البابا تواضروس مهنأ بذكرى دخول المسيح مصر: تنفرد به الكنيسة الأرثوذكسية    منظمة الصحة العالمية ل«الوطن»: الأطقم الطبية في غزة تستحق التكريم كل يوم    «عالماشي» يتذيل قائمة إيرادات شباك التذاكر ب12 ألف جنيه في 24 ساعة    وزير الكهرباء ينيب رئيس هيئة الطاقة الذرية لحضور المؤتمر العام للهيئة العربية بتونس    «التموين» تصرف الخبز المدعم بالسعر الجديد.. 20 قرشا للرغيف    بدء تلقي طلبات المشاركة بمشروعات إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة    أسعار الذهب في مصر اليوم السبت 1 يونيه 2024    «الإسكان»: تنفيذ 40 ألف وحدة سكنية ب«المنيا الجديدة» خلال 10 سنوات    نائب: الحوار الوطني يجتمع لتقديم مقترحات تدعم موقف الدولة في مواجهة التحديات    هل توافق حماس على خطة بايدن لوقف إطلاق النار في غزة؟    الأردن يؤكد دعمه جهود مصر وقطر للتوصل إلى صفقة تبادل في أقرب وقت ممكن    استشهاد طفل فلسطيني بدير البلح بسبب التجويع والحصار الإسرائيلي على غزة    الجيش الإسرائيلي: مقتل 3 عناصر بارزة في حماس خلال عمليات الأسبوع الماضي    بث مباشر مباراة ريال مدريد وبوروسيا دورتموند بنهائي دوري أبطال أوروبا    «استمتعتوا».. تصريح مثير من ميدو بشأن بكاء رونالدو بعد خسارة نهائي كأس الملك    ميدو: استمتعوا بمشهد بكاء رونالدو    محافظ القليوبية يتفقد أولى أيام امتحانات الشهادة الثانوية الازهرية بمدينه بنها    ابتعدوا عن أشعة الشمس.. «الأرصاد» تحذر من موجة حارة تضرب البلاد    «التعليم» تحدد سن المتقدم للصف الأول الابتدائي    تعذر حضور المتهم بقتل «جانيت» طفلة مدينة نصر من مستشفى العباسية لمحاكمته    خبير: شات "جي بي تي" أصبح المساعد الذكي أكثر من أي تطبيق آخر    الزناتي: احتفالية لشرح مناسك الحج وتسليم التأشيرات لبعثة الصحفيين اليوم    توقعات تنسيق الثانوية العامة 2024 بعد الإعدادية بجميع المحافظات    «الآثار وآفاق التعاون الدولي» ضمن فعاليات المؤتمر العلمي ال12 لجامعة عين شمس    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 1-6-2024    طب القاهرة تستضيف 800 طبيب في مؤتمر أساسيات جراحات الأنف والأذن    مشروبات تساعد على علاج ضربات الشمس    إنبي يخشى مفاجآت كأس مصر أمام النجوم    متحدث "الأونروا": إسرائيل تسعى للقضاء علينا وتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين    اليوم| «التموين» تبدأ صرف مقررات يونيو.. تعرف على الأسعار    اليوم.. بدء التسجيل في رياض الأطفال بالمدارس الرسمية لغات والمتميزة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم السبت 1 يونيو 2024    فتوح يكشف حقيقة دور إمام عاشور وكهربا للانتقال إلى الأهلي    مسيرة إسرائيلية تستهدف دراجة نارية في بلدة مجدل سلم جنوب لبنان    رئيسا هيئة الرعاية الصحية وبعثة المنظمة الدولية للهجرة يبحثان سبل التعاون    هل لمس الكعبة يمحي الذنوب وما حكم الالتصاق بها.. الإفتاء تجيب    بث مباشر من قداس عيد دخول العائلة المقدسة مصر بكنيسة العذراء بالمعادى    بكام الفراخ البيضاء؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية اليوم السبت 1 يونيو 2024    مفاجأة بشأن عيد الأضحى.. مركز الفلك الدولي يعلن صعوبة رؤية الهلال    شهر بأجر كامل.. تعرف على شروط حصول موظف القطاع الخاص على إجازة لأداء الحج    «إنت وزنك 9 كيلو».. حسام عبد المجيد يكشف سر لقطته الشهيرة مع رونالدو    سيول: كوريا الشمالية تشن هجوم تشويش على نظام تحديد المواقع    تقديم إسعاد يونس للجوائز ورومانسية محمد سامي ومي عمر.. أبرز لقطات حفل إنرجي للدراما    لسنا دعاة حرب ولكن    تطورات الحالة الصحية ل تيام مصطفى قمر بعد إصابته بنزلة شعبية حادة    دعاء التوتر قبل الامتحان.. عالم أزهري ينصح الطلاب بترديد قول النبي يونس    «دبحتلها دبيحة».. عبدالله بالخير يكشف حقيقة زواجه من هيفاء وهبي (فيديو)    لمواليد برج الجوزاء والميزان والدلو.. 