حين يكون استنهاض الإنسان المصرى هو السبيل لبلوغ حلم الوطن محطة الواقع، تتجاوز الذكرى حدود الشجن والحنين إلى تنقيب الحالمين عن مكامن الوعى الدفين تحت ركام السنين، هكذا يدعونا المِدادُ إلى التدبر ونحن على أعتاب ميلاد عامٍ جديدٍ من أعمارنا والوطن، تُحِيلُنا الأرقام فيه إلى تَوَحُدٍ حول رقم (19)، وهو الرقم الجامع بين عامٍ نستقبله، وسَمِيٍّ له قبل قرنٍ حمل رقمه عنوانًا للخلود فى الوعى المصري، إذ اقترن بواحدٍ من تجليات القدرة المصرية على تجاوز الأوجاع الفردية والجماعية، للتَوَحُّدِ حَول (مصر) الوطن الحلم الذى تتوارثه الأجيال منذ فجر الإنسانية. يؤرخ الفن المصرى لأصل القوة فى مصر وأهلها، و فى الوقت نفسه يضعنا جميعاً فى قفص الاتهام أمام ضمائرنا والأجيال المقبلة، ولهذا التأريخ أبطال صاغه كلماتٍ (بديع خيري) ولحنه وشدا به الشيخ (سيد درويش)، إذ جمعهما صناعة الوعى فناً وصياغة عريضة الاتهام إبداعًا (شُوف جُدودك فِى قُبورهم لِيلْ نِهارْ مِنْ جُمودَكْ كُل عَضْمَه بِتِسْتَجَارْ. صُونْ أَثَاركْ يَاللِّى دَنِسّتْ الاثَار، دُول فَاتُولَكْ مَجدْ وإنْتَ فُوتْ عَارْ)، كان على الثنائى (بديع ودرويش) أن يصدما وعى الأمة المصرية المثقلة بالأوجاع الحياتية حتى يمكنها أن تتجاوز الأوجاع الشخصية لتثور فى وجه وجع استهداف الوجود المصرى من قبل المحتل الجاثم على صدر الوطن. حين أَذَّن مؤذن الثورة فى وعى المصريين (قوم يا مصرى مصر دايماً بِتناديك، خد بنصرى نصرى دين واجب عليك)، لم يكن حال الوجع العام بعيدًا عن أحوال مواجعنا اليوم، حيث كان العالم يستهدف إعادة رسم خريطته بعد الحرب العالمية الأولي، تمامًا كما أعلنت إدارته أخيراً أننا على أعتاب ميلاد (عالم جديد)، وكان النظام العالمى يعتمد على الدولة العثمانية -تحت مسمى الخلافة- فى خططه لتشكيل خريطة العالم، تمامًا كما يلعب النظام التركى الحالى تحت وهم الخلافة- الدور نفسه مع النظام العالمي. وكانت خيرات مصر منهوبة من قبل غاصب محتل راح يستنزف مقدراتها لدعم أعباء مشاركته فى الحرب العالمية الأولى مع وعودٍ بأن يتم سداد هذه الديون وهو ما لم يحدث لليوم، ويكفى أن نشير إلى تقارير توثق الوجع حول استغلال المحاصيل المصريّة والحيوانات لسد احتياجات الجيش الإنجليزى الذى جثمت جحافل قواته على صدر مصر، وفى تداعى مواجع ما قبل ثورة 1919 يقودنا دليلها إلى أن أكثر من مليون ونصف مليون مصريّ تم تجنيدهم للعمل لصالح بريطانيا، وقد لقى الشعب المصرى الكثير من الظُّلم والاستبداد طوال الحرب العالمية الأولي، حيث تمّت مصادرة ممتلكات الفلاحين للمساهمة فى تكاليف الحرب، وإجبارهم على زراعة محاصيل تناسب ما تتطلّبه الحرب وبيعها بأسعار قليلة، أمّا المُجنَّدون المصريّون الذين أُجبِروا على العمل لصالح البريطانيّين، فقد عُرِفوا باسم فرقة العمل المصريّة، وكانت مهمّتهم المساعدة وراء خطوط القتال فى سيناء، وفلسطين، والعراق، وبلجيكا، وفرنسا، وغيرها من الدُّول المشاركة فى الحرب، كلّ ذلك الظلم والاستغلال أدّى إلى تدهور الوضع المعيشيّ فى مصر؛ سواءً فى الريف أو المُدن، إن هذا الوجع القديم بفعل الاستهداف المباشر احتلالاً وبعد مرور قرن من عمر الاستهداف وبتحول الاحتلال إلى فِعلٍ غير مباشر أدواته الفساد والإفساد والإرهاب والإرعاب، عاد وجعًا أكثر قسوة وأشمل استهدافاً وأَوْجَب تنبهًا وأدعى للثورة تقوية للقواعد ودعمًا لأعمدة البناء الإنساني. قبل قرنٍ من الزمان أدرك الضمير المصرى المتجسد فنًا سؤال المصير فراح يشدو (ليه يا مصرى كل أحوالك عجب، تِشكى فَقْرَك وأِنْتَ ماشى فُوقْ دَهب؟)، ولأن الضمير الفنى حاسمًا فى مرحلة ثورة الوعى فإنه يُجِبُنَا سريعًا، إنه وعى المرحلة الفرض الذى يجب أن يتترس به صاحب السيادة قبل المُفَوَض بالإدارة، وعى ثرى بمقدرات وطن قديم (شوفت أى بلاد يا مصرى فى الجمال، تيجى زى بلادك اللى ترابها مال، نيلها جى السعد منه حلال زلال، كل حى يفوز برزقه عيشته عال). بدخولنا عام 2019 يمر قرن بتمامه وكماله على حُلمنا القديم المتجدد بنهضة مصر الأبية القادرة فيما نتذكر أسلافنا حين أدركوا بميراث وعيهم القديم أن وطنهم أقدم من كل تبعية، فكان مطلبهم الأول الاستقلال الوطنى عن المحتل. وحين تَنَبهوا لأن وطنهم أثرى من أن يحتكر مستبدٌ إدارته، فكان مطلبهم الآخر هو الدستور كَوُّنُهُ ميثاق إدارة الشعب لوطنه، وحين تحركوا رافعين رايات التوحد حول الوطن يُنشد فيهم شيخهم الفنان (قوم يا مصرى .. حب جارك قبل ما تحب الوجود، إيه نصارى ومسلمين قال إيه ويهود، دى العبارة نسل واحد من الجدود)، رحم الله أسلافًا مضى على حلمهم قرنٌ وأورثوه لنا دَيّنًا وطنيًا ما انقضي!. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى