بعد غد إن شاء الله يهل علينا يوم الثالث والعشرين من ديسمبر.. اليوم الخالد في تاريخ مصر وكفاحها ضد الاستثمار, إنه اليوم الذي رحل فيه آخر جندي من جنود العدوان الثلاثي الغاشم مع آخر ضوء من شمسه حيث أقلعت من بورسعيد سفن العدوان مغلفة بالخزي والعار حاملة الجنود الذين كست الهزيمة وجوههم وباءوا بخيبة أمل أنهت وقضت علي صروح الاستعمار في كل الدول التي رزحت تحت نيره ومع آخر ضوء من شمس ذاك اليوم سنة1956 دخلت ومعي طاقم عمل إذاعي عبر كوبري الرسوة جنوب بورسعيد ومعي جموع غفيرة من المواطنين الذين انتظروا مغيب الشمس ليدخلوا المدينة الباسلة حسب الاتفاق الذي أشرفت عليه الأممالمتحدة, وهو ألا يدخل المدينة أحد من الناس إلا مع غروب الشمس, وهو الموعد الذي تحدد لخروج آخر جنود الاستعمار والعدوان. كانت الأجواء مفعمة بالفرحة, وهتافات الداخلين إلي المدينة تدوي هاتفة بسقوط الاستعمار وحياة المدينة الباسلة وأبنائها المغاوير. كانت الجموع تسير عبر كوبري الرسوة, وفي الطريق إلي داخل المدينة خلف كتيبة من القوات المسلحة بعرباتها المدرعة وفي المقدمة عربة القائد الذي رجوته أن ييسر لي ولمن معي من طاقم الإذاعة وسائل المعيشة علي مدي عشرة أيام سنقضيها في المدينة نسجل ونذيع أحوالها بعد الجلاء عنها, وبعد أن تناهت إلي سمعي بعض أقوال مفادها أن فنادق المدينة محجوزة ومشغولة عن آخرها, وتكرم الرجل فأقام لنا خيمة بها أسرة مثل تلك التي ينام عليها الجنود أنه المقدم أحمد إسماعيل علي يرحمه الله الذي شاء له القدر بعد ذلك أن يكون قائد عام حرب العبور.. حرب أكتوبر المجيدة. وما أن وضعت رحالنا في الخيمة التي أقامها لنا الجنود في أرض فضاء تبعد قليلا عن قلب المدينة حتي بادرت بالتوجه ومعي أجهزة الإذاعة إلي حيث الشوارع الغاصة بالجماهير. كانت المقاهي ممتلئة بروادها, وكانت فرق السمسمية تصدح بألحانها, وهي تجوب الشوارع ومن خلفها الشباب والصبية يرددون الأغاني الوطنية.. الكل يهتف.. الكل يغني فرحا بزوال الغمة وقمت علي الفور بتسجيل لقطات لهذه الفرحة وأرسلتها إلي الإذاعة في مبني الشريفين بالقاهرة عبر الدوائر التليفونية التي أعدها لنا العاملون في مصلحة التليفونات, وظللت حتي منتصف الليل والناس في حركة والشوارع غاصة بالآلاف وكأن أحدا لا يريد أن ينام رغم لفحات برد ديسمبر وتوالت أيام اقامتي في بورسعيد حيث أجريت لقاءات مع المسئولين عن مرافق المدينة فهذا لقاء مع المسئولين عن التعليم وزيارات للمدارس, وهذه صورة صوتية تبرز جهود القائمين علي أمور التموين وأخري مع المسئولين عن الكهرباء والمياه والمواصلات, وغير ذلك من ألوان النشاط والحياة في المدينة, كما سجلت أحاديث مطولة مع مجموعة الفدائيين الذين أشاعوا الذعر في قلوب المستعمر والذين قاموا باختطاف النقيب مورهاوس الذي يمن بصلة القرابة للعائلة المالكة الإنجليزية. وفي إحدي الليالي تناهي إلي سمعي أن شباب بورسعيد في صباح اليوم التالي سيقومون بإزالة تمثال ديليسبس المطل علي مدخل القناة باعتبار أن صاحب التمثال هو سبب المصائب التي جلبت الاستعمار الانجليزي إلي مصر. وفي الصباح الباكر توجهت إلي موقع التمثال, وكان هناك المئات من الشباب وفد أحضروا حبالا متينة وربطوا بها جسد التمثال في أعلي جزء منه وهم يهتفون بسقوط الاستعمار, وجذب الشباب أطراف الحبال وبعزيمة وقوة سقط التمثال علي الأرض وانهال الجميع عليه ضربا بالأحذية, أزعم أنني الإعلامي الوحيد الذي شهد هذا الحدث حيث قمت بتسجيله وبتسجيل مشاعر الشباب البورسعيدي, وهم يهوون بالأحذية علي وجه صاحب التمثال, إنها لحظات لا تنسي فهي محفورة في الوجدان ومازالت الذاكرة تحفظها رغم مرور عشرات السنين.