لقد هالني وأزعجني ما تواترت عليه التعليقات منذ صدور حكم محكمة الجنايات في قضية القرن تعقيبا علي الكلمة التي قدم بها رئيس المحكمة المستشار أحمد رفعت لمنطوق الحكم. فبدأت بكلمة في صحيفة الأهرام للكاتب الصحفي يوسف القعيد عبر فيها عن استيائه وألمه البالغ لما شاع في تلك الكلمة من أخطاء نحوية تكاد لا تسلم منها عبارة واحدة من رفع المجرور أو نصب المرفوع فضلا عن اللحن في آيات القرآن الكريم علي نحو لا يليق بمكانة القضاء الرفيعة، ثم تلاه تعليق تليفزيوني للصحفي إبراهيم عيسي حدد فيه مواقع الخطأ وذكر وجه الصواب في كل منها ، ثم قرأت تعليقا آخر للإعلامي التليفزيوني أحمد منصور نحا نفس المنحي في تعداد المواقع التي أصابها العوار من كلمة رئيس المحكمة. وبتاريخ 01/6/2102 قرأت مقالا للكاتب الكبير الأستاذ أحمد طه النقر بصحيفة الأخبار عنوانه " المنصة تغتال اللغة العربية!! " والمقال قطعة أدبية رفيعة المستوي، رائعة الدلالة عن مدي الأسي الذي عاناه كاتبه من سماع هذه الكلمة بما شاع فيها من لحن في قواعد النحو الأولية التي لا تخفي علي طالب بالمرحلة الإعدادية من التعليم الأساسي. وأنا مع هؤلاء جميعا فيما انتابهم من حسرة وألم لما سمعوه ، خاصة وقد وقع من قاض جليل بينه وبين انتهاء صلته بمنصة القضاء أيام قليلة ، بعد رحلة طويلة شرف فيها بالجلوس إلي تلك المنصة وكان أداؤه القضائي فيها مشرفا ومذكورا بكل خير. ذلك أن القاضي منوط به في معرض إقامة العدل بين الناس ، أن يتوسل إلي ذلك بتطبيق حكم القانون تطبيقا سليما، ووسيلته في التعبير عن مراده في هذا المجال هي اللغة العربية، وللغة قانونها وهو "علم النحو"، فينبغي عليه أن يحترم هذا القانون، خاصة في السهل الميسر من الأمور: الفاعل والمفعول، والجار والمجرور، والصفة والموصوف، وأدوات نصب الفعل وجزمه، وعلامة جزم الفعل الصحيح والمعتل الآخر، ونصب المثني وجمع المذكر السالم وجزمهما، وعلامة نصب جمع المؤنث السالم، وفي ذات الوقت أعذره إذا أخطأ في العسير من القواعد كالاختصاص والندبة والاستغاثة. ولكني أعزو شيوع الأخطاء في السهل الميسر من الأمور إلي أن المتحدث حين يتحدث يقذف بالكلمة قذفا، دون أن يحدد مرماها ومستقرها، لينزل عليها القاعدة النحوية الصحيحة ، ولو أنه أعمل التفكير قبل أن يتكلم لما وقع في الخطأ. ولعل ما أثار السامعين في كلمة رئيس المحكمة، أنهم متأثرون في حكمهم عليها ، بأن القاضي قمة عالية، وقامة شامخة، وإذا وقع الخطأ من إنسان، يزنه الناس بميزان النسبية، ويقدرون فداحته أو تفاهته بقدر من صدر منه، فالحكماء يقولون: "كذبة الأمير بلقاء"، "وهفوة الكبير خطيئة"، "وحسنات الأبرار سيئات المقربين". وإني وإن كنت أري أن ما وقع فيه رئيس المحكمة، يقع فيه كبار القادة والوزراء وكثير من خطباء المساجد وعلماء الأزهر ووسائل الإعلام مرئية ومسموعة ، ومقروءة ، والصحف في كل يوم تزخر بالأخطاء النحوية الفاحشة ، إلا أن خطأ هؤلاء جميعا ، لا يبلغ فداحة هذا الخطأ إذا وقع من القاضي ، صاحب المقام الرفيع ، وهو يعتلي المنصة العالية ، وكلمته حكم. لقد قال مسلمة بن عبد الملك: "اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه" . وقال عبد الملك بن مروان: "اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب النفيس ". وقال الشاعر: النحو يبسط من لسان الألكَنِ والمرء تكرمه إذا لم يلُحنِ وإذا طلبت من العلوم أجلها فأجلها منها مقيم الألسن إن لحنة في آية قرآنية قد تنحدر بمن وقعت منه إلي هاوية الكفر والعياذ بالله، ففي الآية الثانية من سورة التوبة " وأذان من الله ورسوله إلي الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله". وقد وردت كلمة ورسوله مرفوعة لأن مؤداها: أن رسول الله بريء من المشركين كبراءة الله سبحانه وتعالي منهم . فإذا لحن القارئ في كلمة "ورسوله " وقرأها بكسر اللام كان مؤداها أن الرسول معطوف علي المشركين وأن الله بريء منه والعياذ بالله. هذه واحدة. وواقعة أخري وقعت في عهد أحد خلفاء بني أمية ، إذ بلغه أن أحد شعراء الخوارج الذين ينازعونهم السلطان، قال بيتا من الشعر أسند فيه الخلافة إلي زعيم من زعماء الخوارج منازعا في ذلك بني أمية حيث قال: ومنا صهيب والقطين وقعنب ومنا أميرُ المؤمنين شبيب فاستدعاه الخليفة وواجهه بإسناده إمارة المؤمنين لشبيب أحد زعماء الخوارج وأمر بقطع رقبته ، فاعترض الشاعر وقال للخليفة الأموي، علي رسلك يا أمير المؤمنين ما قلتها علي هذا الوجه ولكني قلت: ومنا صهيب والقطين وقعنب ومنا أميرَ المؤمنين شبيب وقرأ كلمة " أمير المؤمنين " منصوبة فأصبحت منادي بأداة نداء محذوفة، والنداء موجه للخليفة الأموي بما يمتنع معه منازعته في أمر الخلافة، فأمر بإخلاء سبيله. وهكذا فإن اللحن في كلمة واحدة قد يؤدي إلي الكفر، وتغيير ضبط كلمة واحدة قد تنجو به رقبة من حد السيف. يا قوم: إن لغتنا العربية لا تستحق منا أن نغتالها بكثرة اللحن في قواعدها، وهي ليست معجزة، فقد تعلمناها ونحن في المدارس في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين أيام أن كان التعليم تعليما، وقد أسدي إليها وإلينا أساتذتنا من خريجي مدرسة دار العلوم العليا قبل أن تصبح كلية جامعية ، فضلا كبيرا، حيث أن اللغة العربية لمن تكن تدرس إلا في المرحلتين الابتدائية والثانوية ثم نتوجه إلي الكليات الجامعية المختلفة عملية ونظرية، ونتخرج أدباء أو أطباء أو مهندسين أو أصحاب تخصصات مختلفة، ولكن نشترك جميعا في إتقان قواعد اللغة واستغلالها في التعبير تعبيرا صحيحا عما نريد، لا يختلف في ذلك الطبيب عن المهندس عن الأديب عن الضابط في الجيش أو الشرطة. فهل يعود ذلك الماضي المجيد؟ أرجو أن يعود قريبا، وإذن ستبلغ سعادتي مداها لإحياء لغة القرآن الكريم، واستقامة لساننا كطليعة للأمة العربية، وما ذلك علي الله بعزيز.