ذات ليلة صيفية, بدا فيها القمر شاحبا وعليلا, عربد الموت اغتيالا في طرقات القرية, وقتلوا بدم بارد اروع شاعر شاب وكانت جريمته أنه يناضل في صفوف الثوار ضد الديكتاتور الآتي, ويحلم بوطن تغرد العصافير في حدائقه اليانعة بزهور الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وعندما اطلقوا الرصاص علي فيديريكو جارسيا لوركا أشهر شعراء إسبانيا ليلة18 أغسطس1936, اضطربت العصافير وحلقت بعيدا, فلم تعد البلاد ساحة للحرية, فقد اشتعلت في ربوعها حرب اهلية بين انصار الديمقراطية والجمهورية وقوات الديكتاتورية الجنرال فرانكو. وانضمت إلي الجنرال القوي الأوروبية المناهضة للديمقراطية وسانده الزعيم النازي الألماني هتلر, والزعيم الفاشي الإيطالي موسوليني, وامداه بالأسلحة والمقاتلين, وحسموا المعركة عام1939, ووقف الجنرال مزهوا فوق أشلاء ضحايا الحرب الأهلية. واسدل الديكتاتور ستارا كثيفا من الصمت علي الضحايا, فقد كان محظورا ان يذرف ذووهم الدموع عليهم, أو أن يحتلفوا بذكراهم. كان الشاعر لوركا ابرز من تعسف الجنرال في محاولة طمس ذكراه, وفرض طوقا حول ملابسات اغتياله, وعندما تصاعدت الإدانة العالمية ضد الجنرال لتورطه في قتل الشاعر, اكتف بالقول إنه لقي مصرعه في حرب الشوارع. وظل الأمر كذلك طوال فترة حكم الجنرال التي استمرت حتي عام1975, ففي ذاك العام نصب فرانكو, قبل موته بثلاثة أسابيع, الأمير خوان كارلوس ملكا علي عرش إسبانيا, لكن الملك كان ديمقراطيا, واطلق الأحزاب والحياة السياسية من عقالها. عظيم.. لكن الجنرال قبل موته كان قد أسس مايمكن ان يطلق عليه حلف الصمت, وكانت مهمته ولاتزال حجب حقيقة ضحايا الحرب الأهلية, ومن بينهم الشاعر لوركا, وبقي الحلف قائما حتي في زمن الديمقراطية, فليس مسموحا إلا فيما ندر ان يتحدث احد عن تفاصيل ليلة اغتيال لوركا. وبدا ان حلف الصمت والمصالحة الوطنية المزعومة يحقق نجاحا في التعتيم علي وقائع تاريخية كبري ومآسي إنسانية مروعة, والادهي والأمر انه يرسخ الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الجائرة التي فجرت الحرب الأهلية. قد يبدو هذا الكلام غريبا ومثيرا للجدل.. لكن هذا مايعبر عنه الإسبان الغاضبون في إقليم الأندلس, أكبر الإقاليم الزراعية في البلاد, ذلك أن الأندلس تشهد في الوقت الحاضر, حركة احتجاج يقودها زعماء العمال الزراعيين ضد الاقطاعيين في الريف, وكان الصراع الحضاري بين الفلاحين والاقطاعيين احد أسباب اشتعال الحرب الأهلية, فقد كان الاقطاعيون يعارضون إجراءات الإصلاح الزراعي, ويرفضون حيازة الفلاحين للأراضي. وفي غمار الأوضاع المضطربة في الأندلس, يقول احد زعماء العمال الزراعيين. لسنا فوضويين, ولا نسعي لأي صراع, وليكن معلوما أن مطالبنا الحالية تماثل مطالب الجماهير ابان عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. ويوضح المعضلة الشائكة البروفيسور خوسيه لويز أستاذ علم الاجتماع في جامعة إسبانية بقوله: إن الإصلاح الزراعي والتوزيع العادل للأراضي يعد العامل الغائب في عملية التحول الديمقراطي, التي بدأت عام.1975 يحدث هذا في الأندلس, في الوقت الذي تضرب فيه الأزمة الاقتصادية البلاد منذ نحو ثلاث سنوات, ويتزايد سخط الجماهير علي إجراءات التقشف الاقتصادي. ومايزال حلف الصمت لا يهتم بالفلاحين العاطلين في الأندلس. حيث ولد وعاش الشاعر لوركا. ولاتزال أسرار ليلة قتل الشاعر محظورة, برغم مرور الذكري السادسة والسبعين في أغسطس2012, علي اغتياله. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي