ظاهريا تبدو أزمة مباراة الزمالك والمقاصة واحدة من تلك الأزمات الرياضية العابرة العامرة بالبهارات الحراقة التى تترقبها الجماهير المتشوقة لتمضية وقتها فى متابعة التعليقات وردود الفعل الصادرة من القلعة البيضاء، وما إذا كان الأبيض سينفذ تهديده بالانسحاب من الدوري، احتجاجا على «ظلمه تحكيما»، والتراشق بين ضيوف البرامج الرياضية لدى تحليلهم الواقعة، وموقف اتحاد كرة القدم وغيرها من التفاصيل الفرعية. غير أن النظرة المتفحصة للحدث ستأخذنا لمسالك ودروب أخرى وعرة فيها ما فيها من أجراس الإنذار للمجتمع المكترث بالتقاط الإشارات والاضاءات وترجمتها ترجمة فورية دقيقة واعية، ثم رسم خط بيانى واضح لمواجهتها وإعفاء نفسه مقدما من دفع الفاتورة الباهظة للتلكؤ فى علاج مواضع الاختلال والزلل. بعبارة أوضح أننا نقف أمام «طائفة المنسحبين»، وهم خطر لو تعلمون عظيم، فمفهوم الانسحاب لديهم يشكل عقيدة راسخة يسعون لتعميمها ظنا بأن فيه الراحة والسكينة والصلاح للبلاد والعباد، ولا يرتاحون لأفكار التغيير ومتطلباته الآنية والمستقبلية، ففى عرفهم ليس هناك أفضل من بقاء الحال على ما هو عليه. فالمنضوون تحت لواء هذه الطائفة يودون أن ننسحب سريعا من معركة تجديد الخطاب الدينى، ويروجون لمفاهيم أن التجديد مرادف للعبث فى الثوابت الدينية وزعزعة أعمدة الدين المستقرة فى أفئدة وعقول عامة المصريين، وأنه يثير البلبلة والتشويش، وأن البلد لا ينقصه مزيد من العوامل الباعثة على الانشقاق والاختلاف، فدعونا نكتف بهذا القدر من مساعى التجديد ونعد أدراجنا سالمين غانمين إلى ما ألفناه وعهدناه، ويكفينا ما كابدناه من عنت وصخب لا ترجى منه فائدة فى نظرهم. هم لا يكتفون بذلك بل يمدون الانسحاب إلى ميدان الحرب على الإرهاب فى سيناء وخارجها، ولا يكفون عن التشكيك فى جدوى العمليات العسكرية المتواصلة للقضاء على بؤر التكفيريين ومَن يعاونهم، وما يصدر عن الجهات الرسمية من بيانات وتقارير تتعلق بنتائج هذه العمليات وبعضهم يوحي، خصوصا من مالكى المنصات الإعلامية والصحفية، بأن الإرهابيين يحكمون قبضتهم الأثيمة على بعض مناطق سيناء، ويبدون شماتة مباشرة وغير مباشرة كلما تعرضت قواتنا المسلحة والشرطة لهجمات غادرة يسقط فيها شهداء أبرار، وهم يذودون عن تراب وطنهم، ويتصدون لمرتزقة مأجورين تلقوا تعليمات وأوامر صريحة بفعل كل ما يقدرون عليه حتى لا تنعم مصر وشعبها بالأمن والاستقرار. وفى غمرة دعواتهم المشبوهة غير النزيهة يغيب عنهم أن الجيش والشرطة هما السد المنيع الذى يحول دون تحويل وطننا لنسخة كربونية مما شاهدناه فى أفغانستان والعراق وسوريا، عندما سيطر الإرهابيون من كل فج عميق على مدن وقرى بهذه الدول، فقد عاثوا فيها تخريبًا وتدميرًا وترهيبًا، وتركوها خرقا بالية، أهذا ما تصبون إليه؟ ثم إنكم نسيتم أمرًا مهمًا هو أن مقاومة الإرهاب لا تنحصر فقط فى مواجهة مَن يرفع السلاح، لكنها تجرى على جبهات عدة، منها ما يتصل بالتنمية وتحسين مستوى الخدمات العامة، ومحاربة الفساد بعنف، وعصرنة الخطاب الدعوى لجعله ملائمًا لمقتضيات وتحديات عصرنا. المنسحبون لا يعجبهم أيضا كل هذا الكم من المشروعات القومية الكبرى ويعتبرونها عبئا ثقيلا لم نكن فى احتياج إليه الآن، ويلتهم أموالا طائلة دون الحصول على عائد آنٍ منظور، وبخبث شديد يخلطون بين الأوراق باستدعاء تجارب ماضية تمت فى عهود سابقة لتأكيد صواب رؤيتهم الداعية للانسحاب منها، مثل مشروع توشكى وملحقاته، وأنه من الأفضل توجيه المخصص لها ماليا لاتجاهات أخرى كالقطاع الصحي، والتعليم، وتقليل التلوث وخلافه من القطاعات المرتبطة بحياة الناس اليومية اللازم تطويرها للتخفيف مما يواجهونه من متاعب واختناقات. ولو كان لدى هؤلاء بصيرة لتوصلوا إلى أن من سبقونا على مضمار التنمية والإصلاح الاقتصادى كاليابان والصين وكوريا الجنوبية كانوا فى البدايات ينفذون مشروعات كبرى أحدثت طفرات رهيبة فى مساراتها واقتصادياتها وجنت من خلفها، بعد حين, عوائد وتدفقات استثمارية كبيرة، وكانت فاتحة خير عليها لأنها نمت اقتصادها وزادت الدخل، وبات لدى خزينة الدولة المال الكافى لإنفاقه على التعليم والصحة والبنية التحتية .. الخ. كما أن هذه الطائفة تدفعنا دفعا للنكوص عن الديمقراطية وحرية التعبير والنظام السياسى المتعدد الأوجه، فهم مرتاحون للصوت الواحد والرأى الواحد والتوجه الواحد، ويأبون بعزيمة لا تلين ظهور صوت مختلف يشير بأصابعه لسلبيات لا يخلو منها اى مجتمع ناهض بغرض علاجها وتطويق آثارها الكارثية على الحاضرين وعلى أجيال المستقبل، وأن نتخلص من فئة المنافقين والسائرين فى الزفة دون إيمان حقيقى بالقضايا الوطنية، فهم لا يفتشون سوى عن مصالحهم الذاتية وما ينتظر أن يحصدوه، وما دون ذلك لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد. وجانب من هذا الإطار يخص الانسحاب من الاستحقاقات الواردة فى الدستور الذى وافق عليه المصريون عن قناعة، فنرى مَن يطالب بتعديل مواد فيه لأسباب واهية تضر أكثر مما تفيد، ومَن يدعو لكتابة دستور جديد كلية، فأى عبث واستهتار هذا، فاللائق أن نحترم دستورنا ونحافظ عليه ونطبقه كما يقول الكتاب. يريدوننا أن ننسحب من تكريس مبادئ ومواصفات المواطنة، وفى منتدياتهم الخاصة يشيعون كل ما يحض على الطائفية وعدم احترام الآخر وحقوقه فى العيش كجزء من نسيج الوطن القادر على احتضان واستيعاب الجميع دون تفرقة، فالكل يقف على أرضية واحدة ويتنفس الهواء ذاته ويستظل بالسماء ذاتها ، ولماذا نتجاهل أن مصر كانت طوال تاريخها القديم والحديث حاضنة لمعتنقى الديانات السماوية الثلاث دون تمييز ولا استعداء، فالوئام والتآلف كانا سائدين وشائعين، وكان لديها مساحات شاسعة من التسامح والتفاهم، فلم تحرمونا من استعادتها وزيادتها؟ فإياكم والانسحاب ففيه الهلاك وسوء المصير. [email protected] لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي;