فى مواجهة رياح الإرهاب العاصفة، يبدو الإصلاح الديني، كمهمة منوطة بمؤسسة دينية عاجزة ومحافظة، أكبر أهدافها هو استعطاف النص التراثى المترهل أو استرضاء الأصولى العنيف، عملا أقرب إلى الاستحالة الواقعية، ينطوى على تعجيز للمجتمع، وكأنه فى عراك يحمل فيه مطواة صغيرة بينما الأصولى مسلحا بالكلاشينكوف. فما نحتاجه اليوم وليس الغد إنما هو مشروع متكامل للتنوير، يحتاج بدوره إلى مبدأ مؤسس، له من الأولوية وعليه من الإجماع ما يستحق معهما كل تبجيل، ويرتقى بفضلهما إلى موقع التقديس، هذا المبدأ لا يمكن أن يكون سوى «الإنسان» يبدأ به وينتهى إليه، يدور حول حقوقه وحريته وقابليته للارتقاء بعيدا عن شتى أشكال الوصاية. ينقل هذا المشروع مهمة الإصلاح الثقيلة إلى كاهل الدولة نفسها، ويدفعها إلى إعادة بناء أنظمة التعليم العام والثقافة الوطنية، ناهيك عن الفضاء السياسي، إصلاحا للسياسة قبل إصلاح الدين، لأنها لن تحقق نجاحا يذكر فى مهمتها إلا إذا دفعت ثمنا له من سلطويتها، يتمثل فى كبح جماح تغولها على مجتمعها، وتوقفها عن التعامل المراوغ مع مثقفيها ومفكريها، إذ تطلب دورهم وتُثمَّن تنظيرهم فى مواجهة الإرهاب عندما يضربها، فإذا ما انقشع الإرهاب عادت هى لتضرب المخلصين منهم لمهمتهم، بينما تسعى إلى إفساد القابلين منهم لذلك خوفا أو طمعا؛ ذلك أن المجتمع لن يتقدم أو يستنير إلا إذا نمت مراكز قوته الفكرية والأخلاقية والسياسية خارج أسوار الدولة، التى تتحول آنذاك من مركز تقييد لحركته إلى بؤرة إلهام لمسيرته. ومع نجاحها فى مهمتها التنويرية، تكون قد أنجزت الإصلاح الدينى فى الوقت نفسه، لأن الشخص المستنير، الذى اعتاد إعمال العقل، لن يخضع أبدا لسلطة فقهاء تقليديين يكادون يعبدون السلف وتراثهم، ناهيك عن متطرفين دينيين يكادون يفتكون بالنص ويدمرون واقعهم، فهو شخص ودع بالفعل طفولته العقلية، وانطلق خارجا من كهف الوعى المغلق، محلقا نحو الآفاق الرحيبة للفكر الإنساني. كانت مصر واجهت الإرهاب فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وتمكنت بعد جهد جهيد من مقارعته، ولكن ها هو يعود فى موجة جديدة وكأننا على موعد معه كل عقد من الزمان، يدق أبوابنا ويطرح علينا تحدياته، فنستجيب له باستنفار جهودنا، التى تُستهلك عادة فى الدفاع عن وجودنا وليس فى تطويره نحو الأفضل. كما كانت قد واجهت تحديات الإصلاح الاقتصادى فى العقدين نفسيهما، واضطرت فى المرتين إلى مجاراة سياسات التقشف التى ينتهجها صندوق النقد الدولى حتى نجحت فى تفكيك أزمتها المالية الخانقة، ولكنها لم تنجح قط فى انجاز إصلاح اقتصادى بنيوي، يغير من هياكل الإنتاج والاستهلاك ويرفع معدلات التنمية، فعادت الأزمة من جديد تطل برأسها، على نحو أشد وطأة عن سابقاتها. فى الحالين نحن أمام منهج واحد، فما أن نرد الموجة الإرهابية حتى نعود لنسلك كل الطرق التى أفضت بنا إليها، وما إن نتجاوز عتبة الأزمة المالية حتى نعود للسير فى شتى الدروب التى قادتنا إليها. فى الأولى تغيب الحرية لصالح القمع والاستبداد، وفى الثانية تغيب الرشادة لصالح الفهلوة والفساد، فلا العقلانية بكل تجلياتها المعرفية والسياسية عادت لتدير دولاب حياتنا، ولا الحرية التى نحلم بها اقتربت من واقعنا. نعم هزمنا الإرهاب مرارا، ولكنه عاد إلينا تكرارا أشد ضراوة وأكثر شراسة، لأنه يطور نفسه ويجدد أدواته، فيما لا نضيف نحن جديدا. خضنا معاركنا مع جماعة الإخوان منذ أربعينيات القرن المنصرم، ومع الإرهاب العنيف منذ سبعينياته، لصالح مشروعات سياسية اختلفت مشاربها بين ملكية أو جمهورية، سبقت 23 يوليو أو لحقته، تلت 25 يناير أو 30 يونيو، ولكن جميعها تأسس على قاعدة الاستبداد، دافع عن نظام حكم بذاته باسم وطن مفترض، وليس باسم دولة عريقة تستحق الحرية، ومواطن حقيقى يستحق ما يصون كرامته الإنسانية، ولذا عدنا دوما إلى نقطة الصفر، وسوف نعود مرارا، طالما لم تتغير الوسائل وترتقى الأهداف وتسمو الغايات. يتصور البعض أن الاستبداد العلمانى أفضل من الاستبداد الديني، فيبذل قصارى جهده فى محاربة الأول ومهادنة الثاني، وليس هذا صحيحا على الإطلاق فإهدار كرامة البشر وقتلهم معنويا بيد الاستبداد هو المدخل لقتلهم جسديا بيد الإرهاب. ناهيك عن أن كليهما يفضى إلى الآخر، فالاستبداد الدينى إذ يقمع الضمير يفضى إلى موته، والاستبداد السياسى إذ يعطل الإرادة يفضى إلى قتلها، وليس الضمير والإرادة إلا مظهرين للروح الإنسانية، التى تؤمن وتبدع بإشعاع الحرية، كما تنافق وتقلد تحت ضغط بالقهر. يدفع هذا البعض إلى المطالبة بإزالة الضوابط المنظمة لحق الإنسان فى المحاكمة أمام قاضيه الطبيعي، واستسهال الدفع بفئات تلو أخرى أمام القضاء العسكري، وقد بلغ حمق بعض هؤلاء حده الأقصى فى دعوة الحكومة إلى القصاص من الإرهابيين، بقتلهم بدلا من إنفاق الأموال على مأكلهم ومحبسهم فى انتظار محاكمتهم، فلو حدث ذلك لهم لتحولنا جميعا إلى إرهابيين مثلهم، وفقدنا تفوقنا الأخلاقى عليهم والذى يبرر لنا نقد مسلكهم، أيا كانت مبرراتنا، طالما صرنا جميعا خارج إطار الشرعية الدستورية والمشروعية القانونية، فليتوقف المنافقون إذن عن رقصتهم الشيطانية على جثة الحرية، وليعلموا أن الأوطان أبقي، كما أن الإنسان أولى من الأديان، وأن الحرية لا تستوى إلا بالانخلاع من ربقة السلطان ووصاية الكهان فى آن. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;