5 حقائق عن أصحاب الأبراج الهوائية (التفاصيل)    ماهي ما سنن الطواف وآدابه؟.. الإفتاء تُجيب    «القضية» زاد الرواية الفلسطينية ومدادها| فوز خندقجي ب«البوكر العربية» صفعة على وجه السجان الإسرائيلي    مدرس بمدرسة دولية ويحمل جنسيتين.. تفاصيل مرعبة في قضية «سفاح التجمع» (فيديو)    عاجل.. طبيب الزمالك يكشف موعد سفر أحمد حمدي لألمانيا لإجراء جراحة الرباط الصليبي    "أزهر دمياط" يعلن مشاركة 23 طالبا بمسابقة "الأزهرى الصغير"    طبيب الزمالك: اقتربنا من إنهاء تأشيرة أحمد حمدي للسفر إلى ألمانيا    وزارة المالية: إنتاج 96 مليار رغيف خبز مدعم في 2025/2024    أ مين صندوق «الأطباء»: فائض تاريخي في ميزانية النقابة 2023 (تفاصيل)    أعراض ومضاعفات إصابة الرباط الصليبي الأمامي    "صحة الإسماعيلية" تختتم دورة تدريبية للتعريف بعلم اقتصاديات الدواء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. محمد المهدي يكتب: إسبانيا تنتصر في السياسة قبل الكرة
نشر في الدستور الأصلي يوم 16 - 07 - 2010

استمتع الملايين في أنحاء العالم بانتصار إسبانيا في كأس العالم بجنوب أفريقيا 2010، وأجمع الجمهور العالمي والنقاد علي استحقاق هذا الفريق الطيب الخلوق المثابر والمنظم البطولة، وكانت الإحصاءات الرقمية دائما في صالح هذا الفريق من حيث نقلات الكرة والبطاقات الصفراء والتسديدات وغيرها، لذلك كان الفوز منطقياً غير مفاجئ. والأمر في إسبانيا في هذه المرة ليس صعوداً كروياً فحسب، بل هو حلقة في سلسلة صعود بدأتها إسبانيا منذ عام 1982 م حين أنهت الحكم العسكري الديكتاتوري الاستبدادي العضود وبدأت رحلتها السعيدة مع الديمقراطية والحرية والعدل والمساواة، وحققت أحلام شعبها في سنوات قليلة غاصت فيها شعوب عربية «في نفس السنوات» في وحل الاستبداد والقهر والفقر والتخلف والتلفيق والتزوير. فإلي كل المعجبين بأداء الفريق الإسباني في الكرة أسوق أداء الشعب الإسباني في مونديال الديمقراطية والتنمية الحقيقية.
فقد تحمست منذ عدة شهور لزيارة إسبانيا بعد أن قرأت تقريراً صحفياً «وهو منشور أيضًا علي كثير من المواقع الإلكترونية» يفيد بأن إجمالي الناتج القومي الإسباني يفوق إجمالي الناتج القومي للدول العربية مجتمعة بما فيها الدول البترولية، وأن هذا النمو الاقتصادي المذهل قد حدث في فترة لا تزيد علي 27 سنة منذ بدأ التحول الديمقراطي بها عام 1982م «بعد سنوات قليلة من موت الديكتاتور العسكري فرانكو». ولم تكن إسبانيا قبل هذا تمثل لي غير بؤرة مؤلمة في الوعي تحوي ذكريات دولة الأندلس الرائعة التي كانت بمثابة قنطرة عبرت عليها عصارة الحضارات الشرقية والعربية والإسلامية إلي أوروبا، ثم اقتلاع هذه الدولة «بكل ثقافتها وعلومها وآثارها» بشكل عنصري بغيض تحت إدارة محاكم التفتيش التي مارست أبشع أنواع التعذيب في التاريخ البشري وساهمت في واحدة من كبري حملات التطهير العرقي، حيث لم يتفوق عليها إلا التطهير العرقي الذي مارسه المهاجرون الأوروبيون في أمريكا ضد الهنود الحمر «أصحاب الأرض الأصليين».
