قد يمت اقتراحي في نظر البعض إلي الخيال العلمي، ولكن كل المشاريع الكبري بدأت بالخيال سواء علي المستوي الشخصي أو العام يجب ألا نفقد القدرة علي التفكير الهاديء، الموضوعي، حول نهر النيل، لا اخفي فقط دهشتي من السرعة التي جرت بها الاحداث، منذ سنوات ونحن نقرأ عن متغيرات في العلاقات مع دول حوض النيل، عن سدود يجري التخطيط لاقامتها خاصة في اثيوبيا التي تمد النهر بحوالي خمسة وثمانين في المائة من موارده المائية، اخبار متناثرة في بعض الصحف، فجأة اصبح هذا واقعا، هذا يعني ان اغماء اعلاميا وسياسيا كان سائدا بخصوص النهر، نعم، ثمة مؤسسات في الدولة تعمل بعيدا عن الضوء، اهمها مؤسسة الري، واعتبرها العامود الاساسي في تركيبة الدولة المصرية. إلي جانب مؤسسات الامن من الجيش والشرطة والامن القومي ثم الخارجية. مؤسسة الري المصرية اقدم مؤسسات العالم خبرة والنيل يكاد يكون النهر الوحيد الذي نجد احواله مدونة في مصادر التاريخ المصرية منذ اقدم العصور، ويكفي ان نطالع الموسوعة الكبري »تقويم النيل« لامين سامي التي صدرت في بداية القرن الماضي، وأعادت دار الكتب المصرية طباعتها خلال تولي الدكتور صلاح فضل وحتي الدكتور صابر عرب، هناك جهود تبذل، وهناك جنود لا نعرفهم يعملون في اعالي النهر سواء من الخارجية والامن القومي والري. لكن ثمة انطباعا ان كل جهة تعمل بمفردها بعيدا عن رؤية شاملة، لو اننا توجهنا بسؤال إلي المثقفين، بل بعض المتابعين لاحوال النهر عن اسماء دول الحوض وعددها، اشك اننا سنجد اجابة صحيحة، ذلك ان ثقافة النهر غائبة تماما عن المصريين، سواء في مناهج التعليم علي جميع المستويات، أو الحياة اليومية، ثمة تحول جري في حياة المصريين وعلاقتهم بالنهر، اول من نبه اليه شاعرنا العظيم الابنودي وهو من الخبراء بأحوال مصر الداخلية العميقة، اعني اعصابها النائية، الكامنة، بعد اكتمال السد العالي وترويض النهر بدأ التجرؤ عليه، ظهرت المباني في المناطق المنخفضة التي كان ماء الفيضان يغمرها، وتحول المجري إلي مقلب للنفايات، سواء من المصانع أو السفن السياحية التي يبلغ عددها مئات، تفرغ صرفها الصحي في النهر ولنا ان نتخيل الاهوال التي تختلط بالماء، فقد النيل هيبته ومكانته في حياة المصريين، وساعدت الثقافة السائدة علي ذلك، اذكر في بداية التحولات الانفتاحية في السبعينيات اعلانا يروج لزجاجات المياه المعبئة والتي شهدت مصر تنافسا هائلا بين الشركات العاملة في هذا المجال، كان صاحب الصوت الاعلاني كأنه قادم من كوكب آخر، يتردد عبر وسائل الاعلام »احذر ماء النيل..« كان ذلك بداية ثقافة شرب المياه المعبأة، نقرأ المكتوب علي الزجاجة فنقرأ اسم مصدر ما للمياه الجوفية، كان غريبا هجر ماء النيل وتحقيره واهانته، هذا احد اخطر القيم الثقافية التي سادت زمن الانفتاح، وهي قيمة مضادة لمضمون مصر الثقافي منذ القدم والذي قام علي تقديس النهر، في العصور القديمة كان يعبد، ويرمز اليه بحابي، وهو مخلوق ذكر وانثي في الوقت نفسه رمز لمصدر الحياة، ويرسم في المعابد المصرية القديمة بمفرده، وفي اول صف علي الجدران. قريبا من الارض، فكأنه الاساس الذي تقوم عليه تفاصيل الحياة، وفي تخيل المصريين