يشكل العدوان الاسرائيلي الاخير على قطاع غزة والممتد على مدى ما يقرب من شهر كامل صفحة جديدة في ذاكرة الوجع الفلسطيني- العربي، ومجددا تنبعث المعاني لما قاله الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات غداة مذبحة صبرا وشاتيلا: "ان مشكلة الفلسطيني لم تعد أين يعيش وانما أصبحت أين يدفن"! ومع ان بعض المفكرين يذهبون الى اننا "نعيش في عالم اعتاد على الجريمة وازدواجية المعايير"، فيما بات "الغرب الرسمي ينكر حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال"، فسيذكر التاريخ بالتقدير مواقف فنانين ومثقفين واعلاميين اجانب استنكروا المذابح الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة الذي سقط منه مئات الشهداء وآلاف الجرحى، ومن بينهم سيلينا جوميز وجون ستيوارت وخافيير بارديم وزوجته بينولبي كروز. وغزة التي باتت تجسد معنى "المنطقة المنكوبة" ليست الا جزءا من ذاكرة الوجع الفلسطيني- العربي وعمليات القتل والاعدام الجماعي التي ارتكبتها اسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فيما تبدو الآن "فكرة الدولتين" كحل للنزاع المزمن محض سراب مقابل حقيقة الدم والألم و"أكفان بلا حدود". ولم يعد كتاب "وجع الذاكرة" الذي صدر في مطلع عام 2010 وجمعت فيه الشاعرة والكاتبة الكويتية سعدية مفرح مختارات لخمسة عشر شاعرا فلسطينيا يكفي لتوثيق ابداعات الوجع لفلسطيني لأن المزيد من الدماء سالت تحت جسور الزمان والمكان والمزيد من المذابح ارتكبت وتجاوزت مذابح غزة ما حدث من مذابح ضد الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين بصبرا وشاتيلا. فمشهد الوجع الفلسطيني الآن يتجاوز الشعراء من حراس وجع الذاكرة القديمة مثل محمود درويش وسميح القاسم وكمال ناصر وتوفيق زياد ومعين بسيسو ومريد البرغوثي ومحمد القيسي واحمد وابراهيم نصر الله، وقبل ذلك ابراهيم طوقان وابو سلمى وعبد الرحيم محمود وفدوى طوقان وهارون هاشم رشيد. وعلى اي حال، فالأدب الفلسطيني رغم سعيه الدؤوب للتجديد ومواكبة الحركة الابداعية العربية المعاصرة، كان ولايزال يمنح اولوية لفكرة الوطن والتعبير عن مشاعر وأوجاع الشخصية الفلسطينية التي عانت على مدى اكثر من 60 عاما من اقسى الوان الاحتلال وكارثة فقدان الوطن التي تشكل جوهر ذاكرة الوجع للفلسطينيين. وللأدباء الفلسطينيين وخاصة الشعراء منهم استثنائيتهم كحراس لوجع الذاكرة، فيما تبدو اللحظة الفلسطينية الراهنة في غزة مصداقا لقول الشاعر الفلسطيني الراحل ابراهيم طوقان: "أنا ساعة الرجل العتيد.. أنا ساعة البأس الشديد.. أنا ساعة الموت المشرف كل ذي فعل مجيد". وذاكرة الوجع ليست فلسطينية فحسب، فها هو كتاب جديد يصدر بعنوان :"ثورة أمة" لأنور مالك المراقب الجزائري في اول بعثة للجامعة العربية لاستقصاء الحقائق في سوريا عام 2011، فيما وصف هذا الكتاب الذي يقع في 523 صفحة بأنه "مؤلم لحد الوجع على اكثر من مستوى". ولأنه "صاحب ضمير"، فقد سجل انور مالك شهادته التي تحولت بامتياز لصفحة جديدة في ذاكرة الوجع العربي وادانة لكل الأطراف التي حولت حياة سكان مدينة حمص لقطعة عذاب من النار والدمار و"الجثث المنزوعة الجلود" ودموع الأمهات والوحشة المؤلمة لرحيل الأحباب. وكما قيل بحق فان بعض القضايا تبدو على السطح وكأنها قضايا سياسية فقط، ولكن التعمق فيها يكشف عن انها فى الحقيقة قضايا ثقافية ترتبط بجوهر النظرة للعالم والوجود.. فثقافة الاستعلاء الدموي والابادة والاقتلاع حاضرة بقوة ودموية فى مذابح غزة وصبرا وشاتيلا، كما هى حاضرة فى الغضب المقاوم والثقافة المناوئة للمظلومية التاريخية. ومن حين لحين تستقبل الثقافة الغربية كتبا بأقلام فلسطينية وعربية تنبض بجماليات الغضب المقاوم وتثير الاهتمام والنقاش فى الصحافة الثقافية الغربية، كما حدث مع كتاب جديد صدر بالانجليزية بعنوان :"يوميات الاحتلال". وفي هذا الكتاب يطرح المؤلف الفلسطينى رجاء شحادة رؤيته الغاضبة والآسيانة لحال وطنه فى ظل الاحتلال الاسرائيلى حيث المستعمرات اليهودية تتخلل ثنايا المشهد فى الضفة الغربية والطرق الالتفافية تفصل الفلسطينيين عن اراضيهم. انها رؤية تجمع ما بين الغضب والجمال "لرجل غاضب ومع ذلك فهو تأملى النزعة يكتب ببساطة وجمال رائعين".. انه كائن معذب وغاضب ومقاوم على طريقته تماما مثل "حنظلة" الغاضب-المقاوم الفلسطينى العربى الأشهر فى تاريخ الكاريكاتير كما ابتدعه الفنان الراحل ناجى العلى. ويوم التاسع والعشرين من شهر اغسطس الحالي تحل الذكرى ال27 لاغتيال فنان الكاريكاتير الفلسطينى ناجى العلى فى لندن والذى أبكى عشاق فنه بشخصيته الطفولية الخالدة "حنظلة" بيديه المعقودتين خلف ظهره فى تناوله للمذابح الاسرائيلية ضد الفلسطينيين مثل مذبحة صبرا وشاتيلا ليدين مع شخصيته الكاريكاتورية الأخرى "فاطمة" وبلسان الشارع العربى المرحلة بأكملها. وإذا كان المحامى والناشط الحقوقى الفلسطينى رجاء شحادة غاضبا فى كتابه الصادر فى لندن حيال احجام حلفاء اسرائيل ومانحيها عن التحرك لمنع التمييز ضد الفلسطينيين، فقد تناول فى كتاب سابق صدر بالانجليزية ايضا بعنوان: "مشاوير فلسطينية" وحصل به على جائزة "اورويل" البريطانية لأفضل كتاب سياسى فى عام 2008 دور الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة فى مساعدة اسرائيل على تحدى قرارات الأممالمتحدة. ومن الملاحظات الدالة ان المجتمع الدولى كما تمثله الأممالمتحدة لم يشكل أي لجنة دولية للتحقيق في مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982 واحجمت القوى الغربية المهيمنة على المنظمة الدولية عن أي دعوة لتشكيل مثل هذه اللجنة، وهي حالة تجيب عن اي تساؤلات بشأن امكانية تشكيل لجنة دولية للتحقيق في مذابح غزة الأخيرة. ولعل تقييم ردود المجتمعات الغربية ومواقفها حيال مذابح غزة وصبرا وشاتيلا يكشف عن مواقف لا تختلف كثيرا حيال مذابح اخرى عناوينها عربية مثل :"دير ياسين وكفر قاسم" في فلسطين، و"بحر البقر" فى مصر و"قانا" فى لبنان والفلوجة العراقية. فثقافة الاستعلاء الدموى التى ابادت الهنود الحمر واسقطت ملايين الضحايا للحروب الاستعمارية في آسيا وافريقيا واشعلت حربين عالميتين فى القرن المنصرم، وهي ذاتها الثقافة التي تؤازر من منطلقات ايديولوجية ونفسية وعوامل مصلحية الاحتلال الاسرائيلى للأرض العربية الفلسطينية وتهويدها. وكان الأكاديمى السورى الأصل والأستاذ الجامعى فى الولاياتالمتحدة الدكتور منير العكش قد تحدث فى كتاب صدر بعنوان:"امريكا والابادات العرقية: 400 عام من الحروب على الفقراء والمستضعفين فى الأرض" عن وجود خطط امريكية لتعقيم ملايين البشر. وقال هذا الأستاذ الجامعى المتخصص فى الانسانيات واللغات الحديثة فى كتابه الصادر عن "دار رياض الريس للكتب والنشر فى بيروت"، ان الدافع لهذه الخطط التى يمكن ان تطول امريكيين الى جانب سكان العالم الثالث هو "الحفاظ على النقاء العرقى فى الولاياتالمتحدة ومحاربة الفقر والنمو السكانى". وهذا الكتاب يذهب الى ان هذه الخطط هى وجه آخر لثقافة الابادة المستمدة من "فكرة اسرائيل التاريخية" التى قامت عليها امريكا ذاتها وهى فكرة "احتلال