حكومة الجمهورية الجديدة    المركز الاستكشافي للعلوم بالمنيا يقيم دورة لتعليم الطلاب المبتكرين كيفية عمل روبوت    233 درجة.. محافظ دمياط تعتمد تنسيق الثانوية العامة    أسماء أوائل الشهادة الابتدائية بمنطقة أسيوط الأزهرية بعد اعتمادها رسميًا    خسائر أسبوعية لأسعار النفط بالأسواق العالمية    هيثم رجائي: الملتقى الدولي لرواد صناعة الدواجن سيكون بمشاركة عربية ودولية    علاء الزهيري رئيسا للجنة التدقيق الداخلي للاتحاد العام العربي للتأمين    «سياحة الشيوخ» توصي بضرورة تفعيل المنتج السياحي «العمرة بلس»    بلغاريا تجري انتخابات لاختيار برلمان جديد    إصابة كيليان مبابى قبل ودية منتخب فرنسا الأخيرة استعدادا ل يورو 2024    مران الأهلى.. محاضرة نظرية من كولر.. وتدريبات استشفائية للتخلص من الإجهاد    بث مباشر مباراة الأهلي والاتحاد السكندري في نهائي دوري السوبر لكرة السلة | بداية المباراة    سيدات مصر لسلاح الشيش يتوجن بذهبية ببطولة أفريقيا للفرق    يورو 2024| سلوفينيا تعود بعد غياب 24 عاما.. انفوجراف    انتهاء جلسة استماع رمضان صبحي أمام لجنة مكافحة المنشطات    أسماء 16 مصابا في اصطدام ميكروباص في بوابة كمين دمشير بالمنيا    منذ 5 شهور.. ليلى عبداللطيف توقعت «صفعة» عمرو دياب    بعد ليلة زفافها.. جميلة عوض توجه الشكر لمن حضر حفل زفافها    إعلام إسرائيلي: اجتماع لمجلس الحرب اليوم دون دعوة جانتس وآيزنكوت    أهمية الثالث من ذي الحجة وخصائصه    تكبيرات عيد الأضحى المبارك 2024.. صيغتها ووقتها    فيديو.. أستاذ اقتصاديات صحة: مصر من أقل دول العالم في تسعير الأدوية    لمواليد برج العقرب.. توقعات الأبراج في الأسبوع الثاني من يونيو 2024 (التفاصيل)    وكيل «رياضة القليوبية» ورئيس شركة المياه يبحثان سبل التعاون المشترك    الجيش الأمريكي: إسرائيل لم تستخدم الرصيف البحري الأمريكي في عملية تحرير الأسرى    منها تسريح الشعر.. مفتي الجمهورية السابق يوضح محظورات الحج    تأجيل محاكمة 3 متهمين ب«خلية الشروق الثانية» لجلسة 14 يوليو    «الصحة»: رفع درجة الاستعداد بالمستشفيات استعداداً لعيد الأضحى    أحمد العوضي يهنئ ياسمين عبد العزيز بمسلسلها الجديد: "هتغدغي الدنيا يا وحش الكون"    مياه القناة: استمرار أعمال التطهير لشبكات الصرف الصحى بالإسماعيلية    «الصناعات الكيمياوية»: إنتاج مصانع الأسمدة في مصر لم يصل مستويات ما قبل قطع الغاز    البابا تواضروس الثاني يزور دير "الأنبا أور"    ذا صن: مانشستر سيتي سيزيد راتب فودين عقب اليورو    «اقتصادية الشيوخ»: الرقابة المسبقة سيؤثر إيجابيا على الاستثمار في مصر    غدا.. "صحة المنيا" تنظم قافلة طبية بقرية حلوة بمركز مطاي    حجازي: جار تأليف مناهج المرحلة الإعدادية الجديدة.. وتطوير الثانوية العامة    مدحت صالح يستعد لإحياء حفل غنائي 29 يونيو بالأوبرا    بروتوكول تعاون بين جامعة بنها والأكاديمية العسكرية للدراسات العليا    اجتماع بالجامعة العربية لتقييم منتديات التعاون مع الدول والتجمعات الإقليمية    محافظ الشرقية يهنئ لاعبي ولاعبات الهوكي لفوزهم بكأس مصر    قصف أمريكي بريطاني يستهدف منطقة الجبانة في الحديدة غرب اليمن    «الأخبار» تطلع على خرائط 100 عام من طقس مصر ..    