على مدى الأسابيع الماضية انشغل المجتمع المصرى بكامله بالبطولة الافريقية لكرة القدم، وكادت تكون محور الحوار الرئيسى جنبا الى جنب مع حديث الأسعار، وهذا ان دل على شيء فهو يدلنا على الدور المهم الذى تلعبه الرياضة فى المجتمع ككل ولاتقتصر هذه الظاهرة على مصر وحدها بل هى ظاهرة عالمية بكافة المقاييس وخير دليل على ذلك جلوس اكثر من ثلث البشرية من 213 دولة يشاهدون المباراة النهائية لكأس العالم فى كرة القدم عام 2014، فى حين تضم الأممالمتحدة 191 دولة فقط. ووصل سعر ال30 ثانية إعلانات على شاشة التليفزيون الفرنسى فى المباراة النهائية لبطولة اوروبا500 ألف يورو. وحصل الاتحاد الدولى لكرة القدم (الفيفا) على ما لايقل عن 2.3 مليار يورو مقابل حقوق النقل التليفزيونى والرعاية الإعلانية فى ألمانيا، وتقدر الاستثمارات الإعلانية المرتبطة بالتصفيات بما يزيد على الثلاثة مليارات من اليورو. ومع تسليمنا الكامل بخصوصية ووضعية كرة القدم على الصعيد الشعبى العالمي، إلا أن هذه الأرقام وغيرها توضح لنا المدى الذى وصلت إليه الرياضة كصناعة اقتصادية، واتساع نطاقها بصورة كبيرة وليس أدل على ذلك من التطور فى الدورات الاوليمبية ففى عام 1896 (أى الدورة الاولمبية الأولى التى عقدت فى أثينا) لم تشارك سوى 13 دولة ولم يشارك سوى 285 رياضيا فى تسع رياضات بينما فى ريودى جانيرو (أغسطس 2016) بلغ عدد الدول المشاركة نحو 205دول وشارك 12500رياضى وشاهدها نحو ثلاثة مليارات نسمة. وهكذا أصبحت الرياضة ظاهرة اجتماعية شاملة يظهر فيها الانتماء والهوية والوضع الاجتماعى بل وأيضا بعض الأدوار السياسية والاقتصادية.فالرياضة تنقل مجموعة لابأس بها من القيم الأساسية التى يحتاجها المجتمع لبناء الأمة مثل تنمية روح التعاون والتضامن، والتدريب على المنافسة، واحترام الآخر والقوانين وغيرها. هذا فضلا بالطبع عما نعرفه جميعا من إسهام الرياضة فى بناء الإنسان الصحيح الخالى من العلل والأمراض وهو ما يمكنه من الاستمتاع بحياة أفضل، وهو المفهوم الأساسى للتنمية البشرية التى يتحدث عنها الاقتصاديون الآن باعتبارها معيار تقدم الدول. بل أنها يمكن أن تسهم كثيرا فى الحد من الإنفاق على مجالات بعينها كالصحة والتعليم وقديما قالوا إن العقل السليم فى الجسم السليم وهى حقيقة مؤكدة. فإذا ما توجه الاهتمام نحو بناء الإنسان المصرى فان ذلك سيعود بالنفع على المجتمع ككل ويؤدى إلى إحداث النهضة التنموية المرغوبة، وهنا نلحظ، على سبيل المثال ان مصر تحتل المرتبة ال 104 فى ترتيب التنمية البشرية لعام 2015 من بين 188دولة على المستوى العالمى وهو ترتيب متأخر للغاية.بل والاهم من هذا ان من يتابع اختبارات القبول بالكليات العسكرية يلحظ تدهورا ملحوظا للغاية فى بناء الشباب المتقدم لهذه الاختبارات، ووفقا لتصريحات القائمين عليها فهناك تراجع شديد فى مستوى اللياقة البدنية والتركيب الجسدى وغيرها من الأمور المهمة الأمر الذى ينذر بأوضاع غير محمودة العواقب. وجدير بالذكر أن الهرم السكانى فى مصر يغلب عليه الطابع الشبابى وهى ميزة كبرى إذا ما استطعنا التعامل معها بطريقة تنموية صحيحة، وهنا تشير الإحصاءات