كانت السيارة تشق الطريق وسط مدن وقري محافظتي الدقهلية والشرقية في الوقت بين العصر والمغرب وبالكاد نري الطريق نظراً للسحابة السوداء التي تغطي أجواء مصر في هذا الوقت من السنة علي وجه الخصوص، بينما نشاهد علي الجانبين حرائق قش الأرز في الحقول المترامية، فقد اعتاد الفلاحون أن يقوموا بعملية الحرق عند آخر ضوء في النهار حتي يتفادوا عمليات التفتيش وتحرير المحاضر «هذا إن وجدت أصلاً»، وكنا نشعر باختناق شديد كلما تكاثفت سحب الدخان، ثم نفزع من وقت لآخر علي ارتطام السيارة بمطبات صناعية متتابعة أنشأها الأهالي أمام قراهم ومدنهم دون أي مواصفات لسلامة الطريق والمركبات بحيث أصبحت تشكل خطراً علي الطرق السريعة، وهذه المطبات هي نتاج خطأ منتشر في ربوع مصر ألا وهو بناء القري والمدن علي حافة الطرق السريعة والبطيئة وبالتالي يتعرض كثير من الناس لحوادث، يقوم الأهالي عندها بتحطيم السيارة علي رأس من فيها ثم يقطعون الطريق لعدة ساعات ويتبع ذلك عمل أكثر من مطب مرتفع يقطع الطريق ولا توجد أي علامات تنبه السائق خاصة في الليل. وبالتوازي مع حرائق قش الأرز المشتعلة في كل مكان «والتي عجزت كل المحاولات في وقفها» كانت معركة النقاب تنذر بالاشتعال، وإجراءات إنفلونزا الخنازير المبالغ فيها تشغل الناس عن كل قضاياهم ومشاكلهم.
وصلنا مطار القاهرة وأنهينا إجراءات السفر، وبعد خمس ساعات كنا في مطار مدريد ثم بعد ساعة أخري من الطيران الداخلي كنا في أشبيلية «civilla»علي أرض الأندلس، وكان الجو غاية في الصفاء والنقاء، فالسماء صافية لا تشوبها شائبة، والجو في هذا الوقت «النصف الثاني من شهر أكتوبر 2009» أشبه بجو الإسكندرية في الخريف. لم نشعر بأي إجراءات تخص إنفلونزا الخنازير، وهو نفس الوضع في فرنسا وسويسرا «حين زرتهما في الشهور الأخيرة» فهم جميعا يعيشون حياتهم بشكل طبيعي، وهذا يكشف مبالغاتنا في الاهتمام الشكلي بهذا الموضوع ويضع علامات استفهام حول دوافع هذا الاهتمام، في حين توجد قضايا ومشكلات أخري أكثر خطورة وإلحاحا ومع ذلك لا تحظي بأي اهتمام. عدة ساعات انتقلنا فيها من السحابة السوداء إلي السماء الصافية، ومن المطبات العشوائية شديدة الخطورة في مصر إلي الطرق السلسة الممهدة بعناية في إسبانيا، ومن الصراع حول النقاب إلي العمل لتحقيق حياة أفضل للمواطنين، ومن المظالم وضياع الحقوق إلي العدل والمساواة، ومن التصارع الداخلي وهدم الذات إلي التعبير الإيجابي واحترام الذات.
