يستدعى واقعنا من موروث الحكى قصة الرجل، الحكيم فى أصول البقاء، والعليم بأسباب مقاومة كل علة وداء، وحين حضرته قبل الموت سكراته، جمع على فراش مرضه بَنِيهْ ليهديهم خلاصة خبراته، فوزع على كل واحد منهم عوداً وطالبهم بأن يكسروه، فانصاع الأبناء لأمر الأب الموشك على الرحيل ونفذوه، فقام الأب بجمع مثل عدد الأعواد التى وزعها لتجتمع متحدة الشمل، ثم كلف كلا منهم أن يكرر الأمر، فما استطاعوا التنفيذ رغم قوتهم، واستعصى جمع العيدان انكساراً رغم إرادتهم، فقال لهم الأب قبل أن تصرعه السكرات، (يا أبناء العمر الذى انقضى وفات، احذروا أن تفرق قواكم التداعيات، فتواجهونها بفعل الفرد الضعيف مهما امتلك الخبرات، واحرصوا على أن تتوحد قواكم تكاملاً كلما تتابعت التحديات، فإن قويكم أهون إذا انفرد، وضعيفكم أقوى إن هو على الجمع ورَدْ). هكذا يفرض واقعنا إعادة إنتاج موروث الإنسانية نماذج قادرة على أن تدغدغ وعى الواقع أملاً فى تجاوز كل مهددات البقاء فيه، وحتى نمتلك من أسباب المكاشفة مع ضمائرنا، ما يؤهل لمعاينة مهدِدات مصائرنا، فإن استراتيجية بناء (العالم الجديد) أمريكى الصناعة، قائمة على فلسفة أصيلة عنوانها (الفوضى) وسمها ما شئت (خلاقة أو مبدعة) المهم أن تكون الفوضوية هى مداد رسم لوحة هذا العالم الجديد، وبالتالى يستوعب صناع (العالم الجديد) البديهية التى تنبه لها الحكيم القديم حين أوصى أبناءه، ويترجمونها فى أعمال متطور لسياسة (فَرِّقْ تَسُدْ). وتعتمد سياسة الفُرْقَة على الانطلاق من بث ثقافة (التعصب) جرثومة تنتشر، ومن ثم فرضها حاكماً لأداءات كل مكونات مشهدنا، (أنظمة – نخب – عموم الشعب)، ويمثل الإعلام بكل صنوفه خاصة الإعلام المجتمعى الحاضنة الراعية والناشرة لهذه الجرثومة، بحيث تغرى المعنيين بالإدارة من كل المستويات ليحملوها انفراداً بالمصلحة العامة بحكم مواقعهم الرسمية، وتغوى الجرثومة النخب المعارضة لتصيبهم انفراداً بالضمير الوطنى بحكم معتقداتهم الأيدلوجية، وتُعيى الجرثومة عموم الناس لترفع درجات حرارتهم انحيازاً للرسمى أو المعارض بحكم طول البحث عن يقين فى وطن. هكذا تدريجيا تعرض الوعى الجمعى المصرى منذ جولة ثورة الوطن الأولى فى 25 يناير 2011م، إلى حالة نشاط جرثومى للفتنة استهدفها كل من عمل لمصلحته لا لمصلحته مصر الوطن وشعبها صاحب السيادة عليه، وكان للتنظيم الإخوانى أدواته فى نشر هذه الجرثومة تفريقاً وتشتيتاً لكل مكونات الوطن ليضمن بقاء كتلته التنظيمية ودوائرها متوحدة فى مواجهة نخب متشظية، و أمانٍ شبابية غضة الأعواد متشتته، وفُرْقَةٍ شعبية بفعل عقود الفساد والإفساد متفشية، حتى توهم صناع (العالم الجديد) خارجياً أن مصر على أعتاب دخول خريطتهم عبر قاطرة التنظيم الإخوانى الذى توهم داخلياً أنه قد استدمج مصر ضمن مشروع التمكين، فكانت جولة الثورة الثانية فى 30 يونيه 2013م، ليستيقظ الصُنَّاع وأدواتهم التنظيمة على شعب يتوحد متدثراً بعلم الوطن هاتفاً بيقين كامل فى الوطن القديم (تحيا مصر). هذا التحدى الذى فرضه ملح هذا الوطن (عموم الناس)، دعى الجرثومة إلى أن تتطور أشكالاً وأدواتاً ودوائر، ليتعدى المستهدف حالة فوضى التفتيت والتشتيت، إلى فوضى التشكيك والتخوين، إن الأوطان فى أزمنة الاستهداف تغدو لقمة سائغة كلما تشتت جموعها، وكلما سرت فى أوصالها جراثيم التفتيت، وكلما سادت فى لغتها مصطلحات التخوين، ولذا تبرز فى هكذا لحظات جدارة التنبه لدى كل معنى بالإدارة، ليحصن نفسه من الاستئثار بالمصلحة الوطنية استناداً على شرعية الموقع، وليحصن وعى إدارته بدعم دوائر المشورة بخبرات تفكر خارج الصندوق، وليحصن قوائم الرأى الآخر بوضوح الرؤية الوطنية العاصم من علل التربص، وليحصن قواعد المجتمع بانتماء للوطن الذى لا يمكن اختصاره أو شخصنته. إن أعواد الوطن الرئيسية يتم استهداف تفريقها فى مواجهة معاول الكسر والهدم، لتغدو الصور المصدرة للوطن مفتتة فى مجهر كل المتربصين، وفى وعى المواطنين فيستيقظون كل صباح على جراثيم تخوين تحيلهم تارة إلى (خطة للتنازل عن سيناء) أو (خناقة بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية) أو (خيانة نقابة الصيادلة للوطن) أو (معركة بين الأزهر والرئاسة)، ومروراً بعرض تسريبات لمكالمات أو صور شخصية أو حتى مفبركة، ووصولاً إلى (بلاغات مرسلة بالخيانة أو العمالة أو تكدير السلم العام). ومن الثابت أن صيانة الأوطان تبدأ باستنهاض همم الإنسان، وإذا كان هذا المواطن، فى أتون معارك طاحنة يصارع فيها الغلاء تارة وأسباب الرزق تارة، وأوجاع سنين خلت تارة أخري، فكيف يمكن أن نطالبه بالنهوض وهو غائم الرؤية، مشتت الانتماء، واقع بين سندان تخوين يحتكر الوطنية ومطرقة تخوين تؤمم الدين، وبالعودة إلى خريطة الطريق الوطنية 3يوليو 2013م، نكتشف أن العلاج قد تم تدوينه (ميثاق شرف إعلامى وطنى ومصالحة وطنية جامعة) فمتى يُؤذن بتعميمه؟. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;