الهجرة تتلقى ردًا من التعليم العالي بشأن توثيق الأوراق الرسمية لعدد من الطلاب العائدين من روسيا    عاجل.. تراجع سعر الدولار الآن في عدد من البنوك.. إليك آخر تحديث للعملة    «معلومات الوزراء»: لندن تتصدر مؤشر التمويل الأخضر عالميا    بلينكن: تخفيف الوضع الإنساني في غزة رهين وقف إطلاق النار    الرئيس السيسي يستقبل رئيس جمهورية البوسنة والهرسك بقصر الاتحادية    دوري أبطال أوروبا.. بايرن ميونخ ينشد الفوز أمام ريال مدريد    الزمالك: الفوز على الأهلي ببطولتين.. ومكافأة إضافية للاعبين بعد التأهل لنهائي الكونفدرالية    عاجل| مصدر بالأهلي ل "الفجر الرياضي": هذا هو حارس نهائي إفريقيا أمام الترجي التونسي    الأرصاد: درجات الحرارة تعود لطبيعتها بعد ارتفاع الأسبوع الماضي    أبو الغيط يهنئ الأديب الفلسطيني باسم الخندقي على فوزه بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر)    قافلة طبية مجانية بالتعاون مع المستشفى الجامعي بالفيوم    تفتيش 70 ألف منشأة.. وزير العمل: السلامة والصحة المهنية أولوية قصوى    بقيمة 30 مليون جنيه.. «تنمية المشروعات» يوقع عقدا لتمويل المشاريع متناهية الصغر    المشاط: تعزيز الاستثمار في رأس المال البشري يدعم النمو الشامل والتنمية المستدامة    9 مايو أخر موعد لتلقي طلبات استثناء المطاعم السياحية من تطبيق الحد الأدنى للأجور    الأنبا بشارة يشارك في صلاة ليلة الاثنين بكنيسة أم الرحمة الإلهية بمنهري    بحضور وزير الخارجية الأسبق.. إعلام شبين الكوم يحتفل ب عيد تحرير سيناء    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    ضحايا بأعاصير وسط أمريكا وانقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل    التعاون الاقتصادي وحرب غزة يتصدران مباحثات السيسي ورئيس البوسنة والهرسك بالاتحادية    مرصد الأزهر يستقبل سفير سنغافورا بالقاهرة لبحث سبل تعزيز التعاون المشترك لمكافحة الإرهاب    وزارة العمل تنظم ورشة لمناقشة أحكام قانون العمل بأسوان    عبد الواحد السيد يكشف سبب احتفال مصطفى شلبي ضد دريمز    برشلونة أبرزها.. مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    تطور عاجل في مفاوضات تجديد عقد علي معلول مع الأهلي    بنزيمة يغيب عن الكلاسيكو ضد الهلال    رئيس أكاديمية الشرطة: نطبق آليات لمكافحة تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر    إصابة عامل بطلقات نارية في ظروف غامضة بقنا    موعد إعلان أرقام جلوس الصف الثالث الثانوي 2023 -2024 والجدول    احالة 373 محضرًا حررتها الرقابة على المخابز والأسواق للنيابة العامة بالدقهلية    أمن القاهرة يضبط عاطلان لقيامهما بسرقة متعلقات المواطنين بأسلوب "الخطف"    ولع في الشقة .. رجل ينتقم من زوجته لسبب مثير بالمقطم    البحوث الإسلامية يعقد ندوة مجلة الأزهر حول تفعيل صيغ الاستثمار الإنتاجي في الواقع المعاصر    طارق الشناوي ينعى عصام الشماع: "وداعا صديقي العزيز"    منهم فنانة عربية .. ننشر أسماء لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائى فى دورته ال77    «ماستر كلاس» محمد حفظي بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير.. اليوم    مؤسسة أبو العينين الخيرية و«خريجي الأزهر» يكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين.. صور    بحث التعاون بين مصر وإندونيسيا في صناعة السيارات الكهربائية والوقود الاخضر    «كلبة» سوداء تتحول إلى اللون الأبيض بسبب «البهاق»    تعرف على الجناح المصري في معرض أبو ظبي للكتاب    أول تعليق من ياسمين عبدالعزيز