وبدأت المقارنة تحتد بين أحوالنا وأحوالهم، فقد تركت مصر منذ عدة ساعات وهي متلحفة بسحابة سوداء كثيفة تشقها طرق غير منظمة وغير آمنة ويعيش أهلها في ضنك من العيش مع تدهور واضح في التعليم والصحة والممارسة السياسية والإعلامية، والأخطر من ذلك التدهور القيمي الذي عكسه تقرير وزارة التنمية الإدارية والذي أظهر أن 33% من المصريين لا يرون في الرشوة مشكلة، وأن 55% لا يرون الكذب عيباً، وأن 49% لا يثقون في الحكومة. قد يتهمني كثيرون بالتشاؤم والمبالغة وتضخيم المشكلات والأخطاء في وطني، ولكنني أسافر كثيرا في المكان وفي الزمان، ويحزنني أن أري وطني بلا حلم وبلا خيال وبلا رؤية وبلا هدف واضح وبلا استراتيجية حقيقية.. حين أمشي في شارع نظيف في أي من بلاد العالم أتحسر علي شوارعنا المتهالكة المليئة بالحفر والمطبات والقمامة.. وحين أسير علي طريق مرصوف رصفا جيدا ومزود بكل وسائل وعلامات الأمن والسلامة أتحسر علي طرقنا المليئة بمخاطر الموت والتي يموت عليها كل عام ثمانية آلاف ويصاب أكثر من خمسة وتسعين ألفا.. وحين أجد انضباطاً مرورياً في بلد ما أحزن علي ما نعانيه من اختناقات واضطرابات مرورية.. وحين أجد نظام تعليم متميزاً في كثير من بلاد الدنيا أشعر بانقباض شديد وأنا أري أحوال التعليم المتدهور في بلادي.. وحين أري البحث العلمي الجاد والصاعد في الدول المحترمة أجد غصة في حلقي مما أعلمه من تردي البحث العلمي وفقر إمكاناته وانعدام الاهتمام به في وطني. إذن لم يستطع جمال المكان وصفاء الجو واعتداله في بلاد الأندلس أن يحميني من المقارنات المؤلمة بين ما يحدث علي أرض إسبانيا وما يحدث في مصر، وهنا فاضت دموعي ليس علي ضياع الأندلس هذه المرة ولكن علي ضياع مصر. وربما يكون هذا بسبب يقيني بأن مصر بلد عظيم، ولكن أهلها الحاليين ليسوا علي مستوي هذه العظمة، وأن تاريخها مليء بالمفاخر ولكن حاضرها ليس بالضرورة كذلك.. صحيح هي علمت الدنيا الضمير والحضارة والجمال، ولكنها نموذج لأشياء عكس ذلك في هذا الزمن.. هي ليست نزعة تشاؤمية ولكنها محاولة للاحتفاظ برؤية صادقة للذات من خارج عتبتها أملا في الوصول إلي لحظة التغيير، ولكن أكثر ما يخيفني هو أن نستمر في نقد الذات أو جلدها بلا تغيير حقيقي وهذا يؤدي في النهاية إلي سلوكيات هدم الذات، وأكاد أري علامات لهذا وذاك الآن، فنحن لم نعد نثق بأنفسنا ولم نعد نثق ببعضنا. أحب مصر بقدر غضبي من المصريين الحاليين وحزني عليهم فنحن المصريين لسنا جديرين بمصر.
كيف نهضت إسبانيا من كبوتها :
عاشت إسبانيا فترة حرب أهلية طاحنة انتهت عام 1939م، ومنذ ذلك الحين حكمها الجنرال«فرانكو» حكماً عسكرياً استبدادياً شمولياً، وظل متشبثا بالسلطة حتي ضاق الناس به وملوا وجوده إلي أن مات عام 1975 م، وفي فترة حكمه عانت إسبانيا من الاستبداد والفقر والتخلف والفساد الإداري والاجتماعي بكل ألوانه، وكان الناس قد يئسوا من الخلاص منه وظنوا في وقت من الأوقات أنه لن يموت، ويئسوا بالتالي من انصلاح أحوالهم وعاشوا سنوات طويلة من القهر.
وفي عام 1978 م «أي بعد ثلاث سنوات من موت الديكتاتور المستبد» تم التحول الديمقراطي، حيث وُضع دستور جديد أصبحت إسبانيا بموجبه دولة قانون اجتماعية وديمقراطية تحت نظام ملكي برلماني. والملك منصبه فخري، ورئيس الوزراء هو الحاكم الفعلي للبلاد. البرلمان الإسباني «cortes generales» مقسم إلي مجلسين: واحد للأعيان «senado» وعدد أعضائه يبلغ 259 عينًا، وآخر للنواب «congreso de los diputados» وعدد أعضائه يبلغ 350 نائباً. ينتخب الأخير مباشرة من الشعب كل 4 سنوات، بينما يعين 51 عضواً من مجلس الأعيان وينتخب الباقون من الشعب أيضاً. رئيس الوزراء والوزراء يتم تعيينهم من قبل البرلمان اعتماداً علي نتائج الانتخابات النيابية. أهم الأحزاب الإسبانية :
1 حزب الشعب «pp»
2 حزب العمال الاشتراكي الإسباني «psoe»
3 اتحاد اليسار «iu»
4 التحالف الديمقراطي لكاتالونيا «ciu»
5 الحزب الوطني الباسكي «eaj-pnv»
6 اليسار الجمهوري لكتالونيا «erc»
وفي عام 1981 م حاولت مجموعة من قوات الأمن التمرد والانقلاب علي الديمقراطية الوليدة وتشكيل حكومة موالية للجيش ولكن الملك خوان كارلوس أحبط هذه المحاولة من خلال نفوذه الشخصي كملك للبلاد ومن خلال قيادته للقوات المسلحة، وقد ساعده علي ذلك أن غالبية قطاعات الجيش لم تستجب لهذه المجموعة المتمردة.
