على الرغم من كل ما أنجزته الحركات الإسلامية على مدار الرقعة الواسعة التي تظلل محور طنجة - جاكرتا فإن هذه الحركات لا زالت تعاني من سلبيات ذاتية معوقة لمسيرتها ومعطلة لتقدمها نحو ما نذرت نفسها له من أهداف. وتشمل هذه المعوقات من بين ما تشمل: قصورًا في الفكر وافتقارًا للتخطيط وخللا في التنظيم وارتباكا في الممارسة وضبابية في الرؤية، وفوق كل ذلك ضعفًا إن لم يكن انعدامًا- في برامج استشراف المستقبل. وربما كان كل ذلك ليس عيبًا في ذاته؛ فالله قد كتب النقص على جملة البشر وتلك الحركات ما هي إلا حاصل جهد بشري، لكن ليس معنى ذلك تنزيه الذات وعدم الكشف عن تلك الأخطاء المعوقة أحيانا والمحبطة لمسيرة جهود أحيانا أخرى، تلك الأخطاء التي تؤجل ثمار العمل وتكون سببًا في ضياع الجهود بل والأعمار في خوض غمار أعمال لا تحقق النتائج المرجوة منها على كل المستويات. لذلك فالحركات الإسلامية في حاجة ماسة إلى فقه حركي وتنظيمي يستوعب النقد الذاتي ويؤطر له من المؤسسات والأجهزة ما يجعله كفيلا في البحث عن أسباب القصور البشري أو التقصير الذاتي وكشف عِلَل الإخفاق ويكون في ذلك متمثلا قوله تعالى: "قل هو من عند أنفسكم"؛ وذلك عندما سأل المسلمون في أعقاب غزوة أحٌد عن أسباب الهزيمة فدلهم ربهم سبحانه على السبب الرئيسي وهو السبب الذاتي وليس الخارجي؛ ولا كيد الأعداء ولا قوتهم. إن عملية النقد والمراجعة أمر ضروري لكل حركات ومؤسسات العمل الإسلامي اليوم كي تصحح المسار بما يخدم مقاصدها الإصلاحية والنهضوية؛ لكن الحركة أو الجماعة التي تضيق بعملية النقد والمراجعات وتتستر على الأخطاء بحجة سلامة الصف وحماية أسرار التنظيم؛ وعدم فسح المجال للأعداء للتصيد للحركة .. الخ من الحجج، هي حركة تربي الفساد وتنميه في مؤسساتها وسلوكها حتى يقضي عليها، وبالتالي لا غرابة أن تقوم عند ذلك بلفظ المخلصين أو الناصحين من صفوفها بحجة الخروج على الجماعة أو زعزعة كيان الحركة، وإفشاء أسرار التنظيم إلى غير ذلك من الحجج التي يُحمَى بها الخطأ ويُصان من خلالها الفساد. إن عملية النقد والمراجعة أمر ضروري لكل حركات ومؤسسات العمل الإسلامي اليوم كي تصحح المسار بما يخدم مقاصدها الإصلاحية والنهضوية، والمراجعة الذاتية وكشف مواطن الداء أمر مستوحَى من القرآن الكريم خاصة في نقد الهزائم والمصائب، ولو أن علانية النقد يخدم الأعداء لما أنزله الله في قرآنه في العديد من المواطن خاصة بعد غزوتي أحد وحنين. ينبّه الدكتور عبد الله النفيسي الحركة الإسلامية إلى بعض الثغرات فيقول في كتاب "أوراق في النقد الذاتي" عنوان تحت: "غياب التفكير المنهجي ذي المدى البعيد": إن الحركة الإسلامية بحاجة ماسّة إلى مراجعة أساليب عملها؛ بل عليها أن تطرح أزمتها الإدارية للحوار حتى لا تبقى هكذا رهينة الجمود الإداري الذي هو ضمانة أكيدة لتراكمات الأخطاء والحؤول دون التصحيح المطلوب، ويبدو أن القيادة السياسية للحركة تركز جهودها في محاولة التصدي للأحوال الطارئة أكثر من التخطيط للمستقبل؛ فجميع مؤسسات الحركة غارقة إلى أكثر من قامتها في أعمالها اليومية؛ وهذا الأسلوب في العمل يقلّص إمكانيات التفكير المنهجي ذي المدى البعيد؛ ويشجع على أسلوب حل كل مشكلة بعد نشوئها لا الاحتياط من نشوئها". انتهى. ومن أهم سلبيات الحركات الإسلامية المعاصرة في مجال الفكر افتقاد التجديد