على طلاقها من أحمد العوضي    خسائر جديدة في عيار 21 الآن.. تراجع سعر الذهب اليوم الإثنين 29-4-2024 محليًا وعالميًا    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    رئيس الوزراء: 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة تدهورت حياتهم نتيجة الحرب    مطار أثينا الدولي يتوقع استقبال 30 مليون مسافر في عام 2024    رئيس كوريا الجنوبية يعتزم لقاء زعيم المعارضة بعد خسارة الانتخابات    أمين لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب: هذا أقوى سلاح لتغيير القدر المكتوب    مصرع عامل وإصابة آخرين في انهيار جدار بسوهاج    من هي هدى الناظر زوجة مصطفى شعبان؟.. جندي مجهول في حياة عمرو دياب لمدة 11 سنة    "استمتع بالطعم الرائع: طريقة تحضير أيس كريم الفانيليا في المنزل"    مفاوضات الاستعداد للجوائح العالمية تدخل المرحلة الأخيرة    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    علييف يبلغ بلينكن ببدء عملية ترسيم الحدود بين أذربيجان وأرمينيا    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بالصور والفيديو| «الوطن» تخترق الأنفاق من «مدخل» غزة بعد «مذبحة الجنود» فى رفح
أصحاب الأنفاق يرفضون اتهامهم بالمشاركة فى حادث رفح.. ويردون: استخدمنا أنفاقنا لنقل الغذاء للجنود المصريين بعد قطع الإمدادات عنهم أثناء ثورة 25 يناير
نشر في الوطن يوم 09 - 09 - 2012

«حالة من الحزن ممزوجة بالعتاب» كان هذا هو المشهد المسيطر على أهالى قطاع غزة الفلسطينيين بعد توجيه أصابع الاتهام إليهم فى حادث رفح الأخير، الذى راح ضحيته 16 جندياً مصرياً. يحاولون درء الاتهامات عنهم وعن أنفاقهم التى تمثل لهم شريان الحياة بعد الحصار الذى فرضه المحتل الإسرائيلى على القطاع من ناحية والحصار الذى فرضه حسنى مبارك الرئيس السابق، طوال فترة حكمه، وبلغ أشده عام 2008 بعد القصف العنيف على القطاع. ولا يجد أهل القطاع كلمات كافية لوصف الحادث سوى أنه غادر وأليم ولا يمتُّ لبنى البشر بصلة. بمجرد أن يعرفوا من لهجتك أنك مصرى، يهرولون إليك لتقديم واجب العزاء أولاً، ثم يبدأون بتوجيه اللوم والعتاب على سيل الاتهامات التى انهالت بها وسائل الإعلام المصرية على الغزاويين دون وجود أدلة؛ متناسين العلاقات الوطيدة وصلات الرحم التى جمعت بين الشعبين عندما كان «القطاع» يقع تحت حكم الجانب المصرى قبل عام النكسة 1967 ليأتى المحتل الإسرائيلى، ويضع أسلاكه الشائكة فى قلب مدينة رفح ويقسمها إلى رفح المصرية ورفح الفلسطينية.
ليس فقط الاتهامات، التى وجهتها وسائل الإعلام بمختلف أنواعها المسموعة والمرئية والمطبوعة، هى التى أثارت غضب وعتاب الغزاويين، وإنما الدعوات التى أطلقتها تلك الوسائل بضرورة سرعة غلق الأنفاق التى تمثل شرياناً حياتياً لهم ولعائلاتهم بعد الحصار الذى طال القطاع أرضاً وجواً وبحراً، ما جعلهم يرددون: «فرحنا لزوال مبارك وحصاره للقطاع 30 عاماً، وعندما أردنا أن نتنفس الصعداء طالب شعبه بإغلاق مصدر حياتنا فى وجوهنا، بل واتهمنا بقتل إخواننا فى الجيش المصرى».
«الوطن» زارت القطاع المحاصر وأنفاقه فى محاولة لنقل ما يحدث داخل الأنفاق وخارجها صوتاً وصورة، وجلست مع أصحابها والعاملين فيها والمسئولين عن تنظيمها وتأمينها من جانب حكومة «حماس». الجميع يؤكدون أنها أنفاق استثنائية لجأوا إليها بعد شدة الحصار الذى بلغ أشده عام 2008، حيث أُغلق معبر رفح المخصص لحركة الأفراد ونظيره الإسرائيلى «كرم أبوسالم» المخصص لعبور البضائع، ووقع الفلسطينيون فريسة للقصف الإسرائيلى من ناحية والحصار المصرى من ناحية أخرى، حسب أقوالهم.