وفي أكتوبر 1982 م فاز حزب العمال الاشتراكي الإسباني في أول انتخابات برلمانية حقيقية بقيادة «فيليب جونزاليز ماركيز» واستمر هذا الحزب في الحكم من خلال انتخابات حرة ونزيهة لمدة 13 عاماً شهدت فيها إسبانيا تحولات إيجابية هائلة، حيث بدأ سن مجموعة من القوانين المنظمة لحركة المجتمع في جميع المجالات، وتشييد بنية تحتية قوية، ووضع برامج تعليمية جادة ومتطورة في كل مراحل التعليم، كما تم تطوير قطاعي الصحة والعمل، وتحررت التجارة بشكل كبير عبر قوانين سهلت الاستثمار كما سهلت التواصل مع حركة التجارة الأوروبية والعالمية، وتراجعت معدلات الفساد السياسي والإداري، وشعر الناس بأن التغيير يأتي لصالحهم ويغير حياتهم للأفضل فأصبحوا أكثر انتماءً وتعاوناً وتجاوباً مع طموحات الحكومات المنتخبة منهم.
إذن فهي ثلاث عشرة سنة من العمل الحقيقي الجاد شهدت تحولاً جذرياً وهائلاً في كل مناحي الحياة في إسبانيا، وأصبحت بعدها دولة حرة حديثة، وانتقلت من مصاف الدول النامية إلي الدول المتقدمة، وواكب هذا تحولاً ثقافياً واجتماعياً، حيث أصبح المجتمع أكثر انفتاحًا وتواصلاً مع العالم.
وعلي الرغم من كل هذه النجاحات التي حققها حزب العمال الاشتراكي الإسباني فإن الناخب الإسباني أراد مزيداً من التغيير فأعطي غالبية أصواته في مارس 1996 م لحزب الشعب بقيادة «جوزيه ماريا أزنار»، وقام الحزب بمزيد من الخطوات لتحرير الاقتصاد، حيث تبني برنامجًا طموحاً ومنضبطاً للخصخصة وإصلاح سوق العمل وتشجيع المنافسة في أسواق بعينها وخاصة في مجال الاتصالات. وفي تلك الفترة من حكم حزب الشعب تأهلت إسبانيا لتصبح عضوًا في الاتحاد الأوروبي وتدخل في منظومة العملة الأوروبية الموحدة.
وكان لهذا التحول الديمقراطي أيضاً أثر في السياسة الخارجية لإسبانيا، إذ استعادت دورها الخارجي من خلال مشاركتها مع حزب الناتو في العمليات العسكرية المشتركة في يوغوسلافيا وصربيا والبوسنة وكوسوفا وأفغانستان والعراق.
وفي عام 2004 م فاز حزب العمال الاشتراكي الإسباني مرة أخري بقيادة «زاباتيرو»، وتشكلت حكومة نصف عددها من الرجال والنصف الآخر من النساء. وفي هذه الفترة واصل الاقتصاد الإسباني نموه الضخم تواكبه قوانين اجتماعية وثقافية متطورة ودور سياسي فاعل.
ثاني أكبر دولة في العالم سياحياً:
أما السياحة فهي قصة أخري تستحق الإعجاب، حيث يزور إسبانيا كل عام خمسون مليون سائح «وتعداد إسبانيا أربعون مليونا» لتصبح إسبانيا الدولة الثانية في العالم من حيث عدد السائحين بعد فرنسا والتي يزورها خمسة وستون مليون سائح «لاحظ أن مصر يزورها سنويا في أحسن الأحوال ستة ملايين سائح علي الرغم من وجود 40% من آثار العالم لدينا ووجود جو معتدل وشمس ساطعة أغلب شهور السنة - هذا قبل ظهور السحابة السوداء».