إلى ان عدد السكان اقل من 30 سنة يصل إلى نحو 54.164مليون نسمة ( بنسبة 61% من إجمالى السكان ) بينما يبلغ عدد السكان فى الشريحة العمرية بين 30 عاما و40 عاما نحو 12.3 مليون (بنسبة 13.8 % من الإجمالى) ليصل عدد هذه الشريحة ككل الى 74.8% من إجمالى السكان، وهى الشريحة الأساسية التى تتوجه إليها الرياضة رغم أننا نؤمن بأن الرياضة للجميع ولكن المقصود هنا هو ان هذه الشريحة هى التى يمكن الاستثمار فيها أفضل استثمار ممكن. من هنا تأتى أهمية الحديث عن الاستثمار فى صناعة الرياضة. مع ملاحظة أننا نتحدث عن الرياضة كصناعة خدمية، وهو مفهوم يختلف عن النظرة الحالية التى ترى فيها وسيلة ترفيهية أو لتمضية أوقات الفراغ لدى الشباب وغيرها من المفاهيم التى أصبح لا محل لها من الإعراب فى الفترة الحالية. فالرياضة أصبحت صناعة بالمعنى الحرفى للكلمة ودخلت فيها الشركات الكبرى وآليات الربح والأسواق. فإذا ما أحسنا التعامل معها يمكنها أن تشكل أحد مصادر الدخل مثلها مثل السينما والثقافة التى تتمتع فيها مصر ببعض المزايا النسبية على الصعيد الإقليمى فيما نطلق عليه القوى الناعمة. وهنا تجدر الإشارة الى ان الوضع المؤسسى للرياضة المصرية مازال دون المأمول حيث انخفض عدد المنشآت الرياضية من نحو 5024 منشاة عام 2004 الى 4919 منشأة عام 2015 اى ان هناك تراجعا نسبيا فى عدد المنشآت الرياضية. ويرجع السبب فى ذلك الى تراجع عدد المنشآت الرياضية لدى القطاع الحكومى وكذلك انخفاض عدد مراكز، الشباب فى المدن من 456 مركزا عام 2006 الى 407 عام 2015. وتركز معظم هذه المنشآت فى مناطق بعينها فعلى سبيل المثال يبلغ عدد مراكز الشباب فى القرى نحو 3665 مركزا بينما عدد القرى يصل الى 4740 مركزا.وهو ما يوضح مدى ضالة المنشآت الرياضية مقارنة باحتياجات المجتمع وعدد سكانه فاذا ما اضفنا لذلك سوء التوزيع الجغرافى لاتضح لنا الخلل الكبير فى الأوضاع الحالية، ناهيك عن سوء استخدام بعضها مع ضآلة الإمكانات الموجهة إليها. هذا مع العلم بان هذه المنشآت توفر فرص عمل مباشرة تصل الى 135.6 ألف فرصة، هذا فضلا عن فرص العمل غير المباشرة المرتبطة بهذه الصناعة وهى كثيرة ومتعددة. فإذا ما أضفنا الى ذلك عدد أعضاء هذه المنشآت والذى يصل الى 7.1 مليون عضو معظمهم فى اندية القطاع الخاص حيث يصل عددهم الى 2.8 مليون يليها مراكز شباب القرى (2.4 مليون) لاتضح لنا الدور الكبير لهذه المنشآت. وعلى الرغم مما سبق فان المتتبع لموازنة الشباب والرياضة يلحظ أنها قد انخفضت من 4163 مليون جنيه فى ختامى 2014/2015 الى 4068 مليونا فى موازنة 2016/2017 هذا مع ملاحظة ان معظم هذه الأموال تنفق على أجور العاملين، والتى استحوذت على نحو 2.2 مليار جنيه فى موازنة 2016/2017(وبنسبة 53 %). اما الاستثمارات فقد انخفضت من 1242 مليون جنيه الى 800 مليون فقط خلال نفس الفترة مما يدل على مدى ضالة الأموال المخصصة للاستثمار فى مجال الرياضة. كل هذه المؤشرات وغيرها تدفعنا بالضرورة الى البحث عن طرق بديلة لتمويل الاستثمار فى صناعة الرياضة (وهو ما سنتناوله فى المقال القادم بإذن الله). لمزيد من مقالات عبدالفتاح الجبالى