مساء من أغسطس عام ثمانية وتسعين، وقفت علي شاطئ جزيرة صغيرة في عرض النيل أمام مدينة سوهاج، النهر مرتفع، فيضان العام غزير، والخوف علي جدار السد العالي قائم، المختصون يتفقدون أحواله كل عدة ساعات، البوابات كلها مفتوحة، والمفيض المخصص يستوعب الزيادة بدأ يستقبل الماء. يتدفق الموج، مسرعاً، متلاحقاً، له دمدمة، يحتوي أضواء النجوم، وانعكاسات المدن والقري، يستوعب الأماكن التي عبرها منذ نزول القطر من السماء، يقولون إن قطرة الماء تقطع المسافة من هضاب الحبشة إلي المصب عند دمياط أو رشيد في أحد عشر يوماً، تري.. كيف تكون ذاكرة الماء؟ هل تعي تحولاتها؟ من قطرة عذبة أو مالحة إلي بخار إلي قطرة مرة أخري، وربما يندمج بعضاً منها في الكون اللانهائي، لا تمكث الموجة إلا مقدار مرورها الخاطف بالمكان. دائماً أحاور اللحظة الماثلة، أتجاوزها بالمخيلة إلي الأمام، أو إلي الوراء، أتساءل، بأي تصور كان الأجداد يتطلعون إلي الماء المتدفق من الجنوب؟ كم من السنوات استغرقها الجهد المبذول للسيطرة علي ماء النهر، للتوصل إلي دورات الزراعة، ومعها التصور الإنساني للوجود والعدم، للحياة الدنيا والحياة الآخرة، تلح عليّ صورة الإله أوزير: ممدداً في كفنه الأبيض، مدفوناً تحت سطح الأرض، ومن جسده ينبت العشب، والنماء، ومن دموع زوجته المخلصة ايزيس يتدفق الفيضان، وحدة أزلية بين الإنسان والطبيعة، كم قرناً استغرقه الإنسان ليرصد حركة النجوم، علاقتها بالفيضان، حتي توصل إلي التقويم المصري الدقيق، الذي مازال الفلاح المصري يعتمده حتي الآن في الزراعة، ويعرف الآن بالتقويم القبطي، كان اكتشاف تلك الصلات منطلقاً لمحاولة فهم الوجود والحياة والموت، اللاوجود، والعبور من حد إلي حد. العالم يحيطه الماء الأزلي، وإليه أيضاً يمضي الوجود بعد انتهائه، نهر النيل مصدر للحياة، مقدس، عبر العالم الآخر يمثل الإنسان أمام قضائه وقبل أن يوزن قلبه لابد أن يقسم وأن يقر أمام أربعين قاضياً قبل المثول أمام قاضي المحكمة الأكبر، أوزير، أهم قسم يتلوه: »أقسم أنني لم ألوث ماء النيل..« في الجنوب، كل أبواب البيوت تتجه إلي النهر، تفتح علي النهر، ويغمس النوبيون أطفالهم المولودين حديثاً في النهر، للنهر احترامه، وهذا احترام قديم، لكن مع تقدم السيطرة عليه وهنت العلاقة بين المصريين ونهرهم، في القاهرة حوصر المجري بناطحات السحاب الجديدة التي يقطنها الأثرياء الجدد، أصبح المجري المهيب مثل النفق المائي، وأُبعد معظم المصريين عنه بما أنشئ عليه من نواد خاصة، ومنشآت شتي، أما السفن العائمة فتلقي فضلاتها في المجري، وكذلك بعض المصانع، انتظام وصول المياه إلي القوم جعلهم يفتقدون إلي الوعي المائي، لا ينتبهون إلي حقائق تتعلق بثبات حصة مصر من ماء النيل »حوالي خمسة وخمسين مليون متر مكعب« وزيادة السكان المتوالية. أتأمل الأمواج المتدفقة تلك الليلة، تتداخل الأسئلة بالخواطر. ما علاقة هذه الأمواج بالأمواج التي تدفقت في النهر نفسه منذ آلاف السنين، هل يتناسل الماء؟ أم أنه يتوالد؟ أم انه يتحول من شكل إلي شكل، من قطر إلي بحر إلي قطر، من بحر إلي غيم، من مالح إلي عذب، إلي أمطار، إلي أنهار، إلي أشجار وثمار وأنفاس تتوالي ثم تمضي، هكذا بدا لي موج البحر تلك الليلة.
