المواطنة هي تساوي كل أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الوطن الواحد سواسية من دون تمييز على أساس الدين أو اللون أوالجنس . وفي هذا الكتاب - الوطن والمواطنة في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشريعية - الصادر مؤخرا عن دار الشروق يقترب الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من مفهوم المواطنة على خلفية شرعية تحاول استنباط المفهوم من داخل الفقه الإسلامي . الإسلام والوطن ويرى القرضاوي أن القرآن الكريم قد اعتبر النفي عن الوطن ظلما وقسراً جريمة كبرى ومحنة عظمى قرنها القرآن بجريمة قتل النفس، "فخروج الإنسان من دياره كخروج الروح من البدن"، يقول تعالى:( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (النساء:66) ويشير إلى أنه من حق الشعوب - وفق كتاب الله - بل من واجبها أن تقاتل وتحمل السلاح لتسترد أرضها وديارها إذا أخرجت منها، يقول تعالى: (ألَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة: 246) ويقف الشيخ بقارئه أمام قوله تعالى في الآية السالفة (وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) مشيرا إلى أن المعنى يحيل إلى شر ألوان الاستعمار والاستكبار في الأرض وهو أن يستولي أجنبي على الأرض ويطرد أهلها منها، ويحل محلهم. وفي معرض تدليله على أن الحنين إلى الأوطان فطرة إنسانية يقترب الشيخ من التجربة النبوية، فيقول: "حين هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة، كانوا يحنون إلى مكة، ويشعرون بالشوق إليها، إلى ربوعها وجبالها ووديانها. ويشير القرضاوي إلى موقف مشابه تعرض له النبي نفسه حين التفت إلى مكة عند خروجه منها مهاجرا بدينه وقال: والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله ، وأحب بلاد الله إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت". من هو المواطن؟ إذا كانت هذه هي مكانة الوطن في الإسلام، فإن السؤال الذي يفرض نفسه: من هو المواطن في المجتمع المسلم، وهل لأهل البلاد من غير المسلمين مكانة معتبرة في التصور الإسلامي للآخر الديني؟. وهنا يؤكد الشيخ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعترف ب"المواطنة" بين سكان المدينة من مسلمين مهاجرين وأنصار، من أوس وخزرج، ومن اليهود على اختلاف قبائلهم، معتبرا أن هذه المواطنة (العيش في وطن واحد هو المدينة) هو أساس التعاقد والتعامل بين الجميع. وينقل عن كتاب مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة للدكتور محمد حميد الله نص وثيقة المدينة التي مثلت دستور الدولة البلدية بالمدينة والتي تقضي بأنه من تبع المسلمين من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين،وبني جشم وبني الأوس وبني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف. وتنظم الوثيقة حياة أهل المدينة من دون تفريق بينهم، لا في الحقوق ولا في الواجبات، وهو ما يلفت إليه المؤلف في تحليله للمادة 25 من الوثيقة التي تنص على أن" يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم" الأمة بهذا المعنى – بحسب الشيخ - لا تقتصر على سكانها المسلمين، بل هي أمتان دينيتان في أمة سياسية واحدة، وأوضح المواد هنا تعبيرا عن المدلول السياسي للأمة وتمييزه عن المدلول الاعتقادي هي المادة 25 التي تنص على أن "يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم" ثم مد النص هذا الحكم ليشمل قبائل اليهود الأخرى و”بطانتهم” (أي أحلافهم من غيرهم) في إحدى عشرة مادة متتالية فكل من المسلمين واليهود أمة دينية بمقتضى هذا النص، والأمتان تشكلان معا أمة سياسية واحدة. ويتابع القرضاوي: من المهم الانتباه هنا إلى أن النص لم يقل إن اليهود أمة “من” المؤمنين، وإنما هم أمة “مع” المؤمنين، والمعية تقتضي المغايرة والاتصال معا، وقد ترتب على هذه الوحدة السياسية مسؤوليات، أهمها أن “اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين” (المادة 24) وأن “بينهم النصر على من دهم يثرب” (المادة 44) وأن “بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم” (المادة37)، فمسلمو المدينة بمقتضى الوثيقة يدفعون ضريبة المواطنة من دمائهم وأموالهم، واليهود يدفعونها من أموالهم فقط، لأنهم ليسوا جزءا من الصراع الديني بين الحنيفية الإسلامية