للعالم الاخر نجد الثواب والعقاب في المحكمة الاوزيرية حيث الميزان، قلب الانسان في كفة، وريشة العدالة »ماعت« في كفة اخري، فاذا ثقلت الموازين يلقي بالقلب إلي حيوان مفترس نصفه اسد والنصف السفلي تمساح، عندئذ يفني الانسان تماما. قبل المحكمة الاخروية كان المرحوم يملأ اربعين اقرارا »لاحظ الصيغة المصرية البيروقراطية حتي في الاخرة«. اربعين استمارة، اولها يوقع قائلا »انا لم ألوث ماء النيل«. لقد قام نظامنا الانفتاحي بتلويث ماء النيل، وسمح بالتجرؤ عليه، حوله إلي مقلب زبالة، وبدا لي غريبا ان اجمل نهر في العالم، من كان يضرب المثل بصفاء مائه وعذوبته لا يشرب منه اهله، القادرون يشربون من الزجاجات المسماة كذبا »معدنية«، اما الاغلبية فتشرب من النهر، ونتيجة للتلوث تزايدت الامراض الفتاكة، خاصة السرطان، لاول مرة في تاريخ مصر يتراجع الاهتمام بالنهر، هذا لم يحدث بعد غزو العرب لمصر، جميع مصادر التاريخ المصري، سواء في عصر الولاة، أو الفاطمي، الايوبي، المملوكي، العثماني، تبدأ بالحديث عن النيل وفضائله واهميته، كان الاعتقاد السائد انه ينبع من الجنة، وكانت الحياة مرتبطة بفيضانه، ومنذ بدء نزول اول نقطة في يونيو يتم متابعة المقاييس المنتشرة علي مجراه، اشهرها مقياس الروضة، ثم يجري اذاعتها علي الناس من خلال منادين متخصصين، اي ان الدولة المصرية في العصور الوسطي كانت تدرك اهمية اعلام الناس بأحوال النيل، ذلك ان نقصه أو زيادته لهما علاقة بجميع الاحوال سياسية واقتصادية، تتطلع كل الانظار إلي ليلة الوفاء فإذا لم يبلغ المنسوب ست عشرة ذراعا فيعني هذا ان الفيضان قليل، عندئذ تبدأ الازمة علي الفور، تشح الحبوب والمواد الغذائية من الاسواق، وتقل الاقوات، واذا كان نقص المياه شديدا تقع المجاعة علي الفور، فيأكل الناس الميتة والقطط والكلاب والخنازير، والهوام، ثم يأكلون بعضهم بعضا، جري هذا مرارا في مصر. مصادر التاريخ حفظت لنا تفاصيل مهولة. وللمقريزي كتاب شديد الاهمية عنوانه »إغاثة الامة بكشف الغمة« عن المجاعات وقد ادرك اهم اسبابها، شح النهر والفساد في التدبير، تراجع ثقافة النيل. وضعف وجود رؤية شاملة تحكم عمل مؤسسات الدولة المتصلة بالنيل، جعلتنا لا نولي النهر اهتماما، وها نحن نفيق فجأة علي خطر حقيقي يبدو انه سيتجسد قريبا بأسرع مما نتصور، كما ذكرت فالتماسك والهدوء واستنفار تماسك الدولة المصرية عوامل مطلوبة لان وجودنا نفسه اصبح مهددا لأول مرة في التاريخ، وكأن قدر جيلنا ان يري افدح الكوارث، اعادة الاهتمام إلي ثقافة النيل، والي افريقيا اولي الخطوات. اقتراحات ليست خيالية مثل اهتمامي بالقاهرة القديمة، والاهرام، والبر الغربي، اهتم بالنهر، النيل فريد بين انهار الدنيا التي رأيت معظمها، لا دانوب ولا سين ولا اليانجستي ولا المسيسبي، النيل غريب الصمت كما يصفه الابنودي، النيل نفسه شعر، وفيه خاصية غريبة انك عندما تجلس إلي ضفته وحيدا تشعر بالانس فكأنه صاحب يتدفق إلي روحك واوردتك، صديق يمكن ان تبادله النجوي، ثمة شيء في جريان النيل ينفذ إلي الروح وقد رأيته من اماكن لا تحصي في بر مصر خلال ترحالي، ويشق علي نفسي ان ما عاش آلاف السنين يقدر لنا نحن الجيل التعس