحدة وترك الفرقة بيننا فهكذا انتصر المسلمون في كل معاركهم, وعندما وصلت العربة التي تقلنا الي مشارف المدينة أحسست بأنني أري نور المصطفي صلي الله عليه وسلم وأحسست براحة غريبة لم أحس بها في حياتي, وكانت لحظة دخول المسجد النبوي الشريف لحظة فارقة في حياتي ووجدت قلبي يرتجف رهبة واجلالا وكان الوقت يمر علي ومعي ابني شريف وبعض من الأصدقاء داخل المسجد, ونحن لا نكاد نحس به, فهذا المكان لا يمكن للنفس أن ترتوي منه ولا يمكن للعين أن تشبع من النظر إليه, والصلاة فيه غير الصلاة في أي مكان علي وجه الأرض ولماذا لا تكون مختلفة وهنا كان الرسول الكريم يصلي بالناس ويخطب فيهم ويعلمهم أمور دينهم وحياتهم, ومن هنا كان الاسلام ينتشر في كل بقاع الأرض, وكانت محاولة الوصول الي الروضة الشريفة ما بين المنبر وقبر الرسول صلي الله عليه وسلم عملا غير هين, لكنه من أحب الأعمال الي القلب وقد من الله علينا أن نصلي في هذا المكان الشريف. وفي المدينة تقابلت وشخصيات كثيرة من مختلف دول العالم, والأصح أن أقول إنني رأيت العالم كله في المدينةالمنورة والكل في هذا المكان سواسية يلبسون لباسا واحدا ويتحدثون باسم الواحد القهار, وجاءني شاب مسلم أمريكي يصافحني ووجهه متهلل وقال لي إن سعادته كبيرة لمعرفته بأننا علي دين واحد.. ولم يهون علينا فراق المدينةالمنورة سوي أننا كنا نتجه الي مكةالمكرمة وهي سعادة وفرحة لا تساويها فرحة أن تنتقل من مكان شريف الي أحب بقاع الأرض الي الله ورسوله والي عباده جميعا, وبمجرد وصولنا الي مكة نزلت ومعي ابني للطواف حول الكعبة وكان ابني يلازمني طوال الوقت خوفا علي من الزحام الرهيب, وبينما كنا نقوم بالطواف الثاني حول الكعبة حدث ما لم أتصوره أو يرد في خاطري لإحساسي بأنه أمر مستحيل تحقيقه في ظل هذا الحشد المهول من جميع أركان الأرض, وهو أنني وجدت مجموعة من الحجيج تندفع نحو الكعبة ووجدت نفسي أندفع أمامهم حتي وجدتني أقبل الكعبة وأنال هذا الشرف الذي لم ينله أحد من زملائي الحجيج, وكنت في غاية السعادة بهذا التكريم والذي اعتبره أكبر تكريم نلته في حياتي, بعدها قمنا بالسعي بين الصفا والمروة, وهنا تذكرت السيدة هاجر المصرية وابنها إسماعيل وقد تركهما أبو الأنبياء إبراهيم بواد غير ذي زرع. والي أن أساس الحج الوقوف بعرفة فهو يجعل الإنسان يشعر بأنه أقرب ما يكون الي المولي عز وجل, ولم أحس بكوني ضيفا من ضيوف الرحمن سوي عند الوقوف بعرفة ورفع يدي الي السماء أدعو الله أن يغفر لي وللمسلمين جميعا وأن يصلح جميع أمورنا, وعند هذا المكان وجدت أسماء بعينها ترد الي ذهني فأدعو لها وأنا لا أعرف لهذا سببا لكنها ارادة ومشيئة المولي عز وجل ورغبة أولئك في أن يذكر اسمهم في هذا المكان, وبعد غروب شمس يوم عرفة وبدء نفرة الحجيج الي المزدلفة كنت ومن معي نحس بأننا خلق آخر لتكتمل الملحمة الروحية بجمع الجمرات والوقوف لرجم ابليس والتي هي أسمي معاني الانتصار أن ينتصر الانسان علي شيطانه ويرجمه وكان طواف الوداع مع صلاة الفجر وبفضل المولي عز وجل استطعت أن أصلي أمام الكعبة مباشرة وأن أصلي مرة ثانية بعد الصلاة لأقبل الكعبة وأودع المكان ودموعي تنزل بغزارة. وقبل أن أختم الحديث عن الحج لابد من اعطاء بعض الحق الي اخواننا بالمملكة العربية السعودية, لقد أخذوا بأسباب العلم والتقدم التكنولوجي الهائل وبدأوا بما انتهي إليه العالم فشيدوا الطرق التي تخترق الجبال والصحراء وانشأوا المدن المنظمة وانبهرت بجدة من حيث الجمال والنظافة والتي أظنها تضارع مدن أوروبا وأمريكا ونجحت المملكة السعودية في تنظيم الحج هذا العام دون حدوث أي مشكلات ولايمكن تصور أن هناك أية دولة أو أمن يستطيع السيطرة علي هذا الكم الهائل من البشر الذي وصل الي نحو ثلاثة ملايين حاج يذهبون الي أي مكان في نفس الوقت واللحظة, غير أنني لم أسعد كثيرا بوجود المباني المرتفعة التي تحيط بالمسجد الحرام والتي أعتقد أن مكانها الطبيعي كان لابد أن يكون خلف جبال مكة وهو التوسع الطبيعي للمدينة الشريفة, وأنا أغادر مكةالمكرمة دارت برأسي بعض الأسئلة, هل يقوم الأشقاء في المملكة بعمل ما نسميه المسح الأثري للمناطق المتاخمة للحرمين الشريفين قبل السماح لبناء الفنادق والمنشآت بالقرب منهما, وترد علي خاطري الآية الكريمة وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل, وهي آية جعلتني أتخيل كيف كان أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم وابنه اسماعيل يقومان ببناء البيت العتيق.. لقد كان الحج هذا العام هو فضل الله علي أحمده كثيرا وأدعوه أن يوفقني الي الحج مرة ثانية الي بيته الحرام وقبولي ضيفا ضمن ضيوف الرحمن. عن صحيفة الاهرام المصرية 5/1/2007