«أبوعمر» رجل أربعينى وواحد من القلائل الذين بادروا بحفر الأنفاق فى عام 2006، وتحديداً بعد وصول حركة المقاومة الإسلامية «حماس» إلى الحكم، يتحدث عن «الأنفاق» كجزء لا يتجزأ من قضيته الفلسطينية، التى شكّل فيها الحصار ضلعاً أساسياً، ورفض أن يكلمنا شفاهة، مقرراً أخْذنا فى جولة إلى منطقة الأنفاق التى طالما سمعنا وتحدثنا عنها كثيراً: «سوف أريك البعبع الذى يتحدث عنه المصريون ويطالبون بإغلاقه دون هوادة».
انطلقنا بسيارته من مدينة غزة متجهين إلى «رفح» الفلسطينية لنصل إليها بعد نصف ساعة، تحدث خلالها «أبوعمر» عن بداية لجوء الفلسطينيين إلى حفر الأنفاق: «بعد وصول حماس إلى الحكم اشتد الحصار على القطاع، ووجدنا أنفسنا لا نمتلك الشغلات الأساسية للحياة. حتى لقمة العيش لم نستطع توفيرها لأطفالنا، وكنا مضطرين نعمل المستحيل وإلا نصير مثل الصومال».
هنا فكر «أبوعمر» فى حفر نفق له للحصول على «الشغلات الأساسية للحياة» من المواد الغذائية والدواء والملابس بعدما ندر وجودها فى «القطاع» وعجز عن توفيرها لطفليه، تحدث مع عدد من أصدقائه المقربين طالباً مساعدتهم، خاصة أنه لن يقدر على توفير النقود الكافية لحفر نفق والتى تصل إلى 40 ألف دولار، وبالفعل اقتنع خمسة منهم بالفكرة وقرروا المغامرة بنقودهم لحفر النفق.
يتذكر «أبوعمر» المشاكل التى واجهها فى حفر النفق بداية من محاولاته توفير نقود الحفر، التى كان من بينها بيع مصوغات زوجته الذهبية ليضيفها إلى ما ادخره من محله التجارى الذى كان يبيع المنتجات الغذائية وتوقف عن العمل به لعدم توافرها، مروراً بالصعاب التى قابلوها فى الحفر، يقول: «بدأنا نحفر، القصة كانت غير سهلة، المكان خالى وواسع، وطيران الاستطلاع الإسرائيلى بيصور».
وأضاف الرجل الأربعينى: «كنا نحفر بمعدات بدائية، وكنت أنا وأصدقائى نشتغل بإيدينا كنوع من التوفير حتى لا تتعدى ميزانيتنا ال40 ألف دولار، وحفر البئر ياخد وقت وجهد، وكانت المخاطر تتعدى ال70%، مات الكثير من أصدقائى أمام عينى، لكن عندما كنا نفتكر إننا هنخضع لإسرائيل، كان يصيبنا نوبة من النشاط، ونقول: ربنا موجود مش هينسانا».
ويتابع «أبوعمر»: «حفرنا البئر، وبعدها جلسنا نفكر كيف نستطيع أن نصل إلى الجانب المصرى، خاصة أن المجموعة التى كانت تحفر نفقاً على مقربة منا بعدما انتهت من الحفر وجدت نفسها تعود بنفقها إلى غزة مرّة أخرى. لا نريد أن نخسر وقتاً وجهداً وأموالاً، هنا فكرنا فى شيئين؛ أولاً ضرورة وجود شخص لنا فى الجانب المصرى، وهو ما نطلق عليه «الأمين» بلغة الأنفاق، يساعدنا فى تأجير قطعة أرض ينتهى فيها نفقنا، وثانياً التوجه إلى شخص ذى خبرة عالية فى استخدام البوصلة».
تمكن الرجل الأربعينى من الوصول إلى «الأمين» الذى كان على قرابة بأحد شركائه الخمسة، ووافق «الأمين» على الانضمام إليهم مقابل الحصول على 60% من الأرباح، إلا أن الرجل الأربعينى رفض، خاصة أنه لم يشارك فى رأس المال. وبعد مفاوضات وافق على أخذ 50% من الأرباح لتبدأ بعدها رحلة البحث عن الشخص الخبير فى استخدام البوصلة.