المرور: ضبط 28776 مخالفة خلال 24 ساعة    محافظ الشرقية يُفاجئ المنشآت الصحية والخدمية بمركزي أبو حماد والزقازيق    بسمة داود تنشر صورا من كواليس "الوصفة السحرية"    منورة يا حكومة    اعتدال بسيط في درجات الحرارة بمحافظة بورسعيد ونشاط للرياح.. فيديو وصور    البابا فرنسيس يحث حماس وإسرائيل على استئناف المفاوضات ويدعو لإنقاذ شعب غزة المنهك    ريان عربي جديد.. إنقاذ طفل سوري وقع داخل بئر بإدلب    موعد يوم التروية 1445.. «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة للحاج في هذا التوقيت    مدرسة غبور للسيارات 2024.. اعرف مجموع القبول والتخصصات المتاحة    وزير الزراعة يوجه بتكثيف حملات التفتيش على منافذ بيع اللحوم والدواجن والاسماك والمجازر استعدادا لاستقبال عيد الأضحى    ضبط مالك مطبعة متهم بطباعة المطبوعات التجارية دون تفويض من أصحابها بالقليوبية    فى انتظار القصاص.. إحاله قضية سفاح التجمع الخامس إلى جنايات القطامية    يحدد العوامل المسببة للأمراض، كل ما تريد معرفته عن علم الجينوم المصري    3 طرق صحيحة لأداء مناسك الحج.. اعرف الفرق بين الإفراد والقِران والتمتع    الملامح النهائية للتشكيل الحكومي الجديد 2024    مجلس التعاون الخليجي: الهجوم الإسرائيلي على مخيم النصيرات جريمة نكراء استهدفت الأبرياء العزل في غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الأصول إلي الفروع
مصر بين الاستمرارية والانقطاع : المصريون القدماء آمنوا بخالق الوجود كله
نشر في أخبار اليوم يوم 04 - 02 - 2012


مازلنا نقول: انت علي راسك ريشة
القوارب ما تزال تطوف حول سيدي أبوالحجاج
منذ سنوات وقفت علي شاطئ النيل قرب مدينة أخميم العتيقة، المشهورة بنسيج خاص ذي اشكال متوارثة منذ اعتناق مصر المسيحية، كانت أخميم مقراً لعبادة الإله »مين« رمز الخصوبة وتجدد الحياة، الزمن في المدينة التي تتراكم فيها طبقات التاريخ له حضور مغاير، كثافة الوقت نتيجة تراكمه وتعاقب البشر الذين خاضوا المغامرة الروحية الكبري علي ضفتي النيل في مرحلة سريانه الأخيرة قبل أن يصب في البحر الأبيض، كنت أصغي إلي سريان الماء وتدفقه، إلي هديره، كان الوقت أغسطس، أي في ذروة الفيضان، الجو هاديء والليل مزدحم بالنجوم وتلك الخصوصية التي تميز الصعيد، مصر العليا التي ولدت في أحد أقاليمها، سوهاج، انتبهت إلي صوت نسائي يتحدث، التفت فوجئت بسيدة تتخذ وضعاً مائلاً في اتجاه النيل، تشير بيديها، ظننت أنها تخاطب شخصاً ما يسبح في اللجة، غير أنني تأكدت أنها تتحدث إلي النهر، إلي النيل، كانت تقول بالنص، »والله يا كبير.. مظلومة.. مظلومة..«.
