أخبرنا الله عزّ وجل في محكم تنزيله أن أمتنا أمّة واحدة فقال سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) وقال: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 52) وعلى مدار تاريخ الأمة الإسلامية الذي يمتد أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان كان معيار "وحدة الأمّة" هو أدق معيار يُعرف به حال الأمّة: قوة وضعفا؛ صحة ومرضا؛ يقظة وغفوة؛ بل يكاد – باستقراء تام لتاريخ الأمّة – أن نجزم أن هناك علاقة طردية إيجابية بين وحدة الأمة وقوتها أو عافيتها؛ فكلما استمسكت الأمة بحبل ربها وكتابه وعضّت على وحدتها بالنواجذ؛ كانت أقدر على مواجهة عدو الله وعدوها. وعلى اجتيازها للتحديات الجسام التي تواجهها حاضرا ومستقبلا. وربما كان إدراك الأعداء لهذا الملمح وراء اتباعهم لسياسة التفرقة وتفتيت عرى وحدة الأمة، فلا يمكن هزيمة أمّة متحدة؛ لذلك كان شعار وسياسة كل احتلال على مدار الرقعة الواسعة التي تظلل محور طنجة - جاكرتا هو "فرق تسد"؛ وأن يضرب القوى الوطنية بعضها ببعض؛ ويستهلك بعضها طاقات بعض؛ ويشتت بعضها جهد بعض. كما أن الذي يتأمل تاريخ أمتنا بعمق ويستقرىء حالها بفهم يجد أن سبب قوة الأمة في عصور قوتها وازدهارها هو جمع كلمتها وتوحيد صفها، وإعلاء همتها، وتزكية نفوس أفرادها مما أدى إلى دحر أعدائها، أما في عصور الضعف والوهن فالسبب يرجع إلى فرقتها واختلافها إلى شيع ومذاهب وأحزاب متناحرة، يضرب بعضها وجه بعض ويستبيح بعضها بعضا مما أدى إلى مذلة الأمة ومهانتها حتى هانت على أعدائها؛ ولعل أصدق شاهد على تلك الحال هو الحال التي عليها أمتنا في زماننا هذا؛ والواقع أصدق أنباء من الكتب والإخبار. عديدة هي عوامل وحدة الأمة الإسلامية ومقوماتها؛ ولعل أول هذه المقومات هي وحدة العقيدة الجامعة ثم وحدة الشريعة الخاتمة ثم الأخوة الإيمانية أو الإسلامية العامة وأخيرًا فإن أهم ما يجمع تلك الأمة في واقعها المعاصر هي الآمال والآلام المشتركة (وحدة المصالح والغايات ووحدة التحديات والمخاطر ووحدة المستقبل والمصير). إن دوائر الانتماء القطرية والمذهبية والفكرية والدينية كانت على مدار تاريخ أمتنا من أشد معالم تنوعها وأهم دلائل ثرائها الحضاري والنفسي والاجتماعي؛ وكانت دوائر الانتماء تمثّل طبقات بعضها فوق بعض في تداخل تام وانسجام مدهش إذ تمثل مختلف أقطار الأرض وأجناسها وثقافاتها وأعراقها فتتكامل ويسد بعضها نقص بعض، ويعالج بعضها خلل بعض، ذلك أن التداخل بين دوائر الانتماء إنما يوثّق عرى التماسك في المجتمعات والدول ويدعم الشعور بالمساواة، لأن الأفراد إذا تمايزوا بمعيار فستوحِّد بينهم معايير، حيث تتقاطع دوائر الانتماء العائلي أو القبلي، أو الوطني، أو القومي، أو المذهبي أو الديني ولا تتصارع؛ ذلك أنها تشبه دوائر متكاملة ذات مركز واحد. ولمّا غفت الأمة غفوتها المعاصرة كانت عوامل الثراء والتنوع من أهم ما نفذ منه الاحتلال الثقافي والسياسي للمحور الحضاري الإسلامي الذي يمتد من طنجة إلى جاكرتا؛ أو كما يقول الدكتور محمد عمارة من غانة إلى فرغانة؛ فلعب الاحتلال – كل احتلال- على الاختلافات