لابد للنهر من جريان مستمر، وإلا ما اعتبر نهراً، إنه مرحلة في دورة تقطعها القطرة، النهر يستعصي علي الإمساك، وإذ يجري النهر ينفصل عن الإنسان، لابد أن يبذل الإنسان جهداً لينال حظه منه، بعض وليس كل، مستحيل علي الإنسان أن يحتوي النهر، أو أن يمتلكه، النهر جسر بين مرحلتين، اكتمال القطر وسقوطه مطراً، ثم رحيله بخراً عبر البحر. ما من قوة مثل الماء. سأل أحدهم حكيماً يوماً؟ هل هناك ما هو أقول من النار؟ قال نعم: الرياح هل هناك ما هو أقوي من الرياح؟ قال نعم: الماء هل هناك ما هو أقوي من الماء؟ قال نعم: الماء أقوي من الماء أتيح لي يوماً أن أري ذوبان الثلوج فوق كردستان، دائماً أستعيد مشهد هذه الخيوط الرفيعة، تنحدر، تتلاقي، تكون مجاري الأنهار الصغيرة إلي أن تصب في النهر الأكبر، دجلة، وعندما أبحرت فيه رأيت النهر وقد قص صخور جبال حمدين قصاً. لا شيء يمكن أن يقف في مواجهة الماء. شرط اكتمال النهر الجريان، وما يجري لابد أن يطوي، وكل ما أنجزه الإنسان مؤقت مهما طال أمره، أتأمل السدود وأسأل نفسي: إلي متي؟ أتأمل أحوال النهر الذي أوجد الحياة في خضم الجدب، في العمق الشجي مازال ماثلاً، ولكن المدن الكبيرة التهمت الصلة، مازال قومي في الريف يجلون الماء، وتقديمه إلي الضيف علامة أمان، والاحتفاظ به في المنازل عند النوم باعث للطمأنينة، ومازال وقف الماء أعز ما يمكن تقديمه لروح الميت الغالي، هكذا توضع القلل الفخارية في الطريق لتضفي الخير والرحمة من أجل الراحل. للجنة أنهار وليس بحار، فالنهر للحياة، والبحار كالصحراء للأبدية، هنا يقترن البر والبحر في الدلالة والإشارة. هنا أستعيد المشهد التاسع من »مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية« لمولانا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: أشهدني الحق بالأنهار، وقال لي: تأمل وقوعهاه فرأيتها تقع في أربعة أبحر، النهر الواحد يرمي في بحر الأرواح، والنهر الثاني يرمي في بحر الخطاب والنهر الثالث يرمي في بحر المزمار والسكر، والنهر الرابع يرمي في بحر الحب، ويتفرع من هذه الأنهار جداول تسقي زراعات الزارعين. ثم رميت بصري في الأبحر فرأيتها تنتهي إلي بحر واحد محيط بجميعها ترمي فيه هذه الأبحر ورأيت الأنهار الأربعة تتفجر من ذلك البحر المحيط ثم ترجع إليه بعد الامتزاج بهذه الأبحر الأربعة. طبقاً للتصور المصري القديم، كان الإنسان يمثل أمام محكمة قضاة الأبدية بعد انتقاله من الحياة إلي العالم الآخر، حيث الإله أوزير، إله الموت، المقدس، كان الإنسان يمر أمام أربعين قاضياً، ويقر بما فعله وما لم يفعله من أمور شريرة في الحياة الدنيا. يقول مثلاً: أنا لم أسرق أنا لم أزن أنا لم أؤذي رجلاً كهلاً.. غير أن أهم ما كان يجب أن ينطق به، ذلك الإقرار: أنا لم ألوث ماء النيل. النيل، النهر الذي يتخلل الصحراء، مقدس، معبود، كان يرمز إليه بالإله حابي، ما ترتب علي وجوده من مظاهر أدي إلي إمعان الفكر، حول الأسئلة الكبري المتعلقة بالحياة، من أين بدأت؟ إلي أين تمضي؟ ما أصلها؟ كل عام، في توقيت معلوم تختفي أرض مصر المزروعة في لجة من المياه، ثم لا تلبث أن تنحسر عنها رويداً، رويداً، هكذا تصور المصري القديم أن الأرض ظهرت من الماء، اليابسة وجودها مترتب علي الماء، الماء إذن أصل، منه ظهر التل الأزلي القديم أول ما ظهر، موقع مرتفع اسمه »نون«، منه بدأ العالم، إنه التل الموغل في القدم. التل المزدهر الذي ظهر في أول العصور، وحددوا مكانه في مواقع مختلفة من أرض مصر. فوقه ظهرت المعالم الأولي للحياة، استقرت فيه الضفادع والثعابين، وهي من الكائنات التي تتفق مع ما يغمر المكان من ظلام ورطوبة، ثمانية مخلوقات، وماتزال في مصر مدينة تسمي »أشمون« بصعيد مصر، أي الثمانية، فوق التل استقرت أيضاً بيضة طائر مائي، خرجت منها أوزة استحال بخروجها الظلام الدامس إلي نهار، إنها الشمس التي طارت مطلقة صيحة، لذلك سميت: الصيحة الأولي الكبيرة، سطعت فوق الماء، فكان ذلك بمثابة الضوء الأول والصوت الأول الذي أضاء الظلام الدامس، في نفس الوقت بدأ الصمت الأزلي، الصمت الممتد فوق سطح بحار وأنهار وعيون وآبار العالم.
إنه الماء، الماء المتدفق زمن الفيضان، التوقيت الذي نسج وشائج مصر بالكون، فمجيء الماء في زمن معين ارتبط بظهور نجم الشعري اليمانية، وقاد ذلك إلي النظر في النجوم، إلي دورات الفلك، إلي نسج كل أساطير مصر القديمة التي لم تكن وقتئذ أساطير، بل كانت تفاصيل رؤية متكاملة للكون، للوجود. الأرض قبل بدء وصول مياه الفيضان تكون متشققة، متشوقة إلي لقاح الماء، وإذ يبدأ، يغمر الشقوق، وتلين الأرض، تتخصب فينبت الزرع، إنها نظرة كونية عميقة، لن أنسي وقوفي مذهولاً، مأخوذاً، أمام رسم جداري في إحدي مقابر الأقصر، تمثل الإله أوزيريس متمدداً تحت مستوي سطح الأرض ومن جسده تنبت زهور اللوتس وسنابل القمح وشتي الأشجار، إنها عناصر الكون المتصلة، فليست الذرات الكونية لأجسادنا، أو النبات الذي نراه، أو الأرض، أو قطرات المياه، إلا نفس الذرات المكونة لأقصي نجوم المجرات بعداً عن كوكبنا، أدرك المصريون القدماء هذه الحقيقة الأولية، والشعراء العظام. هذه اللوحة الجدارية لأوزيريس الذي لا نراه إلا ملفوفاً في الكفن الموميائي الأبيض، مرصعاً بشارات القداسة، إنما تعبر عن تلك الرؤية الإنسانية العميقة لعناصر الوجود جميعها، والماء عنصر البداية دائماً.