كان النيل أحد تجليات الحضور الإلهي في حياة المصريين، أطلقوا عليه اسم »حابي« وصوروه مزدوج الجنس، له صدر أنثي وجسد رجل، وقد لاحظت في جميع المعابد أنه يصور في الشريط الأقرب إلي الأرض، وفوقه تقوم وتظهر بقية المشاهد التي تمثل أوجه الحياة، كان النهر مصدراً للحياة، شريانها الرئيسي ما سمعته من السيدة استدعي إلي الذهن تفاصيل عديدة مماثلة تتعلق بالحياة والموت، هذه التفاصيل انشغلت بجمعها ورصدها، في مجموعها تجيب عن سؤال يتردد كثيراً علي مسمعي، ليس من الأجانب انما من المصريين انفسهم السؤال محوره: ما العلاقة بين المصريين القدماء الذين شيدوا هذه الحضارة التي تشكل مع حضارة بين النهرين »العراق«، الأساس الروحي للمغامرة الانسانية الكبري في محاولة فهم واستيعاب الوجود.
لقد تغير لسان المصريين مرتين، كذلك معتقداتهم الدينية المسيحية ثم الاسلام أما اليهودية فهو دين نشأ من رحم المعتقد المصري القديم، ما من دليل يجسد مثل التفاصيل الدقيقة في الحياة اليومية التي قُدر لي أن أعايشها منذ أن تفتح وعيي، سواء في القاهرة القديمة التي نشأت بها أو الصعيد الذي لم تنقطع علاقتي به منذ أن ولدت في احدي قراه القائمة علي الحدود، قرية جهينة الغربية، التي تقف علي الحافة، حافة الصحراء وبدايتها، ونهاية حد الأرض المزروعة الخضراء، ما من بلد في العالم يلوح فيه الحد الفاصل بين الحياة والموت مثل مصر، يمكن ان يقف الانسان في الصعيد بين الأخضر والأصفر، قدم فوق الأرض المزروعة وقدم فوق رمال الصحراء، حدود صارمة، واضحة، من هنا كانت قدسية الحد الفاصل، وحرص الفراعنة علي وضع العلامات التي تحدد المدن والأقاليم ومجمل أرض مصر ذاتها، الحياة والموت يتجاوران، الماء والجدب يتعاقبان، الليل والنهار، تلك الثنائية اساس هام في الفكر المصري القديم، وما تزال عند المصريين، الثنائية جالبة للتوازن الدقيق، للاستقرار، للثبات، للتوازن، من هنا ظهرت فكرة الميزان، أي العدل، في مصر انبثقت فكرة »ماعت«، ماعت مفهوم للنظام الكوني والانساني، وكانت تصور علي هيئة سيدة جالسة ويعلو رأسها ريشة نعام، حتي الآن إذا رأي أحد المصريين شخصاً معتداً بنفسه يقول له: »هو انت علي راسك ريشة«، المعني المستتر هنا ينبع من مفهوم ماعت المؤطر، المنظم لهذا العالم الذي يفيض بالفوضي المنظمة، والتي تضبطها قوة خفية، قوة لا تدرك، لا يمكن الإلمام بها، وإزاءها لا يسعنا إلا محاولة الفهم، طرح الأسئلة ومحاولة الوصول إلي أجوبة، طرح الأسئلة فاتحة الوصول إلي الجواب، وإذا استحال ذلك يظل السؤال معلقاً في انتظار الجواب، السؤال في مواجهة ظواهر الكون هو بداية المحاولة المصرية للفهم التي أسست للأديان الثلاثة في العالم، اليهودية، المسيحية، الاسلام.
