كعادته في كل كتاباته - شعرا كانت أو نثرا - يظل فاروق جويدة مهموما بقضايا الوطن، ليست فقط في ماضيه وحاضره، وإنما أيضا في مستقبله. واليوم يطرح الكاتب الكبير عبر مقاله الأسبوعي بجريدة الشروق بعنوان "ماذا بعد طوفان المدارس الأجنبية في مصر؟" عدة تساؤلات حول مدى تأثير 57 مدرسة أجنبية موجودة في مصر على قيم الهوية المصرية. ينطلق جويدة من أزمة نشعر بها جميعا.. وهي أزمة التعليم التي يراها أهم من مشكلة البطالة لأنها تسبقها من حيث العمر والزمن وجوانب تكوين الشخصية، ويؤكد أن التعليم في الماضي - رغم ضعف إمكاناته - كان قادرا على تقديم أجيال استطاعت أن تقدم صياغة عصرية فى زمانها لبلد متحضر وإنسان يدرك مسئولياته ونماذج رفيعة فى الفكر والأخلاق والسلوك. ويدلل الكاتب على ما يقول بالقامات المصرية الرائعة التي غزت العالم في شتى المجالات مثل نجيب محفوظ وأحمد زويل ومجدى يعقوب وفاروق الباز.. كما يقارن كذلك بين الدور العظيم الذي قامت به جامعة القاهرة في ظل إمكانات متواضعة لا ترتقي لما تتمتع به الجامعة الأمريكية. يقول جويدة: "كان المدرس المصري نموذجا فى الكفاءة والقدرات.. وكانت المناهج المدرسية تسير على منظومة العصر.. وكانت المدرسة المصرية نظيفة راقية وقبل هذا كان هناك اعتراف دولي بمستوى التعليم فى مصر بجانب دول العالم المتقدم.. لم تكن المدارس الأجنبية مثل الفرير والليسيه أفضل من مدارس الأورمان أو الإبراهيمية أو السنية أو السعيدية أو الخديوية، بل إن المدارس المصرية كانت هى الأفضل فى كل شيء". ينتقل الكاتب إلى الاختلاف الهائل الذي حدث حاليا في حال التعليم لعدة أسباب يرى من أهمها "التكدس البشري الرهيب"، و"الدروس الخصوصية" و "تشويه المناهج" مما دفع الآباء إلى البحث عن مدرسة مناسبة يتعلم فيها الأبناء ليس لضمان وظيفة فى المستقبل القريب أو البعيد ولكن لضمان تخريج إنسان ومواطن متوازن فى الفكر والسلوك. يعترف فاروق جويدة أن مقدمته قد طالت ويقول: "لعل السبب فى ذلك أن هناك سؤالا حائرا فى كل بيت فى مصر الآن.. ما هو مستقبل شباب هذا البلد فى ظل منظومة التعليم الحالية.. إن أخطر ما فى هذه المنظومة هو تراجع مستوى التعليم فى مصر بدرجة خطيرة أمام عجز كامل عن ملاحقة العصر فى الفكر والأسلوب والتكوين.. على جانب آخر وفى مقابل تعليم متخلف نجد تعليما تجاريا أصبح مصدرا للثروات وجمع الأموال ولم يعد أمام المواطن المصري غير أن يجمع كل ما لديه لكى يدخل ابنه أو ابنته مدرسة مناسبة.. وما بين تعليم حكومى قاصر وعاجز وتعليم خاص يبحث عن المكاسب والأرباح ظهر تيار ثالث أصبح الآن مصدر ازعاج للجميع وهو المدارس الأجنبية.. إن المدارس الأجنبية ليست نشاطا تعليميا وثقافيا جديدا فى مصر فقد جاء منذ عصر إسماعيل وربما قبل ذلك ولكنه فى السنوات الأخيرة ازداد حدة وشراسة وانتشارا بصورة غير مسبوقة". لا يهتم جويدة كثيرا بارتفاع مصروفات المدارس الأجنبية التي قد تصل إلى 