ان نري بداية انحساره، ما يجري في دول المنبع ليس منفصلا عن متغيرات عالمية ومحلية كانت تنمو علي مرأي ومسمع لكننا لم نر ولم نسمع للانكفاء علي الذات، والانشغال بالوقتي، الاني، حتي بداية السبعينيات كان لمصر حضور قوي في افريقيا، ليس صحيحا ان عبدالناصر اهمل افريقيا، بالعكس. كان لمصر هيبة وكلمة مسموعة وكان العمل يجري من خلال قنوات عديدة منها شركة النصر التي كان يرأسها شخص بارز اذا لم تخني الذاكرة كان اسمه محمد غانم، كان لها فروع في كافة البلدان، وكان عملها الاقتصادي غطاء لما هو سياسي وثقافي، كان المسئول عن النشاط الافريقي شخصية رائعة ماتزال بيننا امد الله في عمر صاحبها محمد فائق ولكم نحن الان بحاجة إلي خبرته وارائه فيما يجري، تم تدمير شركة النصر وكل ما انجزته مصر في افريقيا كجزء من الحملة علي الحقبة الناصرية التي بدأت بما سمي حركة مايو، ثم تحولت إلي ثورة، للاسف في مصر الشخص يلغي العام احيانا، عادت مصر السياسية نظام مانجستو هايلي مريام الشيوعي، مع ان من بديهيات الدولة المصرية التي ادركها حتي حكامها الاغراب والاجانب معها، ألا يقع خلاف مع اثيوبيا، وخلال السنوات التالية تزايد التنافر خاصة بعد احداث اديس ابابا في التسعينيات، وجاء ذلك مواكبا لانفصال الكنيسة الاثيوبية القبطية عن الكنيسة الام في مصر واستقلالها كأن الكوارث لا تأتي فرادي، بعض التصريحات تحدثت عن حروب محتملة، وهذا كلام غير واقعي، فلسنا في الزمن الذي كانت تحسم فيه الامور بتجريدة تخرج إلي مكان ما، العالم معقد وما يجري في افريقيا اكثر تعقيدا، وللنظر إلي الصومال وما يجري فيها، انني اتمني للجهود المصرية الان ان توفق، غير ان مجمل الظروف الدولية والمحلية في دول المنبع تشير إلي ان الاذعان المصري السوداني امر واقع في النهاية، لذلك نحن في حاجة إلي حلول غير تقليدية، إلي استنفار روح التحدي في بر مصر وروحها، ان النيل يجري الان ليصب في البحر، هل من عمل يوقف اهدار الماء الذي يقدر باربعة مليارات متر مكعب سنويا، ألا يمكن تحويل فرع رشيد إلي الصحراء الغربية؟ ألا يمكن بناء خزانات جديدة تدخر المزيد من الماء، ألا يمكن شق قنوات من المجري الرئيسي إلي المناطق المنخفضة في الصحراء؟ قد يبدو ما افكر فيه خياليا، بل قد يبدو بعض ما اطرحه نوعا من الاحلام، لكن الطيران بدأ بحلم في الف ليلة وليلة »التي يطالب البعض بمصادرتها« والان يتحقق الطيران إلي الكواكب، في العصر الفاطمي استدعي الحاكم بأمر الله العالم العربي الحسن بن الهيثم، بعد ان بلغه ما قاله انه لو كان في مصر لانشأ عملا يبطل فيه مخاطر النيل من نقص وزيادة. سافر الحسن إلي اسوان، امضي بها وقتا، وفي الاغلب الاعم في رأيي انه كان يفكر في مشروع قريب من السد العالي لكن امكانيات العصر لم تساعده، اختفي عن عيون الحاكم وهرب من مصر خوفا من نتائج فشله ولكن فكرته نفذت بعد الف عام، ما اطرحه علي اهل الاختصاص، انشاء عمل أو اعمال تجعل نهاية النهر كلها في مصر وبالتالي نحافظ علي كل قطرة ماء تصل إلينا خاصة بعد نقصان الحصة المتوقع، وتحسبا لما قد يقع في المستقبل نتيجة انشاء سدود اخري في دول المنبع، في نفس الوقت البدء في بث ثقافة النيل