اعتدت النزول في بيت قديم بالبر الغربي للأقصر، أشد أماكن العالم كثافة بالنسبة لي، حيث حضور الزمن قوي، والصراع ضد الفناء، ضد العدم، ضد هذه القوة الخفية التي لا تقهر، ولا يمكن التأثير فيها بالابطاء أو الاسراع، فقط نري أعراضها من حضور وفقد، من شباب ومشيب، من تعاقب الليل والنهار، من توالي الفصول، خرجت من البيت القريب من وادي الملكات، متجهاً الي النيل، فجأة رأيت قرص الشمس يتسلق الفراغ، دائرة مكتملة واضحة، حركتها مدركة بالبصر، اشعتها القوية تصهر الموجودات كافة فيتحول الحجر والشجر والنهر إلي ضوء، فقط ضوء، أي يصبح الوجود كله أبدياً، غير مدرك بالحواس، فالبصر لابد عند نقطة محددة لابد أن يحيد، توقفت مبهوراً بالشروق الذي لم نعد نعرفه في المدن المكتظة، المزدحمة، حاولت أن أري بعيني ومعرفة الانسان الذي عاش هنا منذ سبعة، ستة، خمسة آلاف عام.
الكون الشاسع بظواهره مصدر الرؤية المصرية للكون، ثمة محوران اساسيان لها يرتبطان بحركة الفلك بميقات الكون، الأول شرقي/ غربي ومركزه الشمس الثاني، جنوبي/ شمالي. ومركزه النيل، للشمس وقت، وللنهر وقت، كلا التوقيتين مستمر، متكرر، منتظم، من هنا جاءت فكرة القوة المحركة التي لا تدركها الابصار، أول مرة رأيت رمزها في الأوزيريون الملحق بمعبد سيتي الأول بأبيدوس، واعتبر عمارته، ولوحاته الجصية الجدارية، خاصة تلك المنحوتة في عهد سيتي الأول، والد رمسيس الثاني من ذري الفن المصري في جميع مراحله، دائرة، في جميع المعابد والنقوش المصرية لابد من دائرة، والأغلب الأعم يكون لونها أحمر من الجرانيت، الدائرة تعتبر الشكل الكامل، لا بداية لها ولا نهاية، كل نقطة فيها بداية، وكل نقطة نهاية، انها رمز الكون الموجود، ولكن اذا كان الأمر يتعلق بدائرة فقط، فهذا يعني السكون، العدم، لكي يكتمل حضور الدائرة لابد أن تدور، لذلك يحف الدائرة يدان، كل منهما بادية حتي المعصم ثم يغيب الباقي في الفراغ، اليدان تلمسان الدائرة، انهما رمز القوة المحركة الخفية، ان هذا الوجود لم يأت عبثاً، ثمة خالق، منظم، محرك، لكنه لا يُري، لا تدركه الأبصار، لذلك أطلق عليه »امون« أي الخفي، ونلاحظ أن الصلاة في الأديان الثلاثة تختتم بلفظ »آمين« اي الخفي، عرف المصريون ذروة التجريد أما التصاوير التي ترمز إلي الآلهة، فبمثابة اشارات يمكن للمفاهيم الانسانية استيعابها، للدائرة شأن عظيم في الرموز المصرية القديمة، وخلال تجوالي الطويل في العمارة الإسلامية والقبطية، رأيت الدائرة عنصراً أساسياً في الزخرفة، قد يبدو هذا عادياً في فنون أخري، ولكنني أعني علاقة الدائرة بما يحطيها، بالفراغ، اضافة الي المادة المصاغة منها، الجرانيت الأحمر الوردي، العمارة المصرية أدق ذاكرة مرئية للاستمرارية في الثقافة المصرية رغم تغير المعتقد، واللغة.