50 ألف دولار سنويا، لكنه يرى أن أخطر ما في المدارس الأجنبية فى مصر "أنها مجموعة من الجزر التى لا يعرف أحد عنها شيئا حتى وزارة التربية والتعليم وهى المسئولة عن التعليم فى مصر لا تستطيع التدخل فى شئون هذه المدارس من حيث المصروفات أو المناهج أو تدريس اللغات وحتى الجوانب السلوكية التى تروج لها بعض هذه المدارس وتتنافى فى أحيان كثيرة مع تقاليد المجتمع وعقائده". ثم يبدأ جويدة في سرد مخاوفه من انتشار 57 مدرسة أجنبية في مصر حتى الآن (32 أمريكية، 11 إنجليزية، 9 فرنسية، 3 كندية، مدرستان ألمانيتان) فيقول: "إن معظم خريجي المدارس الأجنبية فى مصر لا يدرسون اللغة العربية ولا يتعلمونها ولا يؤدون الامتحانات فيها ومن هنا سوف نجد أنفسنا أمام أجيال لا تتحدث لغتها ولا تعلم منها شيئا.. إن الأسرة المصرية تبدو سعيدة أمام أبنائها الصغار وهم يتحدثون اللغة الانجليزية أو الفرنسية أو الألمانية ولا يتكلمون العربية.. ويشعرون بسعادة أكبر والطفل لا يستطيع الكتابة بيديه لأنه لا يستخدم إلا جهاز الكمبيوتر وليس فى حاجة إلى أوراق وقلم.. وبعد جيل أو جيلين سوف نجد فى مصر أغلبية من المواطنين لا يتحدثون اللغة العربية.. لنا أن نتصور هذا الانفصال الرهيب فى تركيبة المجتمع المصرى فى ظل طبقية جديدة صنعتها المدارس الأجنبية والتفاوت الطبقى الرهيب الذى يهدد نسيج هذا المجتمع فى أهم مقوماته. كان من أهم مميزات المجتمع المصرى هذا التآلف والتواصل، بل التوحد بين فئاته المختلفة ولم تكن هناك فوارق ثقافية واجتماعية بهذه الضراوة.. ولكن مع التوسع فى المدارس الأجنبية سوف تصبح هذه الألفة تاريخا قديما بين أجيال رحلت. مع غياب اللغة سوف تختفى أشياء أخرى لا تهتم بها المدارس الأجنبية فى مناهجها ومن أخطرها مادة التاريخ.. إن التاريخ فى التكوين الثقافى والفكرى والإنسانى يمثل ضرورة شديدة الأهمية لأنه ذاكرة الشعوب.. ولنا أن نتصور شعبا بلا ذاكرة وبلا رموز وبلا قدوة. إن المدارس الأجنبية فى مصر تضع مادة التاريخ فى آخر القائمة، بل إنها تقوم بتدريس تاريخ الدولة صاحبة المدرسة.. إن التاريخ الأمريكى هو الذى يحتل الدرجة الأولى فى مناهج 32 مدرسة أمريكية تنتشر فى ربوع مصر ابتداء بحرب الاستقلال وانتهاء بالحروب الأهلية والتاريخ الإنجليزى له الصدارة فى المدارس الانجليزية.. إن روزفلت وتشرشل هما الرمز أمام التلاميذ المصريين.. وفى المدارس الفرنسية أو الألمانية أو الكندية نجد نفس المناهج التى تغوص فى تاريخ هذه الدول وتحتفى برموزها دون ذكر لرمز مصرى أو عربى باستثناء تاريخ الفراعنة الذى تدرسه كل مناهج الدراسة فى العالم. ويختتم جويدة مقاله بقوله: "لا ينبغي أن تكون هناك محميات خاصة للتعليم فى مصر بعيدا عن إشراف الدولة لأن هذه الجزر المتناثرة لا تهدد التعليم فقط ولكنها تهدد مستقبل أجيال يتم تشكيلها من خلال رؤى سياسية وفكرية بعيدة تماما عن جذور هذا الوطن ومكوناته الحضارية والإنسانية".