نجح «أبوعمر» فى الوصول إلى الخبير وأعطاه تصوراً لنفقه الذى يريد أن يصل طوله إلى 220 متراً وعمقه إلى 7 أمتار، على أن يكون آخر هذا النفق هو السلك الحدودى المصرى، وبالفعل جرى تحديد الاتجاه وبدأت عملية الحفر، ووصل «أبوعمر» إلى ال90 متراً الأولى يقول: «كانت الساعة ال3 صباحاً عندما وصلت إلى 90 متراً، وسمعت صوتاً فوق رأسى. حسيت إنى بمشى فى زاوية قايمة، طفيت اللمبة وقلت لأصحابى مش بدى أسمع ولا صوت، وقّفوا الشنيور فيه صوت عندى، وطلبت من شاب معانا إنه يطلع لحد السلك وأنا أدق بالأسفل، وعرفت أنى عديت للجانب المصرى»، وأضاف: «تانى يوم توجهت للنفق فى نفس التوقيت للتأكد من الصوت الذى سمعته بالأمس، وبالفعل مرت سيارة فى ال3 والنصف فجراً، عرفت أنى فوق الأسفلت، جبت سيخ حديد مسلح ودقّيت بالراحة، فتح عندى وعرفت أنا فين بالظبط، ودعمت المنطقة التى وصلت إليها بالأخشاب حتى لا تنهار، وفى الوقت نفسه كان «الأمين» المصرى حصل على قطعة الأرض التى سوف ينتهى إليها (النفق)، وكانت عبارة عن حظيرة للبهائم». واستمر الرجل ورفاقه فى الحفر لمدة شهر ونصف الشهر إلى أن وجد نفسه وصل إلى ال200 متر ليجد سؤالاً يطرح نفسه بقوة: «كيف يوجه نفقه لحظيرة البهائم؟»، ليتصل الرجل بزملائه على الجانب الفلسطينى طالباً منهم الاتصال ب«الأمين» المصرى وإبلاغه أنه سيحفر الطريق، ويخرج تليفونه ويقوم بالاتصال بالأمين حتى يراه ويوجه النفق لحظيرة البهائم، وأخرج «أبوعمر» تليفونه من ثقب أحدثه فى الطريق الأسفلتى ليرنّ الهاتف ويسمعه «الأمين» ويدله على حظيرة البهائم.
لم يخل حفر النفق من عدة مشاكل تعرض لها الرجل الأربعينى وشركاؤه، فهو ما زال يتذكر صديقه الذى مات بعدما وقعت صخرة على مؤخرة رأسه، وكان لا يبعد عنه سوى مترين، كما لم ينس مشهد صديقه الذى اخترق جسده «سيخ» حديدى جعله يفارق الحياة تاركاً خلفه أسرة يعيلها قائلاً: «كل مرّة كنت بنزل مش عارف هارجع تانى لأبنائى أم لا».
ويتذكر كم من بيوت وأسر فتح هذا النفق لها مصدراً للرزق! ويحكى قصة الطبيب الذى تخرج فى تركيا ولم يجد له عملاً يعيل به أولاده الخمسة وزوجته سوى العمل فى النفق، كما يتحدث عن المصريين من حاملى المؤهلات العليا، الذين عملوا معه من الجانب المصرى، «ووصل عددهم إلى 10 بينهم شاب كنا نعلم أنه يعمل لدى جهة أمنية سيادية فى مصر وكنا نتركه ونعطيه أجراً على عمله، وكان هو على يقين أن «الحصمة» أى «الزلط» الذى يدخله القطاع لإعادة بناء البيوت التى هدمها قصف الاحتلال لن تضير الجانب المصرى أو الأمن المصرى»، بحسب كلامه.
ويسأل «أبوعمر» عن جهاز أمن الدولة المصرى المنحل قائلاً: «لم تكونوا وحدكم تعانون من هذا الجهاز، حيث كان يفرض بعضٌ من ضباطه إتاوة لغضّ الطرف عن الأنفاق تصل إلى 8 آلاف جنيه شهرياً وإلا يجرى الإبلاغ عنا».
النفق الأول ل«أبوعمر» لم يستمر طويلاً، فبعد أن استغرق حفره 5 شهور كاملة، جرى هدمه بعد شهرين من الجانب المصرى، يقول: «أول نقلة اشتغلناها كانت أرز لمدة 10 أيام، وتمكنا من إدخال 300 طن إلى القطاع عن طريق السحب، حيث كنا نضع جوالات الأرز على شحاطات جلدية موصولة بحبل ينتهى طرفه بجرس داخل زجاجة من الكولا، عندما ينتهى الأمين المصرى من وضع الجوالات يجذب الحبل فيرن الجرس فيسحبه الجانب الفلسطينى».