ما من فن يوضح الرؤية المصرية للكون. واستمراريتها رغم تغير الدين واللسان مرتين »المسيحية ثم الاسلام« مثل العمارة. تقوم العمارة المصرية علي رؤية ملخصها، ضرورة ارتباط المبني بالكون، مداخل المعابد المطلة علي النهر، او القائمة عند حدود الغرب قرب الخط الفاصل بين الزرع والجدب، بين الأخضر والأصفر، تتجه جميعها الي الشمال، الي حيث الدب القطبي أو النجم سويتس، الاهرام ليست إلا معراجا روحيا الي السماء من الحجر. لكم تأملته في جميع الأوقات، وأمضيت ليلة كاملة بمفردي متمددا في تابوت الملك خوفو، بغرفة الدفن، محاولاً رؤية ذلك الشعاع الذي ينفذ عبر نفق يصل التابوت بضوء النجوم الذي يظهر فجأة في اللحظات الأخيرة من الليل، لابد من الاتصال بالكون، التوجه الي اللانهائي من خلال المحدود، حتي وان كان في عمق الأرض، في مقبرة حور محب بوادي الملوك توقفت طويلاً أمام علامات رسمها الكهنة في غرفة الدفن علي عمق مائة وعشرين متراً، عند هذا الحد الذي تختفي فيه الجهات نفاجأ بالجهات، لابد للراقد في أبديته أن يتجه الي مطلع الشمس، إلي الكون الفسيح، كان ذلك في مصر القديمة، والآن عندما يدفن المصريون موتاهم، يتجه المسلمون إلي جهة الكعبة.
العنصر الثاني في العمارة المصرية التدرج، يبدو ذلك في المعابد بكل أنواعها، الفكرة أساسها النهر، الفيضان لا يجيء مرة واحدة، انما يبدأ بنقطة مياه، والنقطة يتبعها نقاط، في الاسطورة الاساسية التي قدست فيها مصر رمز الأمومة »ايزيس« نقرأ أن الفيضان يجيء من دموع الزوجة الوفية التي راحت ترثي زوجها أوزير سيد العالم الآخر، وراحت تلملم اشلاءه الاثنين وأربعين التي نثرت علي أرض مصر، كل جزء كانت تقيم له نصباً، ومن هذه الأقسام تكونت اقاليم الدولة، وعندما عثرت علي عضو الذكورة حملت مما تبقي فيه من مني أي حملت بابنها حور من زوج غائب، وحتي تخفي طفلها من بطش عمه ست، رمز الشر، أخفت حور في أحراش الدلتا، في المعبد المخصص لعبادة اوزير توقفت طويلاً أمام الجداريات الرقيقة التي تقف فيها ايزيس خلف زوجها المتوفي اوزير الذي لا يظهر إلا في كفنه الأبيض، ويداه امام صدره فيما يُعرف بالوضع الأوزيري، وهو تقريباً الوضع الذي يتخذه المؤمنون من الديانات الثلاثة عند التوجه إلي الصلاة، تقف ايزيس كالحارسة خلف زوجها الشهيد، لكم تأملت لمسة أناملها لكتفها، ذلك الحنو والرقة، هذه اللمسة الايزيسية سوف نجدها في جميع المشاهد التي تمثل الأسرة المصرية سواء كانت رسماً أو نحتاً، المرأة في نفس حجم الرجل وبينهما الطفل، هذا الاحساس العميق بالأسرة أحد المداخل الرئيسية لفهم الشخصية المصرية أمام كل تمثال أو رسم يجسد هذا الثالوث، أتوقف طويلاً، غير أن ما اثار دهشتي في معبد ابيدوس الذي وصل إلينا سالماً تقريباً بمعجزة، بالنظر إلي ما تعرض له من تدمير، خاصة في حقبة اعتناق مصر للمسيحية، اللوحة التي اثارت حيرتي في مقصورة اوزير، وتمثل الحيوانات المنوية، هذا يعني وجود منظار مكبر، تمكنوا به، من خلاله رؤية هذه الكائنات الدقيقة، للأسف لم تصل إلينا الوسيلة التي استطاعوا بها مشاهدة بذور الحياة، كما استلهم المصريون فكرة التدرج من فيضان النيل، عرفوها من الحياة، فالحياة لا تكتمل فجأة، انما