وإسبانيا لا تملك الكثير من الآثار فغالبية آثارها تعود إلي الحقبة الإسلامية العربية، وأشهر تلك الآثار قصر الحمراء في غرناطة، ومع هذا استطاعت توظيف ما تملكه لجذب كل هذه الأعداد الهائلة من السائحين كل عام.
والمرشدون السياحيون يعرفون تاريخ بلدهم جيداً، وحديثهم عن الفترة الإسلامية يتسم بصراع داخلي يبدو في كلماتهم، فهم يسمون تلك الفترة: «فترة السيطرة العربية علي الأندلس» «arabic influence»، وحديثهم عن انتهائها لا يخلو من شماتة وشعور بالانتصار. وهم يدّعون في كثير من أحاديثهم أن الآثار الإسلامية والعربية شيدها مهندسون وعمال إسبان استلهموا الأنماط العربية السائدة في العمارة في ذلك الوقت ليرضوا أذواق الأمراء العرب الذين كانوا يحكمون إسبانيا في ذلك الوقت.
وفي منطقة الأندلس تري آثارًا مسيحية وآثاراً إسلامية، كما تري آثاراً مختلطة، حيث يمتزج الفن الإسلامي بالمسيحي فيما يعرف باسم «مودخا».
ولا تري في إسبانيا ما تراه هنا في مصر من متطفلين علي السائحين يضايقونهم ويحاولون ابتزازهم أو خداعهم أو النصب عليهم، بل تري مرشدين محترفين تابعين لمؤسسات سياحية محترمة.
الثقافة الإسبانية:
يعود الفضل في انتشار الثقافة الإسبانية إلي فترة التوسع الإسباني في القرون الأخيرة من الألفية السابقة. حيث يتكلم معظم سكان قارة أمريكا الجنوبية اللغة الإسبانية، جاعلين من الإسبانية أحد أكثر لغات العالم انتشاراً. سطع نجم إسبانيا في الفن وخاصة الرسم من خلال الرسامين الإسبان : بابلو بيكاسو «picasso»، سلفادور دالي «dal?»، فرانسيسكو دي جويا «goya» وغيرهم. كما أن الأدباء الإسبان كأمثال : ميجيل دي سيرفانتيس «de cervantes» وروساليا دو كاسترو «do castro» أضافوا الكثير للأدب العالمي. متحف ديل برادو في مدريد هو أحد أهم المتاحف علي مستوي أوروبا، إذ يحتضن العديد من الكنوز الفنية. الدوري الإسباني في كرة القدم هو الأشهر عالمياً لكثرة نجوم الكرة العالمية الذين يلعبون ضمن صفوف الفرق الإسبانية.
وقد نجحت إسبانيا الحديثة في استثمار الامتداد العرقي واللغوي لها في أمريكا الجنوبية، حيث إن هناك 400 مليون يتحدثون اللغة الإسبانية في العالم، وهؤلاء يشكلون امتداداً ثقافياً هائلاً لهم، يساعد في الامتدادات السياسية والاقتصادية.
الاقتصاد الإسباني:
تحول الاقتصاد الإسباني من اقتصاد يعتمد بالدرجة الأولي علي الزراعة إلي اقتصاد متنوع ذي أهمية في أوروبا خلال العقود الأخيرة. دخل الفرد مقارنة مع الناتج الإجمالي للدولة هو رابع أعلي دخل في أوروبا. ساهم الاتحاد الأوروبي، منذ دخول إسبانيا الاتحاد عام 1986، في تنمية الاقتصاد بشكل كبير. أهم الصناعات هي المنسوجات والمواد الغذائية والمعدنية والكيميائية والسيارات والسياحة. فرنسا وألمانيا هما أكبر الشركاء التجاريين. أهم المنتجات الزراعية هي الشعير والخضراوات والفاكهة والزيتون والعنب والشمندر السكري والحمضيات. تملك البلاد ثروة حيوانية وسمكية ضخمة.
وفي إسبانيا صناعة سيارات مزدهرة وصناعة أسلحة متطورة، وتكنولوجيا علمية هائلة خاصة في موضوع الدراسات الجينية.
