اللغة هى وعاء الفكر، وأداة النص، ووسيلة التعبير، فالدساتير والقوانين والأحكام القضائية، تعبر عنها مفردات اللغة، ولما كان فهم التشريعات القانونية واستيعاب معانيها مرتبطا بإتقان اللغة، يصبح إتقانها أمرا لازما للقضاة والمحامين وأساتذة القانون والمشتغلين به بصفة عامة، ومن المهارات الأساسية التى يجب أن يتحلوا بها؛ لأن حسن قيامهم بمهامهم يرتبط ارتباطا حتميا بإجادة قواعد اللغة والتعبير بها، ومع الشريعة والقانون، هى الأدوات الأساسية التى يتعين أن يتفوق فيها القاضى ويكون حجة على من عداه. وإذا كان الحكم القضائى -كما يردد القضاة!- هو عنوان الحقيقة، واللغة هى وسيلة نقل هذا الحكم للناس، فإن عناية القاضى باللغة والدقة فى قواعدها، تشكل ركنا أساسيا فى إضفاء المصداقية على الأحكام وتسبيبها، لأن هذه الأحكام تأتى تفسيرا لنصوص دستورية أو قانونية، لتطبيقها على وقائع محددة، فإذا لم يكن القاضى محيطا بمرامى اللغة ودلالاتها، فإن صياغته للأحكام ستأتى مشوبة بالتشوش والاضطراب، غير جامعة أو مانعة، وتحتمل التأويل والتضارب. والمتابع لقضائنا (الشامخ !) على مدى العقود القليلة الماضية، يلحظ بغير عناء انحطاطا مريعا فى مستوى اللغة العربية، فقها وأداء، وغالبا ما يأتى منطوق الأحكام القضائية وتسبيبها حاملا لفضائح لغوية يندى لها الجبين، وتئن تحت سنانها قواعد اللغة، ويتململ فى قبره حسرة وكمدا عليها سيبويه والخليل بن أحمد وسائر النحاة وكل عارف لفضل لغة القرآن، وكل غيور عليها. لقد كان قضاة مصر ومحاموها ورجال القانون فيما مضى يتمتعون بذائقة لغوية راقية، وقدرة فائقة على التعبير، وكانت أحكامهم ومرافعاتهم وصياغاتهم تأتى بمثابة قطع أدبية بليغة رصينة، مصحوبة بأداء خطابى مبهر، بل إن الأمر لم يقتصر على من يشغلون هذه المهن فى الحقيقة، بل كذلك فى عالم التمثيل، فمن يتابع الأفلام السينمائية القديمة، يجد الممثلين لأدوار القاضى والمحامى ورجل القانون فى هذه الفترة يتفوقون بجدارة فى الأداء والتعبير اللغوى، لا أقول على نظرائهم من الممثلين فى هذه الأيام، بل على شاغلى هذه المهن حقيقة، حيث يجب أن يتوارى قضاتنا ومحامونا حاليا خجلا أما هذه المقارنة. وأذكر أننى قرأت للكاتب والأكاديمى المسيحى الراحل د. نظمى لوقا فى كتابه الرائع "أنا والإسلام" أن أباه كان يتطلع ليعمل قاضيا أو محاميا، فألحقه ب"الكتّاب" عند أحد المشايخ فحفظ القرآن الكريم وهو دون العاشرة من عمره، فقد أدرك والده رغم كونه مسيحيا أن اللغة هى الأداة الرئيسية لبيان القاضى وإبداعه، وأن القرآن الكريم هو الوسيلة المثلى لتحقيق هذا الهدف، بل إننى على المستوى الشخصى التحقت لفترة ب"كتّاب" فى منطقة حلوان، حيث عشت هناك بضعا من سنواتى المبكرة، كان يشرف عليه مسيحى يدعى عم "عريان" يحفّظ فيه الأطفال القرآن الكريم! وهذا التدهور فى مستوى القضاة، وما يعانونه من أمية لغوية، كانت نتيجة طبيعية لمعايير اختيار أعضاء النيابة العامة، وهى المدخل الأول لتشكيل القضاة، التى قامت على أولوية الاعتبار الأمنى والمستوى الاجتماعى، وكانت تقارير مباحث أمن الدولة لها الدور الأساسى فى هذا المضمار، فأغلب من دخل سلك القضاء كان طالبا فاشلا حاصلا على تقدير مقبول، ويا حبذا لو كان أيضا ابنا أو قريبا لأحد القضاة أو رجال الشرطة أو المسئولين النافذين، فهذا هو جواز المرور للمنصب الرفيع وليس التقدير الدراسى، ومما يتطلبه التفوق فى فهم وأداء اللغة العربية. وكل من تابع محاكمات المتهمين بقتل متظاهرى ومعتصمى ثورة 25 يناير، لا بد أنه لاحظ هذا الامتهان للغة لعربية على ألسنة القضاة فى صياغة أحكام "مهرجانات البراءة القضائية"، والأمثلة على انتهاك حرمة اللغة أكثر من أن تحصى، وهى تنعكس على مصداقية الحكم، فقد يشوبه اللبس والعوار، والمثال البارز على ذلك يتجلى فى محاكمة المخلوع وعصابته الإجرامية، فالقاضى الهمام أحمد رفعت فى المحاكمة السابقة، وبعد نحو نصف قرن قضاها فى محراب "الشامخ"، أخطأ فى قراءة آيات قرآنية ثلاث مرات، رغم كونه لا يرتجل، بل يقرأ من أوراق أمامه، فضلا عن الإخلال الفادح الفاضح بأبسط قواعد اللغة، من نصب المرفوع، وجر المنصوب، ورفع المجرور. وهذا الانحدار اللغوى تكرر أيضا على لسان قاضى المحاكمة الحالى محمود الرشيدى، الذى أخطأ أكثر من مرة فى نطق اسم علاء مبارك، فهو مرة عباس، ومرة علاء حسان، ولما حاول استدراك الخطأ، استمر فى الخطأ والارتباك مناديا علاء حسن، إلى أن اكتشف متأخرا أن اسمه علاء حسنى، ليتهكم عليه المتهم قائلا: "الحمد لله إنك نطقت اسمى صح"، وليعتذر القاضى للمتهم عن ذلك، قائلا له: اعذرنى (!)، وأخطأ القاضى أيضا فى قراءة الآيات القرآنية، وتعددت أخطاؤه نطقا وتشكيلا فى قواعد الرفع والجر والنصب، على الرغم من أنه أيضا يقرأ من أوراق مكتوبة.. هدى الله قضاءنا الشامخ، ومجلسه الأعلى للارتقاء بأحوال القضاء والقضاة!