تتدرج، لذلك يجل الصغير الكبير، يمكن اعتبار العمارة المصرية فعلا مضادا للعدم، ولهذا تحتوي الرمزية، أقدم المصري علي البناء ليظل اسمه موجوداً باقياً بعد رحيله. بعد فنائه. فعل البناء هدفه واحد، البقاء، رغم اختلاف المستويات بدءاً من المصري البسيط الذي يبني مقبرة متواضعة، ويتوسل إلي المارة عبر الكتابة، إلي الأحياء أن يذكروه، كان ذلك في الزمن القديم ومازال قائماً اياً كانت ديانة المصري، المصري مشغول بالبناء ليبقي اسمه، يبني معبداً، او سبيل مياه ليروي ظمأ الغرباء، أو مستشفي، أو بيتا يؤوي اسرته، ومنذ اتساع ظاهرة هجرة المصريين منذ سبعينيات القرن الماضي بحثاً عن الرزق، وتلك الظاهرة تحدث بهذا الحجم لأول مرة في التاريخ المصري، وما تزال في بدايتها رغم مرور حوالي اربعة عقود علي بدايتها، إلا انني لاحظت أن الهدف الأساسي للمصريين هو العودة بمدخر يمكنهم من البناء، ما تزال فكرة البناء أساسية في وجدان المصريين، والاهتمام ببناء مقبرة يتوازي ان لم يتجاوز الاهتمام ببناء بيت للحياة الدنيا، المثوي الابدي أولي بالرعاية والعناية، لأنه سيستمر ابداً، ولكن بيوت الدنيا عابرة، مؤقتة، تماماً مثل الحياة، قصيرة جميلة لكن الانسان لا يدرك ما فيها من جمال لما يلحقه من ظلم، من بطش، البناء هو فعل اساسي في موقف المصريين القديم، رفضهم للعدم، للنهاية، لذلك لجأوا إلي وسائل عديدة لقهر العدم، منها بل أهمها البناء، الرسم، النحت، تحنيط الجسد نفسه، رفض العدم قاد المصريين إلي تخيل امتداد الحياة القائمة في حياة اخروية جميع عناصرها مستمدة من الحياة اليومية، في مقبرة سبخم رع فنان دير المدينة نراه في حقول يارو »الاسم المصري للجنة« بصحبة زوجته وهما يحصدان حقول الكتان والقمح في مشهد يعد من أرق ما عرفت في تاريخ الفن الإنساني، وتحت المشهد جملة »أرض لا يوجد فيها أعداء« انه السلام الأبدي في الجنة لكن الوصول إلي الجنة، إلي النعيم لا يتم إلا بعد محاكمة دقيقة، القاضي فيها هو اوزير سيد العالم الآخر، الشهيد أمامه الميزان، وهناك من يتلقون اقرارات المتوفي التي يذكر فيها ما يمكن اعتباره بحق »فجر الضمير« كما اطلق عليه عالم المصريات الامريكي جيمس هنري بريستد في كتابه الشهير، رفض العدم، وايجاد العالم الآخر القائم علي الثواب والعقاب، هو الموقف الأعظم في تاريخ الانسانية الرافض للعدم، للفناء النهائي، ليست الحياة إلا جسراً، هذا المفهوم انتقل الي الأديان التالية، وعلي مستوي التفاصيل ستدركنا الدهشة، خاصة في مقبرتي سيتي الأول، ورمسيس السادس، حيث نري تفاصيل النعيم والجحيم ايضاً، كثير من التفاصيل الدقيقة التي ذكرت في الكتب المقدسة، خاصة القرآن ووصفه للعذاب الذي سيلحق بالكفار، مثل عبور السراط، وسلخ الجلد، وتقطيع الأطراف من خلاف، هذه التفاصيل نراها مجسدة علي الجدران التي تحيط بمراقد الأبدية لملوك مصر الأقدمين.
ذات صباح باكر في القاهرة، كنت في السيارة بمنطقة بولاق حيث مقر الجريدة التي أعمل بها، بولاق قريب من النيل، حي عريق وكان الميناء المطل علي النيل مركزاً مهما للتجارة في العصور الوسطي، كان محطة رئيسية في طريق الحرير والتوابل القادمة من الصين والهند الي أوروبا عبر المتوسط إلي البندقية.