واستطاع الرجل ورفاقه استرجاع رأسماله خلال ال10 أيام الأولى من العمل، حيث كان يأخذ 120 دولاراً مقابل نقل جوال الأرز فى الوقت الذى كان يُدخله أصحاب أنفاق أخرى ب700 دولار.. «كانت حجتنا وقتها أننا صنعنا هذه الأنفاق لكى نحد الحصار على أهالينا وليس المتاجرة بهم، لأن هذا الغلاء كان يؤثر على أسعار السلع الغذائية».
واستمر الرجل فى نقل الأرز، واستعان فى عمله بثمانية عمال مقابل 200 دولار للعامل الواحد، حتى أُبلغ عن نفقه وفوجئ أثناء ذهابه إلى الجانب المصرى بعسكرى يضع «كلاشنكوف» على رأسه، ويطالبه بالخروج، إلا أنه فرّ هارباً، وفوجئ بعدها بأن الأمن المصرى فرّغ حمولة سيارة كانت تحمل صرفاً صحياً فى النفق لدرجة أن الصرف وصل إلى فتحة النفق فى الجهة الأخرى، يقول: «وسائل غلق الأنفاق لا تخرج عن هذه الطرق؛ إما إغراقها بالصرف الصحى أو بالمياه العادية، أو رشها بغاز أعصاب، أو ردمها بالجرافات».
لم ييأس «أبوعمر» ورفاقه، وقرروا إعادة حفر النفق مرة أخرى، ولكن هذه المرة يجب أن يتجنبوا الأخطاء التى وقعوا فيها فى النفق الأول، الأوضاع أصبحت أكثر تطوراً، وتحولت الأنفاق إلى صناعة، بحسب كلام الرجل الأربعينى، لذا قرر أن يكون نفقه على عمق 22 متراً بدلاً من 7 أمتار، وأن يكون طوله 600 متر، حتى يتخطى أكمنة الشرطة المصرية، وعرضه متراً وعشرة سنتيمترات فى متر وثمانين سنتيمتراً، لكن تبقى أمامه عقبة التمويل، ليرتفع عدد شركائه من 6 إلى 22 فرداً.
واستمر الرجل فى الحفر محاولاً اللحاق بعيد الأضحى لإدخال العجول والخرفان إلى القطاع. وكان العمل فى ال12 ظهراً لأنه الوقت الذى كان يتناول فيه الجنود المصريون غداءهم، لكن الظروف تأتى بما لا يشتهى الرجل حيث واجه أثناء حفره بركة مياه زراعية جعلته ينحرف قليلاً عن مسار نفقه، وهو ما استغرق وقتاً فى الحفر أضاع عليه عيد الأضحى، الذى تبعه القصف الإسرائيلى والحرب التى شُنّت على القطاع فى 2009، والتى توقف بسببها العمل لمدة 6 أشهر كاملة تجبناً للطيران الإسرائيلى.
«وصلنا إلى منطقة الأنفاق» هكذا قال الرجل عندما أوقفنا حاجز أمنى عليه إشارة بالوقوف، ليفتح الرجل نافذة سيارته ويصافح ضباط الأمن الداخلى التابعين لحركة حماس قائلاً: «لا يُسمح لأى أحد بدخول المنطقة غير أصحاب الأنفاق والعاملين بها، فحركة الأنفاق تراقَب من قبَل لجنة خاصة تابعة لهيئة الحدود تتابع سير العمل وتنظيم الحركة فيها»، ومتابعاً: «بعدما وقع حادث رفح الأليم جاءتنا اللجنة وطلبت منا إغلاق الأنفاق بالكامل، وقالت حرفياً بأن أى حد يمر من الأنفاق سواء من الجانب المصرى أو الفلسطينى سوف يجرى إعدامه».
وأضاف: «هذه اللجنة لها أفرادها المنتشرون على الأنفاق يتابعون ما يُتداول عبرها كجزء من السيطرة عليها وخاصة بعدما ضبطوا أنفاقاً تهرّب موادّ وحبوباً مخدرة من مصر إلى غزة، خاصة فى الأنفاق الواقعة شرق معبر رفح وحتى إسرائيل، ويصعب دخولها من قبل أفراد اللجنة ليلاً حتى لا يكونوا فريسة سهلة للجيش الإسرائيلى». توجهنا إلى شرق المعبر ووجدنا عشرات الأنفاق المهدمة من جانب حكومة «حماس» ويقابلها فى الجانب الآخر جرافات الجيش المصرى لإغلاقها من الجانب المصرى.