والوثنية القرشية، وهذا اعتراف حكيم بأن اليهود جزء من الأمة السياسية لا الأمة الاعتقادية في دولة الإسلام، وتقنين عادل لوضعهم طبقا لذلك، كما أنه تأصيل لقبول تعدد الهوية الإنسانية، وتعدد أنماط الأخوة بين البشر. معنى الأمة ويتوقف الشيخ أمام المعاني الاعتقادية والاجتماعية والجغرافية للأمة الإسلامية في وثيقة المدينة ليخلص إلى النتيجة ذاتها قبل أن ينتقل إلى طرف من تطبيقاتها الفقهية وذلك فيما ينقله العلامة ابن عابدين عن أئمة الفقه الحنفي حيث يقررون :"أن الجهاد فرض عين إن هجم العدو على بلد مسلم، وذلك على من يقرب على العدو أولا، فإن عجزوا أو تكاسلوا فعلى من يليهم ثم من يليهم حتى يفترض – على هذا التدريج – على المسلمين شرقا وغربا، وهذا متفق عليه بين الأمة جميعا" ويرى أن المسلمين في غنى عن استيراد مفهوم المواطنة من سوق الفكر الغربي لأن فقهاء المذاهب المختلفة جميعا – بحسبه – قرروا أن غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وهم الذين يعبر عنهم في الاصطلاح الفقهي ب"أهل الذمة" يعدون من أهل دار الإسلام، وإن لم يكونوا من أهل الملة، مضيفا أن كلمة "أهل الدار" هذه تمثل مفتاحا للمشكلة ؛ لأن معنى أنهم أهل الدار أنهم ليسوا غرباء ولا أجانب، لأن حقيقة معناها : أنهم أهل الوطن، وإذا ثبت أنهم أهل الوطن، فهم مواطنون كغيرهم من شركائهم من المسلمين . الأقليات الإسلامية وإذا كان هذا هو حال غير المسلمين في المجتمع الإسلامي فماذا عن حال المسلمين في المجتمع غير المسلم؟ أي الأقليات المسلمة التي تعيش في أوروبا وأمريكا والشرق الأقصى وإفريقيا وغيرها. يرى الشيخ أن حكم الإقامة في بلد غير إسلامي يختلف باختلاف حال أهل هذا البلد، وموقفه من الإسلام والمسلمين، فمن البلاد ما يضطهد المتدينين عامة، ويقف من الدين موقف المعادي، ومثل هذه البلاد لا يجوز الهجرة إليها - بحسب الشيخ - فلا يحل للمسلم أن يترك بلده المسلم الذي يتمكن فيه من أداء شعائره، ويذهب إلى بلد يضيق عليه، وفي الحديث"لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه" قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: يحملها من البلاء ما لا تطيق". أما أهل البلاد من المسلمين فيرى الشيخ أن يصبروا ويرابطوا ولهم أن يعملوا بأحكام الضرورة فيما لا طاقة لهم به .. يقول تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) النحل 115. أما إذا كان البلد غير المسلم من تلك البلاد التي يسود فيها مناخ الحريات الدينية والمدنية والفكرية والسياسية، فلا بأس – بحسب الشيخ – أن يهاجر إليها المسلم لأهداف مشروعة مثل: العمل ، وكسب العيش، وطلب الأمن، وطلب الدراسة والسعي في طلب الرزق، والمشي في مناكب الأرض مشروع للمسلم. ويتناول الشيخ في سبيل التدليل على شرعية الهجرة للبلد الآمن غير المسلم الحديثين اللذين يستدل بهما بعض المتشددين على حرمة الإقامة في البلد غير المسلم وهما: حديث: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله ولمَ، قال: لا تتراءى ناراهما". وحديث: "من جامع مشركا وسكن معه فهو مثله". أما الأول فإن الشيخ يلفت إلى كونه حديثا مرسلا، وعامة أهل الحديث يعدون المرسل من الضعيف، ثم يحلل سياقه التاريخي ليخلص إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصد بقوله: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، أنه بريء من دمه إذا قتل؛ لأنه عرض نفسه لذلك بإقامته بين هؤلاء المحاربين لدعوة الإسلام ودولته. وأما الثاني: فهو حديث ضعيف بالإجماع.. ومن ثم لا يقف دليلا على حرمة الذهاب إلى بلاد الغرب، في زمن اشتدت فيه حاجة الناس إلى الذهاب طلباً للرزق وللعلم ولأسباب الحياة. وفي هذا السياق يستشهد الشيخ بهجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة وعيشهم في ظلال دولة غير إسلامية، يحكمها نصراني بل واستمرار بعضهم في الإقامة هناك حتى بعد زوال سبب هجرتهم إلى الحبشة وإقامة دولة الإسلام في المدينة، "فهذا يدلنا على أن المسلم يستطيع أن يعيش في كنف دولة غير مسلمة، ولا يفرض عليه الهجرة منها ، مادام يعيش فيها آمنا على نفسه وأهله، ودينه وحرماته، لا يضطهده أحد، ولا يفتنه عن دينه، وإلا وجب عليه أن يفارقها مهاجرا، حتى لا يكون من الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.