ولم يكن مستغربًا، أن يبلغ الناتج الإجمالي ل22 دولة عربية مجتمعة، يقطنها 280 مليونًا من العرب البائسين المقهورين الخاضعين المستسلمين، 531 مليار دولار أمريكي بينما يبلغ الناتج لإسبانيا وحدها 595 مليار دولار بزيادة 64 مليار دولار مقارنة بالأمة العربية وعدد الإسبان سبع أعداد العرب!!. إن سكان إسبانيا الذين يبلغ تعدادهم 40 مليونًا كانوا حتي بداية الثمانينيات من القرن العشرين من بين أقل الدول نماءً في أوروبا الغربية، كما كان معظم السكان مزارعين فقراء. ودون تعامل مع الشعارات الرنانة بدأت إسبانيا صعودها الاقتصادي بعد الإصلاح السياسي والتحول الحقيقي من حكم الفرد الشمولي إلي الحياة الديمقراطية السليمة. وقد أعطي الإسبان اهتماماً خاصاً للتعليم، ففي عام 1900م كانت نسبة الأمية 60%، انكمشت لتصبح اليوم 3% لسن الخامسة عشرة فما فوقها. وامتلكوا 30 جامعة تضم أكثر من 700.000 طالب، يكدون لنيل معرفة عصرية وتقنية تقيم لبلادهم مكانة مرموقة بين الأمم. ودون ضجيج إعلامي زائف بلغ الناتج القومي عام 1985م «292» مليار دولار أمريكي، وتجاوز في عام 2000م «595» مليار، أي بزيادة «300» مليار دولار متجاوزًا الناتج العربي كله بأكثر من «60» مليار دولار.
الشعب:
الشعب الإسباني له خصائص شعوب جنوب البحر الأبيض المتوسط، فعلي الرغم من المسحة الأوروبية في اللون والملامح فإنه يحمل بعض الصفات التي هي خليط من العربية والإيطالية. وهو شعب باحث عن حقوقه ومنشغل بحياته، ويبدو غير ودود في أغلبه، وهناك حساسية ظاهرة في التعامل مع العرب بوجه خاص، وكأنها نتاج عقدة تاريخية لم تحل بعد، فعلي الرغم من مرور مئات السنين علي خروج العرب والمسلمين قهرا من الأندلس فما زالت هناك مخاوف لدي الإسبان من عودتهم مرة أخري، وربما يجعلنا هذا نفهم سر تمسك إسبانيا بسيطرتها علي جزء من الساحل المغربي وعلي بعض الجزر في مضيق جبل طارق وفي المحيط الأطلنطي، وكأنها تأخذ مسافات أمان بينها وبين العرب. وهم يعيشون فجوة تاريخية، إذ يحاولون استبعاد ثمانمائة سنة من وعيهم التاريخي. والإسبان مثل باقي الأوروبيين لا يهتمون كثيرًا بالأيديولوجيات، بل يعمدون مباشرة إلي البراجماتية التي تيسر لهم حياة رغدة ونمواً اقتصادياً كبيراً، لذلك فهم حسيون ومقبلون علي الحياة والمتع والرفاهة.
وهم مغرمون بأكل الخنزير، حيث توجد أعداد هائلة من أفخاذ الخنازير معلقة علي واجهات المطاعم والسوبر ماركت واستراحات الطرق السريعة، ولا ينافس لحم الخنزير المعروض هناك إلا زجاجات الخمر في كل مكان. ويبدو أن إسبانيا تعتمد في جزء من اقتصادها علي تصدير لحم الخنزير وعلي تصدير الخمور المستخرجة من العنب والذي يزرع بكميات كبيرة هناك.
ومن العجب أننا هنا في مصر مرعوبون من إنفلونزا الخنازير علي الرغم من القضاء علي مزارع وحظائر الخنازير بالكامل، وهم هناك لا يعيشون هذه الحالة من الهلع الخنزيري علي الرغم من وجود عدد أكبر من الحالات عندهم ووجود هذه الأعداد الهائلة من مزارع الخنازير.
