فى إطار التراشق والمزايدات والتخوين والأجواء المتوترة داخلياً وخارجياً، أصبحت المعارضة الآن كلمة تحمل مضامين غامضة ومريبة لدى البعض رغم مشروعيتها، حيث أصبحت موضع شك وريبة من المزايدين وممن هم متهمون بأنهم «ملكيون أكثر من الملك» ورغم كون هؤلاء أو بعضهم يدرك تماماً أنه لا مجال للتزيد فى أمور كثيرة تعد بديهية، فإنهم ينخرطون فى أداء هذه الأدوار وكأنهم قد صدقوا أنفسهم ويلقون الاتهامات الجزافية على الغير هنا وهناك دون أدلة أو أسباب حقيقية، كما لو كانوا هم من يملكون صكوك الوطنية والإخلاص والتفانى من أجل الوطن، حتى أن مواقفهم وتصريحاتهم على فترات زمنية متفاوتة قد تكشف الكثير عن حقيقة مواقفهم على مدى العصور المتتالية! إن ما تقوم به هذه النماذج المجتمعية أو النخبوية لهو محاولة إسكات أو إرهاب للأصوات المعارضة أو الآراء المخالفة عن طريق الانقضاض عليهم، لأنهم يرون أنهم يغردون خارج السرب فى مزايدات تهدف لترسيخ مفاهيم بعينها أو توجهات فيعمدون على توجيه وكيّل اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان فى حق الغير، فى محاولة منهم لإخراس أصواتهم والمزايدة عليهم! ومن ثم فإن هناك تساؤلاً يفرض نفسه ببساطة الآن حول مفهوم المعارضة وإذا ما كانت قد أصبحت حالياً بمصر خارج المعادلة السياسية أو كلمة سيئة السمعة أو غير مرغوب فيها؟! وإذا ما كانت تعد نوعاً من أنواع الخيانة للوطن أو الاستهداف للأنظمة، سواء كانت مستبدة أو غير ذلك أو أنها تستهدف الأمن القومى للبلاد؟! أو تخضع مثلاً كما يدعى البعض إلى أجندات خفية كانت أم أجنبية؟! ولذلك فإننى أعتقد فى هذا الإطار بأننا يجب أن نقر بأن البداية الحقيقية لمصر فى هذه الفترة كما أنها تتطلب الاستقرار الأمنى والاقتصادى فإنها أيضاً بلا شك تتطلب بناء نظام سياسى سليم يحمل فى طياته أبجديات تضمن عملية سياسية ناجحة وسلسة تكفل كافة الحقوق السياسية والانطلاق نحو المستقبل على أسس سليمة تتحرى الدقة والموضوعية وترتفع فوق الصغائر التى أثبتت فشلها من قبل فى الأنظمة التى تهاوت تباعاً بمصر فى السنوات الأخيرة. إن مبدأ النقد والمراجعة والتصويب للسلبيات لهو مبدأ غاية فى الأهمية بل إنه أحد أهم أدوار الإعلام فيما يتعلق بالرقابة والتوعية تحديداً، ولذلك فلا يمكن بأى حال من الأحوال أن يقوم الإعلام بعزف معزوفة واحدة ليل نهار تحت عنوان «كله تمام وكله هايل»!! فينخدع الرأى العام والمسئولون على حد سواء!! وإنما لا مفر له من القيام بدوره فى التنبيه الدائم لكل ما ينال من مصلحة الوطن والمواطن إيماناً بحقيقة أن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. إن الوطن لغال ومقدس حتى وإن أدمن البعض تقديس الأشخاص لا الأوطان والمصلحة الخاصة لا مصلحة الوطن، فهؤلاء الأشخاص موجودون فى كل العصور فقد تخصص البعض منهم فى النفاق واستمرائه فهو أسهل كثيراً بالنسبة لهم من العمل! كما أنه لا يتطلب مهارات أو مؤهلات أو تصوراً أو اجتهاداً، ومن ثم يبقى التعويل هنا على القيادات والزعامات والنخبة ومدى قبولهم للاستمرار على هذا النحو ومدى قبولها أيضاً للرأى الآخر أو المعارض ما دام يصب فى الإطار السليم بما يهدف لمصلحة الوطن أو المصلحة العامة وليس فقط لمجرد المعارضة كما يفعل البعض الآخر من الباحثين عن أدوار أو راغبى لفت الأنظار. إن الأوضاع فى مصر لم تعد تحتمل بأى حال من الأحوال السقوط مجدداً فى أى من أخطاء الماضى التى تسببت فى تآكل أنظمة كانت تبدو على ما يرام إلا أنها اتضح فيما بعد أنها كانت هشة للغاية فسقطت أخيراً، ليحلم المصريون بمصر الحديثة التى يتمنونها لأنفسهم ولأبنائهم وأحفادهم، وبالتالى فإننا فى أمس الحاجة إلى الإصلاح السياسى الشامل جنباً إلى جنب مع التثقيف السياسى لنشر الوعى السياسى بين الشباب ولتنمية المعارضة الجادة الواعية الحقيقية بمصر ولدعم أحزاب حقيقية لا أحزاب كرتونية كالتى تسببت فى إفساد المناخ السياسى بمصر خلال السنوات الأخيره فكانت سبباً فيما نحن عليه الآن ونحاول جاهدين الخروج منه! وأما كل هذا فلن يتأتى فى ظل انعدام الرؤية أو ديكتاتورية الرأى لدى البعض من المثقفين، أو استنساخ بعض التجارب السابقة التى أثبتت فشلها الذريع بالفعل، كما أنه لن يتأتى إلا عندما نحب مصر أكثر مما نحب أنفسنا وأن نحرص على مصلحة الوطن أكثر من مصالحنا الشخصية الضيقة وأن نضعها بحق نصب أعيننا.