ارض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ" ليصبح صاحب الأرض غريبا فى ارضه بملامح نفسية شرحها رجاء شحادة فى كتاب بالانجليزية منذ نحو 12 عاما عنوانه: "غرباء فى البيت". وفى ظل افكار كهذه قد يكون من قبيل التفاؤل المفرط الحديث عن احترام التعددية الثقافية والجوهر الانسانى للانسان اينما كان، بقدر ما تثير تساؤلات مريرة حول تجاهل النموذج الثقافى الأحادى المهيمن على توجهات وسائل اعلام وصحف غربية تتشدق بالتعددية لحقائق وتفاصيل مذابح غزة او عدم نشرها بالصورة التى تعادل جسامة الحدث وفداحة الألم. وفى كتابه الغاضب بنبضات جمال- يتحدث رجاء شحادةعن والدته التى حكت له عن مدينتها يافا قبل ان تضطر للنزوح لرام الله فى الضفة الغربية.. أمه التى قضت قبيل كتابة يومياته التى شكلت هذا الكتاب وقبل ان تعود ليافا او فردوسها المفقود، وها هي غزة تتحول مجددا لقطعة من الجحيم. وكما لاحظ الكاتب اللبناني سمير عطا الله في جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية، "فكل حرب اسرائيلية كبرى على الفلسطينيين ترافقها صراعات سياسية لاعلاقة لها بما يحدث للضحية ونتنياهو يحاول ان يصنع سياساته فوق جثث الغزاويين وركام غزة". ويضيف سمير عطا الله :"كلما وقعت جريمة في هذا الحجم بحث كل فريق عن فوائده فيها بمهرجان سياسي خطابي متنوع مقابل جنازات بلا حدود"، موضحا ان البعض يهمه احراج مصر اكثر من مساعدة حماس"، ولكن الجرح الحقيقي لا يوجع إلا في مكانه وغزة وجع عميق". وقالت الكاتبة والأديبة المصرية سكينة فؤاد في جريدة "الأهرام": "يعرف الكيان الارهابي الصهيوني انه مهما ارتكب من جرائم حرب وابادة"، فانه في عدوانه الجديد على غزة قد تقدم الى موقع افضل "يوفره له الانقسام الفلسطيني وسريان مخططات تدمير الأمة كالنار في الحطب". وتساءلت سكينة فؤاد: "ما الذي يمنع او يخيف او يوقف تمادي جرائم الكيان الارهابي الصهيوني"، معتبرة انه "لابد من مواجهات مختلفة لوجود هذا الاحتلال.. مواجهات تتوحد فيها ارادة وقرارات ومواقف ما تبقى من كيانات شعبية ورسمية متماسكة رغم الزلازل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومخططات نشر الفوضى الخلاقة". ويبدو ان هناك حاجة لقيادات فلسطينية- عربية تستوعب ثقافة الأبعاد غير التقليدية والحس غير النمطي واهمية الهوية والاصطفاف الخلاق في مواجهة الفوضى الخلاقة وصولا لاقامة الدولة الفلسطينية في مواجهة "العلة الصهيونية التي عبرت عن وجودها من خلال اقامة الدولة العبرية"، اذا كانت النوايا جادة لعدم اضافة صفحات جديدة لذاكرة الوجع الفلسطيني-العربي وحتى "يتغلب الانسان على الوحش وينتصر العقل على الخلل وتتبدد اعمدة الدخان الأسود". وحتى تتحقق رؤية مثقف فلسطينى مثل رجاء شحادة فى ان كل ما يقيمه الاحتلال الى زوال يوما ما، كما زال كل احتلال من قبل فى التاريخ سيبقى الغضب وجرح الكبرياء وجمرات القضية ووجع المظلومية التاريخية وذاكرة غزة وصبرا وشاتيلا. مازال "حنظلة" يقاوم ومازالت الأمهات الذبيحات يحتضن اطفالهن الغارقين فى الدم ومازالت المشاهد تتوالى لتغذي ذاكرة الوجع.. لن نغفر ولن نصفح حتى تعود الحقوق السليبة لأصحابها فى فلسطين.. حتى يعود الفلسطينى المعذب والمقاوم "حنظلة" لفلسطين. ورغم الوجع سيبقى الأمل أيضا الذي يتوهج في كلمات لشاعرة الأسئلة والرحلة الفلسطينية الصعبة فدوى طوقان: "المجد للنور فلا تبتئس والنصر للحرية الرائعة.. وغدا موطن احلامنا فلا تقل احلامنا ضائعة.. يا طائري هناك درب الرجاء.. هنالك يمتد مشع الضياء رغم انطباق الليل من حولنا".