والحفاظ علي كل نقطة ماء من الهدر، انها قضية حياة أو موت. محمود في الدير السبت اطل علينا الاعلامي اللامع محمود سعد من ساحة دير الانبا انطونيوس في صحراء مصر الشرقية، كان ممكنا ان يكون ذلك فقرة لا تستوقف البصر أو الاهتمام في الظروف العادية، من الطبيعي ذلك، ان يقدم الاعلامي المتمكن كل بقاع الوطن وألوانه، لكن النغمة السائدة في الاعلام المرئي والمقروء هي مركزية القاهرة، حتي انني اقرأ في الصحف اليومية اخبار المحافظات كلها في ابواب قصيرة »اخبار المحافظات« »خارج القاهرة« وكأن تلك الاقاليم الشاسعة تقع في بلد آخر، محمود سعد قطع مسافة طويلة، عبر الصحراء الشرقية بالعرض، قبل الزعفرانة. اتجه يمينا إلي عمق الجبل، قرب عين ماء آوي إلي هذه البقعة النائية جدا قبل الفي عام، راهب مصري الانبا انطونيوس وبالقرب منه آوي راهب اخر هو الانبا بولا. هما من اسسا حركة الرهبنة في العالم كله. قطعت هذا الطريق عام ثمانية وستين بعد ان شقته القوات المسلحة ليكون واصلا بين الصعيد والبحر الاحمر، اذكر ذلك الصمت الكوني ورهبة الصحراء والاحساس بالبعد، هذا الاحساس استقر داخلي حتي الان رغم انني كنت اركب عربة ويرافقني مكرم جاد الكريم المصور الكبير، ولدينا ماء وزاد وسلاح شخصي لكل منا. رغم ذلك نشعر بالاقصاء والبعد، اذن، بماذا كان يشعر اولئك الرهبان الاوائل وهم يدخلون هذه الصحراء علي اقدامهم. لم تتعامل اجهزة الاعلام مع ألوان مصر المختلفة بما يكفي، ما اقدم عليه محمود في برنامج »مصر النهاردة« خطوة جديدة تستحق التقدير، فمن ناحية هذا عمل اعلامي رفيع، وايضا وطني، لن يدرأ المتطرف إلا المعرفة بين ابناء الوطن الواحد، التليفزيون سلاح بعيد المدي، قوي التأثير اذا حسن توجيهه بدون افتعال وتمت رسالته بشكل طبيعي وهذا ما تحقق في تلك الحلقة المتميزة من مصر النهاردة والتي سبقها منذ اسبوع حوار رائع مع الخال الابنودي في معزله، حوار اعتبره وثيقة فنية وانسانية وادبية، كان الحوار في مستوي ارفع البرامج الثقافية في العالم، اعلامي مقتدر مثقف وشاعر عظيم وراهب مصري يطلعنا علي جانب من الوطن من روحه، تأثرت بشخصية الراهب وسخريته احيانا، وبساطة محمود سعد الآسرة ، وتوقفت طويلا امام جملة قالها مؤسس الدير الانبا انطونيوس: في كل يوم نبدأ.. كل يوم الرغبة في البكاء يدنو الدمع من حافتي العينين بدون دافع قوي، تهاتفني شقيقتي وشقيقي يوميا للاطمئنان، والتأكد انني مازلت اسعي، وعندما اقول لكل منهما »تصبحون علي خير« اوشك علي البكاء، مكالمتان يوميا، قد تطولان أو تقصران، الاولي نهارية من القعيد، نتحدث، نتبادل الاراء، الاخبار، الثانية ليلية مع الابنودي في معزله بالاسماعيلية، احيانا نتحدث لاكثر من ساعة، لم يعد مجال للقاءات الزمن القديم، وكلاهما من تحويشة العمر، لكن ما ادهش له انني اثناء الحديث أو الاصغاء اوشك علي البكاء، اكاد اسمعهما نشيجي، يضيق صدري ولكنني احوش نفسي، اصافح الاغراب حتي الذين لا اعرفهم جيدا، احدق إلي ملامح مجهولة لي فأرغب في البكاء، اتطلع إلي الشجر القديم فأوشك علي الذرف، اتذكر ما كان، ناحية عبرتها، حسناء رأيتها، لون بهرني، موسيقي اججتني. فأنحني والدمع يتدفق إلي داخلي.