من شارع جانبي خرجت مجموعة من النساء كلهن يرتدين السواد، بعضهن يلطخن وجوههن بالنيلة الزرقاء، والنيلة نبات مصري يستخدم في صباغة اللون الأزرق، وفي اللغة الشعبية المتداولة عبارة تقول »جاتك نيلة...« أي مصيبة، النيلة علامة علي الحزن الشديد منذ أيام المصريين القدماء، ما لفت نظري، سيدة شابة تتوسط النساء، واضح أنها محور المصيبة، ربما كان المتوفي زوجها أو شقيقها، ان اختفاء من يعول الأسرة في مصر كارثة حقيقية، وفي الأغلب الأعم تحل المرأة محل الرجل في المسئولية، وفي صعيد مصر وفي المناطق الشعبية تحاط الأرملة باحترام كبير من المجتمع، وكثيرات يرفضن الزواج بعد وفاة رجالهن وينزلن الي الاسواق للتجارة، أو لكسب الرزق، وكانت جدتي لأمي مثالاً علي ذلك كانت نحيلة، فارهة الطول، جميلة الملامح، أصبحت أرملة وهي في العشرين، كانت اماً لفتي »خالي« ولفتاة »أمي« قررت التفرغ لتربيتهما وكانت تخرج الي السوق لتبيع الحبوب، واعتذرت لكل من تقدم إليها طالبا الزواج منها، عند حد معين يعتبر المجتمع ان هذه السيدة أوقفت حياتها علي تربية أبنائها، تصبح ذات هيبة، محرمة.
مازلت أذكر الشابة بين النساء الأخريات، كانت حركة جسدها تشبه الرقص، ذراعاها تلوحان الي أعلي، رأسها يتمايل، صويحباتها يحطنها منعاً لها من سقوطها فوق الأرض، حركتها الراقصة حزناً وليس فرحاً ذكرتني بلوحة شهيرة في مقبرة راموزا بالبر الغربي من طيبة، أحد أشهر أماكن الزيارة في الأقصر حيث مقابر النبلاء، كان راموزا وزيراً لأخناتون، وفي مقبرته لوحة شهيرة للنساء النائحات وهن يودعن الميت بعد تحنيطه بحركة الأيدي والرقص بأجسادهن، تماماً كما رأيتهن في ذلك الصباح بمنطقة بولاق الشعبية.
الصراخ حزناً علي الميت هو في نفس الوقت احتجاج علي الموت، علي ذلك الذي لاراد له ولا مانع، انه تأكيد علي قيمة الحياة وليس استسلاماً للفناء، كان آخر طقس يقوم به الكهنة بعد تحنيط الميت، قبل مواراته القبر، يفتحون فمه بآلة خاصة، ويصيح الكاهن الأكبر في وجهه، »انهض.. انك لست بميت«.
في فيلم »المومياء« للفنان الراحل شادي عبدالسلام مشهد جري في الواقع خلال القرن التاسع عشر بعد اكتشاف الخبيئة الملكية والتي كانت تضم مومياءات ملوك مصر المعروضة الآن في المتحف المصري، اثناء نقل التوابيت من المقبرة التي تقع خلف الدير البحري في ركب مهيب تحرسه الشرطة، خرجت النساء من بيوتهن ورحن يبكين بصوت عال ملوحات بنفس حركات الأيدي التي رأيتها ذلك الصباح في بولاق، وفي تلك الجدارية البديعة بمقبرة راموزا.
عندما توفي والدي، أقدم أحد أقاربنا المعمرين علي الميل في أذنه وتلقينه بما يجب أن يقوله من آيات القرآن الكريم اذا ما واجه المخاطر المتوقعة في الطريق إلي الأبدية، كان يقول له: »لا تخف.. إن عملك الصالح معك«.
نفس الكلمات التي وردت في كتاب »الخروج إلي النهار« والذي أطلق عليه البعض خطأ اسم »كتاب الموتي«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.