العلم المصرى يرفرف على الجانب الآخر، لا يبعد سوى عشرات الأمتار، الجنود المصريون يقفون لا يأبهون بالشمس الحارقة التى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية، ينظر إليهم الرجل الفلسطينى وصوته يمتلئ حزناً قائلاً: «تربطنا علاقات جيدة بالجنود المصريين خاصة أننا نراهم يومياً ونتبادل الأطعمة والشاى، ولكن بعد أحداث رفح أصبحوا يتجاهلوننا وكأننا نحن من نفّذنا العدوان على زملائهم».
وتساءل: «هل تعلمون أن أهالى رفح وأصحاب الأنفاق كانوا يمدون الجنود المصريين الموجودين فى منطقة رفح والعريش بالمواد الغذائية والأطعمة أثناء الثورة حيث قُطعت الإمدادات عن الوحدات؟ وبعد كل ذلك يتهمنا الإعلام المصرى بأننا قتلة ومهربون!».
ينظر الفلسطينى إلى الجندى المصرى ويشير له محاولاً بعث تحية إليه، يردها المصرى إليه بوجه عابس، ثم يقف بملامح جادة لمواصلة شغله.
خيام متجاورة مصنوعة من مادة البلاستيك تشبه الصوب الزراعية تتراص بجاور بعضها البعض، يشير إليها الفلسطينى قائلاً: «هذه هى الأنفاق» بعضها مخصص للأفراد، ولا تتعدى ال 11 نفقاً أغلبها مغلق خاصة بعد أن فُتح معبر رفح بشكل دائم».
ننتقل إلى نفق آخر مخصص لنقل السولار يتقدم صاحبه ليصافح «أبوعمر»، ثم يشرح لى كيفية عمله: «هذه الكميات تورَّد إلى القطاع بعد الاتفاق مع تجارها عبر «الأمين» المصرى الذى يتسلمها ويفرغها فى بركة، ويجرى سحبها بخراطيم عن طريق «موتور» لتصل إلى الجانب الفلسطينى الذى يوصلها بخزانات لحين تأتى سيارات لنقلها».
تركنا الأنفاق المخصصة للسولار وتوجهنا إلى جاراتها المتخصصة فى نقل مواد البناء من «الحصمة» أى الزلط والأسمنت، بعضها يتخذ شكل البئر، حيث يتم إنزال «جرادل» بلاستيكية عن طريق موتور ثم يتم سحبها إلى أعلى محملة بالحمصة التى يستقبلها اثنان من العمال ليقوما بإنزالها ومن ثم تفريغها فى الحفرة العميقة التى حفروها بمقربة من فتحة النفق لحين تأتى السيارات، وبعضها يأخذ شكل العين التى تمشى بعد ذلك فى خط مستقيم.
وصلنا إلى صاحب أحد الأنفاق، الذى بدوره عرض المرور فى جولة بنفقه محاولاً شرح كيفية نقل البضائع من الجانب المصرى إلى الفلسطينى قائلاً: «هذه هى «الشحاطة» الجلدية، وهى عبارة عن قطعة جلدية سميكة سوداء اللون يتم توصيل طرفيها بحبل ثم توصيله بموتور، يقوم العمال بتعبئة الجرادل ب«الحمصة» من الجانب المصرى ووضعها على «الشحاطة» ثم يجرى سحبها بالموتور إلى الجانب الفلسطينى».
تجولنا فى النفق الذى ترفع أركانه وتبطن جوانبه الأخشاب، واللمبات الكهربائية الموفرة للطاقة تتراص على حوائطه على بعد أمتار.. قطرات المياه تتساقط من سقف النفق نتيجة للرطوبة الموجودة فى المكان، يسير الرجل فى النفق الذى يبدأ فى الضيق قائلاً: «نفقى يأخذ الشكل المخروطى، يأخذ فى الضيق كلما اتجهنا إلى الجانب المصرى».
صوت يقاطعنا، لا أعرف مصدره، يطالب الرجل بضرورة الخروج لأنهم سوف يشغّلون الموتور لسحب «الحمصة» من الجانب المصرى، عرفتُ بعد ذلك بأن مصدره السماعات الموجودة فى النفق، والتى تعد وسيلة اتصال بين العاملين فيه كنوع من أنواع التأمين لهم.