الشوارع والطرق:
والشوارع دائما نظيفة، والحركة فيها سلسة حتي ولو كانت ضيقة، ولا توجد اختناقات مرورية، ولا تري رجل مرور في الشارع في الأحوال العادية ولكن إذا وقع حادث تجدهم يظهرون فورا وكأنما انشقت الأرض وخرجوا منها.والطرق مرصوفة رصفا جيدا «كسائر بلاد أوروبا» وعليها كل علامات الإرشاد ومزودة بكل متطلبات الأمن والسلامة، ولا توجد كمائن مرورية تضيق علي الناس الطريق أو تخنق سيولة المرور، ولا يوجد عساكر مرور أو أمناء شرطة يبتزون سائقي الحافلات، والإشارات هناك يحترمها سائقوا السيارات والمشاة علي السواء.ولا تسمع كلاكس سيارة ولا تري وقوفا في الممنوع ولا تعاني انسدادات مرورية.
ولا تري في الشوارع أو الميادين أي صور للزعماء أو السياسيين، ولا تري إعلانات جدارية عن إنجازات الحكومة الإسبانية.
وقد زرنا حي اليهود في مدينة أشبيلية، وقد هجره اليهود أو بالأصح طردوا منه، حيث شملتهم عمليات التطهير العرقي التي جرت بعد سقوط الأندلس في أيدي الجيوش الأوروبية المدعومة والموجهة من الكنيسة الكاثوليكية. والحي يميزه شوارعه الضيقة وبيوته الأثرية، وهو يقترب من النموذج المعماري العربي.
والطريق من أشبيلية إلي غرناطة غاية في الروعة والنظام والانضباط، إذ لا يوجد فيه خطأ تقع عليه العين، والمرور عليه غاية في السيولة والسهولة واليسر.
كراكيب مصرية:
ونعود إلي أرض الوطن لنجد أزمة النقاب مازالت مشتعلة، وإجراءات الحماية من إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا العصافير وإنفلونزا الحمير وإنفلونزا الكلاب تشغل الجميع عن سائر أمور حياتهم، والمدارس تعيش حالة طوارئ خادعة تنهي ما تبقي فيها من تعليم لحساب حماية النشء من وباء متوقع أو متوهم، والناس مرهقة في تدبير أموال الدروس الخصوصية ومصروفات التعليم الذي لا يغير شيئا في الناس ولا في حياتهم وينتهي بشهادة ورقية لا قيمة لها في سوق العمل، ولعبة التلفيق والتزوير علي أشدها، والناس في ذهول، وبعضهم تسلل إلي الماضي باحثا عن عز قديم أو حل قديم لمشكلات مستحدثة، وقد غاب الحلم وضعف الخيال، وابتعد المستقبل أو اختفي، وأصبحت الرؤية ضبابية ومساحات المجهول تتسع وتتسع ثم تمتلئ بكل ما هو خرافي وسحري، وكمائن المرور تخنق الشوارع والطرق المخنوقة باحثة عن مجرمي الشعب، وتقلصت الأهداف الإستراتيجية وأصبح غاية منانا التخلص من القمامة التي تملأ شوارعنا ونفوسنا.
فالوطن الذي كان يوماً جميلاً يتحول إلي كراكيب بشرية وكراكيب سياسية واجتماعية وأخلاقية توازي تلك الكراكيب الموجودة بكثرة لافتة للنظر فوق أسطح منازلنا، وهي ظاهرة ننفرد بها علي شعوب العالم وربما تكون نوعاً من عدم الأمان يجعلنا نحتفظ بالكراكيب عسي أن تنفعنا في أيام مقبلة.
وأحاول أن أنسي ما رأيته وسمعته في بلاد صرعت ثور الاستبداد وثور الفقر وثور الخوف ومارست رقصاً تناوبياً علي مسرح الحياة، وأتفرغ لمتابعة فعاليات مؤتمر الحزب الوطني السادس أو السابع أو المائة «لا فرق» لأري ذلك الاجترار القومي الوطني الديمقراطي الجماهيري الشعبي العبثي يتكرر منذ ثلاثين عاماً مع فارق بسيط يتلخص في تغيير الأقنعة وتغيير مواقع الممثلين وصبغ شعورهم.
إذن فلا غرابة أن يكسب الفريق الإسباني كأس العالم في الكرة، فالشعب الإسباني قد كسب قبل ذلك كأس التحرر من الاستبداد، وكأس الديمقراطية النظيفة والحقيقية، وكأس التنمية، وكأس العلم، وكأس النجاح والرفاهية، ولا عزاء للكسالي والمخدوعين والمقهورين والمحبطين والمستعبدين، ولا مناص إلا بتعلم مصارعة الثيران كما فعل الإسبان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.