والاجتهاد والانفتاح على جموع المسلمين العريقة وواقعهم وعلى العالم المعاصر بثقافاته وممارساته وافتقاد الحوار الجاد البنّاء مع النفس ومع الغير. كذلك افتقار الرؤية الموضوعية الشاملة لواقعنا العربي والإسلامي وما طرأ على الساحة الدولية من تغيرات، وصراع المصالح الكبرى المتلاطمة فيه، إن الافتقار لهذه الرؤية الموضوعية الشاملة تجعل من تحرك الحركات الإسلامية أقرب ما يكون إلى ردود الأفعال أو إلى الأفعال المنفلتة اللاإرادية وبذلك يُحرم العمل الإسلامي فرصة إحراز تقدم ملحوظ نحو هدفه النهائي، وليس ثمة ما يقف في طريق امتلاك ناصية التغيير الذاتي كالرؤية التجزيئية أو المواقف النصفية. أمّا أهم السلبيات في مجال التنظيم فهي غلبة الطاعة للقيادة على الشورى في حقيقتها وجوهرها وغلبة الولاء للتنظيم والتقوقع فيه عن النظر للأمة في مجموعها ومصالحها العليا؛ وتجاهل القواعد العريضة من جماهير المسلمين وشعوب العالم؛ وهكذا تكون الحركة الإسلامية وكأنها لفئة معينة من المسلمين لا للمسلمين جميعهم؛ ولا تخاطب العالم الذي تقاربت مصالحه وتوثقت أدوات الاتصال فيه؛ ويحتاج المسلمون إلى إسماع صوت شعوبهم وصوت دعوتهم في حين يزورون عنه ويستعلون عليه. إن سيادة العقلية التنظيمية وكأنها أشبه بالجيتو اليهودي أمر قد أضر بالحركات الإسلامية وسلبها صفوة عقولها الذين ضاقوا ذرعًا بتلك الممارسات التي تقدم أهل الثقة والولاء المطلق على أهل الخبرة والتخصص؛ لذا لا يعجب المرء حين يرى الكمّ الهائل من المفكّرين والمبدعين والعلماء، الذين استطاعوا أن يخطّوا كتابات رائعة ويثروا المكتبة الإسلامية والإنسانية بمؤلفات وتنظيرات صائبة ورائدة، وهم خارج غرف التنظيم المغلقة، بل أننا نجدهم في حالة موت وانسحاب، حتى إذا رموا بغاشية التنظيم جانبا ورأوا أنوار الحرية والاستقلالية خارجه تفتقت مواهبهم وخرجت للسطح عبقريات وظهر رواد ومدارس ما كان لهم أبدا أن يتميزوا في ظل أجواء النفاق الممجوج والتأييد الأعمى. وأحسب أن مجمل الحركات الإسلامية بحاجة إلى إعادة النظر في الشكل التنظيمي الهرمي التقليدي الذي تجاوزه الزمن بفعل الثورة التكنولوجية؛ خاصة في مجالي الاتصال والمعلوماتية وما وفرته للأجهزة الأمنية المعنية بمتابعة الناس - وخاصة النخبة الفاعلة- من قدرة على تقليل مساحات ما كان يعرف بالأسرار والأشياء الذي يمكن إخفائها فترات طويلة. وكما يقول إبراهيم غرايبة في مقالته القيمة "من الهرمية إلى الشبكية": إن الحركة الإسلامية مدعوة لمبادرة ذاتية تقوم بها بنفسها، قائمة على شبكية العمل الإسلامي ومجتمعيِّتَه وليس هرميته وتنظيميته؛ فتجري انسحابا لمشاركة غيرها وفصلا تاما وحقيقيا في القيادة والعمل بين العمل السياسي الحزبي؛ والعمل النقابي والخيري والعمل الدعوي، ولا يعقل أن تقع قيادات الحركة الإسلامية فيما يفترض أن تكافح من أجل محاربته من احتكار وسيطرة؛ فترى القائد قائدًا في العمل الخيري؛ والدعوي؛ والسياسي؛ والنيابي. وقادة الحركة الإسلامية بسلوكهم هذا لا يقعون في زلل الاستبداد والاحتكار فقط، ولكنهم أيضًا يجعلون الحركة الإسلامية هدفًا معزولا يسهل إصابته وتصفيته، ويجعلون مغانمهم الشخصية قضية الأمة ينتظرون من الناس أن يؤيدوهم بها، ويسهلون على الحكومات ضرب العمل الإسلامي تحت غطاء محاربة التجاوزات القانونية والسياسية. إن هذا الفصل الإجرائي في التطبيق والذي يبدأ بمنع الجمع بين موقعين أو أكثر في العمل الإسلامي سيحول ملكية هذا العمل وخبراته إلى المجتمع بأَسره، ويقلل من عقلية الاحتكار والوصاية وعدم الثقة بالآخرين، ويجعل الحالة الإسلامية أكثر تجذّرا وانتشارًا في المجتمع، وليست مسألة تخص تنظيمًا أو جماعة بعينها. وتظل حاجة الحركات الإسلامية ماسّة ودائمة إلى عدة أمور: 1- ترشيد عقل الحركة الإسلامية المعاصرة؛ وتصحيح كثير من المفاهيم والتشوهات الحركية حتى تتجلى أمامها المنطلقات والوسائل والأهداف المرحلية والنهائية بكل وضوح. 2- منطق سياسي شرعي وعصري على ضوئه تحلل الأوضاع والظروف التي يمر بها هذا العالم؛ أي أن هناك حاجة أكيدة إلى "نظرية" متماسكة تسترشد بها في تفسير المجتمعات والقوى المحلية والعالمية. 3- تجديد الخطاب السياسي فلا يزال المضمون في خطاب الحركة محتاجا إلى الانفتاح على قضايا المجتمع في واقعه المعيش؛ ولا تزال لغة الخطاب هي الأخرى تحتاج إلى الاعتماد على قاموس المشاكل الواقعية أكثر من اعتمادها على قاموس المصطلحات الفقهية وعلى لغة الفقهاء والقضاة. 4- تجاوز عقبة الصراع مع الأنظمة والسلطات الحاكمة في بلدان العالم الإسلامي؛ ذلك الصراع الذي استنزف كثيرًا من مواردها من الأفكار والأفراد؛ والجهود والطاقات. 5- التأكيد على دور وأهمية مؤسسات المجتمع الأهلي والمدني والعمل الشعبي الذي يسعى إلى النهوض بالمجتمع وأدواته و ترقيته؛ والتركيز على العمل التنموي الذي يفيد منه مجموع الأمة وليس فصيلا بذاته. 6- التأكيد على أن مسؤولية العمل والدعوة والإصلاح منوطة بكل مسلم؛ بل بجميع الناس ووظيفة الحركات الإسلامية أن تحشد جميع الناس والفئات في مشروعها الإصلاحي، وليس منافستهم المغانم والمواقع والفرص. وكلما تراجعت المصالح الذاتية والتنظيمية تزداد المصداقية والقبول. 7- التوجيه الفكري السليم أكثر من الخطابة إذ ليس من شك في أن للتوجيه الفكري مناخه وآفاقه؛ وهو مناخ وأفق يختلف شكلا ومضمونًا عن أفق ومناخ التوجيه الخطابي الذي كثيرًا ما يتعرض له المسلم المعاصر في عالم اليوم، ومن ثم فعلى الحركة الإسلامية أن تعي الحد الفاصل بين الفكر والخطابة وتقدر حاجتها للموجه الفكري أكثر من الخطيب. ففي حين يركز التوجيه الفكري على البناء العقلي يركز التوجيه الخطابي على العاطفة وينشط في مناشدتها ويستحضر لها لوازمها الدرامية، وفي حين يتعامل التوجيه الفكري مع المصطلحات والمفاهيم يتعامل الخطيب مع الروايات والوقائع والتاريخ في إطار من العاطفة المشبوبة، وبينما يبذر التوجيه الفكري بذاره على مهل وفي دأب ومثابرة يستجيش التوجيه الخطابي العاطفة ويحرّض في سخونة وحرارة وعجلة؛ غير أن بذرة التوجيه الفكري أدوم أثرًا وأمضى سلاحًا من عبوة التوجيه الخطابي زمانا ومكانًا. وأحسب أن الحركات الإسلامية في طول العالم الإسلامي وعرضه قد اكتوت بنار الخطباء الذين يصكون الشعارات الغاضبة التي تفتح أمام الناس أبواب آمال كاذبة، رغم ما تسهّله لهم من السيطرة على عواطف الجماهير ونفوسها، والتحكم في حركتها وتوجيهها، وشل قدرتها على التفكير الحر، والتصرف الواعي والمستقل، إلا إن التجربة الطويلة قد أثبتت أن حركات إسلامية يقودها وعاظ وخطباء لا يدركون زمانهم ولا شبكة علاقاته ليست إلا سبلا انتحارية لا تهدي عاص ولا تنكأ عدو؛ بل لا تحق حقًا ولا تزهق باطلا.