يصل بنا الحديث الي أهم آليات الحفاظ علي حقوق الإنسان وحماية الوطن وهي المواطنة, كلمة واحدة لكنها تصلح أن تكون موضوعا لأبحاث ودراسات بل مجلدات. ولا يوجد لها تعريف جامع مانع تعددت محاولات تفسيرها ونشير الي بعضها: يري د. صفي الدين خربوش إنها تشكل جزءا من مسألة الهوية والمفاهيم المختلفة التي ارتبطت بها منذ بدء احتكام الإنسان بما حوله من فكر وثقافة وسياسة قديما وحديثا, كما أنها عقد اجتماعي بين الإنسان ووطنه ومن يعيشون معه في نفس الوطن. يقول د. محمد سكران إن المواطنة قديمة قدم التاريخ وقد ارتبطت نشأتها بظهور الجماعات والمجتمعات البشرية, وأنها بمفهومها الحديث تنتمي في نشأتها الي الغرب الأوروبي خاصة القرن السابع عشر وهو عصر نشأة الدولة القومية, ثم انتقل بعد ذلك الي المجتمعات الأخري. ويذكر د. أشرف أبو المجد أن المواطنة هي عبارة عن صفة أو حالة نفسية وقومية تعكس العلاقة بين الوطن والمواطن. بينما يشير د. رجب حسن عبد الكريم إلي أن المواطنة برغم صعوبة وضع تعريف جامع مانع لها إلا أنه يمكن وصفها بأنها تلك المشاركة الواعية والفاعلة لكل مواطن دون استثناء ودون وصاية من أي نوع في بناء الإطار الجماعي والسياسي والثقافي للدولة. ويكتب د. عبد الفتاح سراج: أنها حالة معنوية وشعورية يعيشها الأفراد, وتعبر عن درجة عالية من الانتماء الي دول بذاتها كبديل عن الانتماء التقليدي للقبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو الملة. وفي بحث عن تكافؤ الفرص وعدم التمييز يتفق د. أحمد جاد منصور, ود. خالد مصطفي بقولهما: إن المواطنة اصطلاحا هي انتماء الفرد الي أمة أو وطن معين. ويري د. نبيل مصطفي خليل إن المواطنة تعني في معناها العام المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الدين أو الجنس أو العرق أو الوضع الاجتماعي. وتشرحها لجنة ثقافة المواطنة بالمجلس الأعلي للثقافة بأنها العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات, وهو ما يعني أن كافة أبناء الوطن الذين يعيشون فوق ترابه سواسية في حصولهم علي نفس الفرص وتمكينهم من كل حقوقهم بدون أدني تمييز قائم علي أي معايير تحكمية مثل المعتقد الديني أو الجنس أو اللون أو المستوي الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الثقافي أو الموقف الفكري, ويرتب التمتع بالمواطنة سلسلة من الحقوق والواجبات ترتكز علي أربع قيم محورية هي: المساواة, والحرية, والمشاركة, والمسئولية الاجتماعية. ومهما تعددت محاولات تفسير المواطنة فإن المفهوم الأساسي لها يتعلق بوحدة الوطن والمعاملة المتساوية دون التفرقة بين أفراده سواء عقائديا أو اجتماعيا أو جنسيا أو سياسيا أو اقتصاديا. يتضح مما سبق أن المواطنة ليست مؤسسة تنشئها الدولة أو الأفراد لحماية حقوقهم, وبذلك تختلف عن الأمبودسمان الذي نشأ لإعادة التوازن بين سلطات الدولة والقوي حتي لا تطغي إحداهما ويفقد المواطن حقوقه.. كما تختلف عن مجالس حقوق الإنسان التي يطالب بها المجتمع الدولي من أجل ضمان جميع الحقوق المنصوص عليها في الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية كما يتضح أن المواطنة أبعد مدي وأكثر شمولا من كل هذا. إنها أسلوب في الحياة والتعامل واتخاذ المواقف والقرارات يحمي أفراده جميعا بلا تفرقة, ويوفر لهم الفرص السياسية والاجتماعية والاقتصادية بلا تمييز كما يسهم في نجاح ما يوجد من مؤسسات وأجهزة ومجالس تسعي لحماية الحقوق. انها تعني ببساطة أن العبرة في اتخاذ القرارات وتحديد العلاقات والتمتع بالحقوق من ان يكون الانسان مواطنا.. فقط مواطنا.. دون النظر الي اعتبارات أخري, ويتصور الكثيرون أن المقصود بالمواطنة هو عدم التمييز الديني وأن القصد منها مواجهة التعصب الذي تغلغل وتفشي.. لكن التمييز الديني ليس الشرخ الوحيد الذي يهدد مبدأ المواطنة.. التركيز أصبح عليه لكونه أكثرها فجاجة وقبحا, فهو تدخل في علاقة الإنسان مع خالقه التي ليس لآخر أن يتدخل فيها, ولأنه يعني إصدار أحكام هي للخالق وحده دون المخلوق. هذه الشمولية وتلك الخصوصية تجعل المواطنة تنفرد بخصائص منها: * أنها تتضمن أمورا تتجاوز ما هو منصوص عليه في القوانين واللوائح والمواثيق الدولية, إنها السياج الذي يحمي المجتمعات ويسهم في نجاح كل ما بها من مؤسسات تسعي للمساواة والعدل, إنها ميثاق شرف التعامل أو العقد الاجتماعي الحديث. * أنها لا تقتصر علي تأكيد أن جميع المواطنين سواء في الحقوق, ولكنها تعني أيضا أنهم متساوون في تحمل الواجبات التي تتيحها المواطنة وعليهم جميعا الالتزام بمسئوليات المواطنة. * إنها تطالب المواطن بأمور معنوية أو نفسية مثل العلاقات والمشاعر والأخلاق العامة.. كما أنها تتضمن أمورا غير مادية ولا محسوسة لا يمكن أن تنص عليها النصوص والمواثيق ومن الصعب قياسها فالمواطنة تشمل الإحساس بالانتماء والشعور بحب الوطن والرغبة في العطاء. * والمواطنة سلوك يحدد العلاقات ليس فقط بين السلطة والشعب, أي أنها لا تعني فقط علاقة الدولة بالمواطن والعكس, لكنها تعني أيضا العلاقة بين أفراد الشعب, أي العلاقات بين المواطنين بعضهم بعضا, وبين الجمعيات والمؤسسات وسائر تجمعات المجتمع. * وأبعد من ذلك فإنها تتضمن علاقة الإنسان بنفسه, إنها أمانة الإنسان مع ذاته.. في ظلها لا يدعي شخص قبول الآخر بينما هو يرفضه في قرارة نفسه. فبعد كل ذلك يثور التساؤل: إذا كانت المواطنة ليست مؤسسة يمكن انشاؤها أو نظاما يصدر به قرار, وإذا كانت ليست مجرد نص في الدستور أو القانون, ولا تجمع احكامها وثيقة دولية أو وطنية تطالب بالالتزام بها.. وأنها ليست مادة تدرس أو شعارات تلقن.. كيف إذن يمكن أن تصبح حقيقة نعيشها؟؟ كيف يمكن تحقيقها؟ وللحديث بقية