القطرية والمذهبية واللغوية والدينية فعمّقها وجعل أهلها شيعا وأحزابا يستضعف بعضهم بعض – وهو يستضعفهم جميعًا- وأصبح تآكل دوائر الانتماء وتحاتها بديلا عن تكاملها وتعاضدها. وما وجدنا احتلال خرج من أحد البلدان الإسلامية إلا وهو تارك وراءه فتائل الاشتعال وأحيانا ما تكون هذه الفتائل سريعة الاشتعال وهو يشعل الأخرى وقتما يشاء؛ فقلما تجد بلدين عربيين أو إسلاميين إلا وبينهما مشكلة حدود أو أكثر؛ وعلى مشكلة الحدود تجد مشكلة عرقية حول هوية سكان التخوم وانتماءاتهم. وما ألعن تلك الحدود الاصطناعية التي قامت على أساس من تقسيمات سايكس بيكو ومنطق توزيع البلدان الإسلامية كغنائم حرب على البلدان التي خرجت من منتصرة من الحرب الغربية (وليس العالمية) الأولى. إن أحد جوانب الحيوية الأساسية للأمة الإسلامية في خبرتها الحضارية: هو أن مفهوم الأمة ذاته يقرّ ويعترف بتعددية دوائر الانتماء الفرعي وتداخلها، دون تناقض بينها، أو تنازع حيث يسود مفهوم الأمة ذاته ولاء مركزي واحد، وتصاعد في الولاءات وتدرج، يتحقق بوجود اتفاق حول مرجعية عليا يحتكم إليها الجميع (عناصر ومكونات المرجعية العليا للأمة الإسلامية)، ومن ثم فإن تعدد وتداخل دوائر الانتماء الفرعي للأفراد والجماعات كان يتم في إطار من الوحدة الجامعة التي تتحقق أساسًا في ظل الاتفاق أو الاعتراف بمرجعية عليا واحدة تهيمن على جميع مفردات دوائر الانتماء ومستوياتها؛ وتكون لها الكلمة الطولى عند تنازع الدوائر أو تعدد مستوياتها. لذلك تعددت خطابات القرآن الكريم بتعدد دوائر الانتماء فهناك الخطاب الموجه لجموع الناس كقوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)، وهناك خطاب المؤمنين مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة: 104) وهناك خطاب ولاية أولوا الأرحام بعضهم ببعض مثل: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: 75) وهناك خطاب النفس {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6). ونجد حنين النبي صلى الله عليه وسلم لبلده الأصلي مكة جارفا، ويقول سعد بن عبادة: وهل أنا إلا رجل من قومي (وذلك عندما قسم الرسول – صلى الله عليه وسلم- غنائم حنين ولم يعط الأنصار منها شيئا فوجدوا في أنفسهم وكلمه سعد باسم الأنصار). وهذه النصوص وغيرها كثير تدل على تعدد دوائر الانتماء وتداخلها وأنه لا يجب أن تجور دائرة على أخرى؛ فضلا عن أن تلغي دائرة أخرى أو تقصيها. ولعل هذا الذي يجعلنا نؤكد على أن القاعدة الحاكمة: أنه في حالات قوة الأمة وصحوتها تتكامل دوائر الانتماء وتتساند ويزيد بعضها بعضا قوة؛ وفي حالات ضعف الأمة ووهنها وغفلتها أو غفوتها تتصارع تلك الدوائر وتتآكل، بل وتتحول عوامل الثراء إلى عوامل تفرقة وتشتيت وهدر. إن المنهج الذي تحتاجه أمتنا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها المعاصر هو المنهج الجامع الذي يؤلف بين جميع دوائر الانتماء الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية في تكامل وتداخل وانسجام، بل وداخل الوطن الواحد حيث تتعدد دوائر الانتماء داخل أغلب دولنا العربية والإسلامية.