عدنا للخلف إلى الجانب الفلسطينى وأنا أقول للرجل إن هذه الأنفاق تشكل خطورة عليكم ولا يوجد بها أى وسائل أمان وربما تتعرض للانهيار فى أى وقت، ليضحك قائلاً: «لا تخافى علينا، نحن اعتدنا العمل فيه، فهذه هى السنة ال6 لى فى مجال الأنفاق»، ويضيف: «إن هذا النفق آمن بالنسبة لغيره من الأنفاق فضلاً عن أنه أصبح مصدراً لرزق العشرات من العمال، فلدينا 30 عاملاً يقتاتون يومهم من هذا النفق بينهم 10 مصريين».
سألته عن مشروع المنطقة الحرة التى تريد حكومة «حماس» إنشاءه بالقرب من معبر رفح بديلاً عن الأنفاق فقال: «سنكون فى أوائل الناس التى تغلق أنفاقها فى حال إتمام هذا المشروع، فنحن كرهنا العمل تحت الأنفاق ونريد أن نعمل فى النور وبشكل أكثر شرعية وخاصة مع الجانب المصرى.
ويصمت قليلاً ثم يعاود حديثه: «أتعرفين أن هذه الأنفاق راح ضحيتها 171 شهيداً و763 جريحاً بينهم أكثر من 150 إعاقة مدى الحياة منذ فبراير 2006 حتى يومنا هذا، حسب الإحصائية التى أعدتها اللجنة العليا للإسعاف والطوارئ التابعة لوزارة الداخلية الفلسطينية؟ وبالتالى من مصلحتى أن أعمل فى مكان آمن حتى لا أنضم إلى قائمة القتلى أو المصابين»، ويؤكد أن هذا المشروع سيحميه أيضاً من استغلال التجار المصريين لأوضاع الحصار فى غزة، ليبيعوا منتجاتهم بأسعار عادية وليس أضعافاً مضاعفة، بالإضافة إلى أن المنطقة الحرة سوف تعمل على تنمية سيناء وتشغيل أعداد كبيرة من الجانبين المصرى والفلسطينى.
قبيل مغادرتنا المنطقة استوقفنا رجل يمتلك نفقاً، اقترب منا بعد أن علم أننى صحفية مصرية واطلع على مهمتى فى قطاع غزة، وعرّفنى بنفسه «أبوفادى»، وبأنه لا يستطيع أن يكشف عن اسمه الحقيقى، خاصة أنه يعمل رائداً فى المخابرات الفلسطينية التابعة لحكومة رام الله وليس حماس، وقال لى: هل تريدين معرفة تاريخ الأنفاق الحقيقى؟».
سؤاله كان يحمل بين طياته علامات أثارت الفضول من جانبى، أجبته: نعم، ولكن هل يوجد من يعرف تاريخ الأنفاق الحقيقى، قال الرجل: نعم، هناك من يعرفها بحكم طبيعة عمله فى المكان، والذى بدأ بعد تحرير سيناء فى 25 أبريل من عام 1982، وهو التاريخ الذى بدأ معه حفر الأنفاق، قالها بثقة مؤكداً: «كنت شاهداً على حفر نفق صغير حفرته عائلتنا للتواصل مع أختى التى تزوجت فى قطاع غزة وسكنت فى الجانب المصرى وجاءت لزيارتنا، وكانت حاملاً فى شهرها الأخير، وتشاء الأقدار أن تضع مولودتها فى القطاع، وعندما حاولت العودة إلى مصر لم تتمكن من إدخال مولودتها، لتدخل بمفردها، وتحفر العائلة نفقاً صغيراً جداً لتمرير الطفلة إلى والدتها 5 مرات يومياً لإرضاعها من تحت السلك اليهودى، وكان الضابط المصرى يشاهدنا ولا يحرك ساكناً لأنه أيضاً كان شاهداً على أوضاع الحصار».
هذا أمر ربما نراه فى مصر مستحيلاً، ولكن أبوفادى يراه عادياً، خاصة أن أغلب عائلات رفح يقع نصفها فى رفح الفلسطينة والنصف الآخر فى رفح المصرية، أمثال عائلات زعرب، والشاعر، وبرهوم، والأغا، فضلاً عن أن بيوت تلك العائلات تكاد تكون لصيقة بالسلك الفاصل، لافتاً إلى أن هذا النفق الصغير استُخدم بعد ذلك فى تمرير الأقمشة والتسجيلات الترانزستور والجبن وعلب الحليب حتى اندلاع الانتفاضة فى عام 1987، وبدأ احتياج الشعب لأشياء تساعده على مقاومة المحتل، ومن هنا بدأ التفكير فى الأنفاق من خلال البيوت الموازية لبعضها البعض.
