لا ياعم عباس.. بلاش تغرف شوربة للدكتورة.. مش مهم الشوربة خالص..نظرت إلي بعينيها الواسعتين الجميلتين, ثم همست بصوتها الرقيق الحنون أنا خليت عم عباس يعمل الحمام بالفريك زي مابتحبيه.. ثم إصطنعت جملة لا تليق بشخصها الوديع, وبإبتسامة ساحرة لخريجة المدارس الفرنسية العريقة ومش عايزة أسمع كلمة ريجيم دي تاني في رمضان. وكعادتي, أنا وإخوتي علي مائدة والدتي العامرة بحب صادق وحنان دافيء ومودة لا تنضب ياماما, ياحبيبة قلبي.. إحنا لسة أول يوم رمضان, وماينفعش أبتدي ب...وقاطعني ملاكي الحارس بحسم لا يتماشي مع صغر سن من تزوجت في السابعة عشر من عمرها لجمالها ورقي أخلاقها لا.. ينفع يانانا ياحبيبة ماما..وإذا بعم عباس, وكأنه اللبيب الذي بالإشارة الضمنية يفهم الأوامر العائلية, يتجه بيديه القويتين عن يسار المقعد الرئيسي حيث تجلس والدتي, ليضع أمامي وحدي في آن واحد كل مالذ وطاب. وأصبح هذا المشهد الرمضاني الباسم طقسا يداعب الأسرة الصغيرة السعيدة, ثم صارعادة تضحك إخوتي وزوجاتهم, لينتقل عبر السنوات, التي تمر كلمح البصر, فيتندر به الأحفاد علي مائدة الإفطار من كل عام. ماما.. علي فكرة, إنتي مش بتتغيري أبدا...فصباحة الوجه الملائكي, أناقة الكلمات والملبس, عذوبة القول والفعل, وداعة القلب ونقاء الروح, رشاقة الجسد وصفاء النفس, طهارة اللسان واليد.. كل نعم الله لم تتبدل لديها علي الرغم من تعاقب السنوات وقسوة الصدمات. وكثيرا ماكنت أقول لمدرستي بالفصل الإبتدائيمامتي أشطر من الأم المثالية علشان عملت لنا حاجات أكتر بكتير من الست اللي جت في التلفزيون إمبارح, بس أكيد هما مش بيختاروها علشان مش بتلبس جلابية.. صح..؟ ويضج المدرسون بالضحك ويتناقلون الرواية كفكاهة بريئة لطفلة صغيرة. العربية جاهزة يادكتورة..وصحت بحدةيللا ياأولاد... كده حنوصل بعد المغرب مايدن, وجدكم حيعملكم فضيحة كالعادة.. وإخترقت سيارتنا شوارع قاهرة المعز. كنت أملي عيني بشوادر الخيامية مبهجة الألوان, أتنسم رائحة مسك موائد الرحمن, أتحري علي إستحياء عطر المناطق الشعبية التي يرتادها القاصي والداني بعد صلاة التراويح وحتي آذان الفجر. تتناغم في هذا الشهر الكريم الثقافة مع الفكر والإبداع في الحسين, يمتزج الإنشاد الإسلامي مع الترانيم المسيحية تحت قبة الغوري, تضاء أنوار الساحات الشعبية والمراكز الشبابية لتضاهي المسارح الفخيمة الفنية... ياله من تجمع إنساني لجميع الأعمار, ولقاء إجتماعي لجميع الطبقات, وتفاعل روحاني لمختلف الديانات.سرع شوية ياعم رضا.. مش حنلحق الفطار..ياأستاذ باسم ربنا يكفيك شر الطريق.. الساعة دي قبل الفطار, الناس كلها بتجري همها علي بطنها.. ربنا يستر. وبخطوة واحدة وسريعة تجاوزنا باب دخول منزل والدتي, ليجلس كل في مقعده المعتاد علي مائدة الإفطار قبيل آذان المغرب بدقائق معدودة. وبالرغم من ذلك المجهود المضاعف, لم يسلم الأبناء ولا الأحفاد من تقريع الجد علي التأخير. يللا ياحنونة.. بلاش الشوربة.. خدي ده من إيد ماما..ومددت يدي في الهواء, فتهاوي الصحن ليسقط وتتطاير معه أحلام يقظتي فوق... مقعدها الخالي. وتساقطت الدموع الحارة أنهارا, وخرجت الأنات الملتهبة حبيسة الصدر, وإشتعل رماد القلب ليحترق من جديد. رحمك الله يا أمي, خالدة الذكري العطرة ومانحة الحب الأبدي.