واستغلت العائلات مواسير الصرف الصحى التى عادت غير مستخدمة وكانت «مواسير ضيقة» كانت تُمرّر من خلالها الأحبال وتُربط بأجزاء السلاح لكى تصل إلى الأنفاق ومن ثم تجميعها، وتطور الأمر إلى استخدام أنفاق موازية للمواسير، وكان قطرها يشبه جحر الكلب، حسب تعبيره. وكان السلاح يمرر دون رقيب أو موانع، وتحولت الأنفاق إلى عمل وطنى فى القطاع يمد المقاومة بالسلاح اللازم لمواجهة المحتل.
يقول أبوفادى: إن بداية تطور الأنفاق كان فى سنة 2000 مع بداية انتفاضة الأقصى وسيطرة القوات الإسرائيلية على الحدود، وبدأ الأهالى يقسمون عملهم على طول منطقة رفح الفلسطينية، فالمنطقة الغربية يسيطر عليها آل زعرب، والوسطى آل حجازى وبرهوم، والشرقية آل قشطة والشاعر والجمبز وأبوحلو وأبوحلاوة، ولديهم عائلات فى الجانب المصرى، كان الحفر يدوياً باستخدام «الإزميل» وكان الرمل يُحمل ويُسحب بشكل يدوى فى سنة2000 إلى أن بدأ التطور فى الحفر من خلال الشنيور والسحب عن طريق مواتير قادرة على سحب 500 كيلو، إلى أن بدأت تستوعب طنّين ونصفاً، ومع شدة الحصار بدأ اتساع النفق ليصل إلى 80 فى 90 متراً للبضائع و60 فى 60 للأفراد، ومعظمها مبطن بأخشاب حتى لا تنهار، واستمرت عمليات التطوير حتى وصلت لاستقبال السيارات فى 2010، لافتاً إلى أن أطول نفق يصل طوله إلى كيلومتر و800 متر.
لا ينسى «أبوفادى» عهد الرئيس السابق حسنى مبارك وحملته فى مكافحة الأنفاق فى 2006 وتشديد قبضته فى حصار القطاع من خلال المشروع الأمريكى الإسرائيلى المصرى وبناء الجدار الفولاذى على عمق 20 متراً ليرد القطاع المحاصر باختراق الجدار وفتحه مقابل ألفى دولار لبعض المختصين.
ويرى «أبوفادى» أن الأنفاق كغيرها من الأمور تضم الخير والشر، الخير يتمثل فى كسر الحصار الإسرائيلى على القطاع والشر كامن فى استخدام الأنفاق لغسل أموال بعض رجال الأعمال، يقول: «من سنة 82 حتى 87 لم يكن هناك إلا نفقان أو ثلاثة، ومن 87 إلى 2000 وصل عددها إلى 10 أنفاق، ومع بداية 2003 بدأت تتزايد إلى أن وصل عددها 1470 نفقاً».
وأضاف: «مع زيادة هذه الأنفاق بدأت حماس تسيطر عليها من خلال لجنة تابعة لهيئة المعبر لمتابعة مرور البضائع المهربة من مصر، وكان وقتها هناك من يهرّب السجائر بكميات كبيرة إلى القطاع، ففرضت اللجنة ضرائب باهظة عليها، ووصلت إلى 37 شيكل على خرطوشة السجائر تبعها فرض الضرائب على تهريب الأسمنت والحصى والسولار والبنزين»، لافتاً إلى أن هذه الضرائب تدر مليونى دولار لخزينة الاقتصاد الوطنى يومياً.
وأكد «أبو فادى» أنه لا استغناء عن الأنفاق، قائلاً: «بالأنفاق أُعيد إعمار القطاع مرة أخرى، وخاصة أن الجانب الإسرائيلى يرفض مرور مواد البناء بعد وصول حماس إلى الحكم؛ خوفاً من استخدامها فى تحصينات عسكرية، ومعبر رفح لا يمر خلاله سوى الأفراد، وبالتالى لم يوجد أمامنا طريق للبضائع إلا عبر الأنفاق».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.