بهزيمة المشروع الإصلاحى للإمام محمد عبده، تشقق الفكر العربى من بعده إلى طريقين لم يلتقيا قط فى شخص واحد كما التقيا فى شخصه. فثمة مفكرون حداثيون أخلصوا للعقل وحده، فظلوا غرباء عن روحانية الإيمان، وإن لم يكن لديهم جرأة الإفصاح عن ذلك، خشية الجماهير، فلم يكشفوا عن تصوراتهم الصادمة كما فعل نظراؤهم الأوروبيون، ليطلقوا جدلا عميقا حول مفهوم الحقيقة وحدودها، بل أخذوا موقفا مهادنا، غطى على التناقض القائم مع الثقافة العامة المحافظة، وعطل الجهد الفكرى الضرورى، المطلوب بذله لبناء توافق جديد (جدلى) يدور حول الموقف الثالث الإبداعى. وهكذا انتهت معظم دعوات المفكرين الحداثيين إلى لاشئ، إذ لم يصدقهم أحد، بل والمفارقة أن بعضهم لم يصدق نفسه، فانتهى به الأمر فى أخريات عمره إلى الإنقلاب على ذاته، متراجعا عن أفكاره الثورية، متصالحا مع المألوف والسائد فى تيار الثقافة المحافظة. هذه المراجعات ليست موضع إدانة بذاتها، ففى العودة إلى حق ظاهر، ولو بعد وقت، شجاعة لا تنال من صاحبها، ولكن ما قصدناه هنا أن غياب استراتيجية واضحة لدى المفكر، ووقوعه فى أسر ازدواجية ساكنة مغتربة جوهريا عن روحانية الإسلام العميقة، وعاجزة نفسيا عن المجاهرة برفضها أو تقديم البديل المقنع لها، والدفاع الجسور عنه، قد استنفذ عمر هذا المفكر أو ذاك فى غير المعركة المقصودة، وهى ترقية ثقافة الأمة، وتحريرها من الوقوع فى براثن الثنائيات المتناقضة التى دفعت بها نحو الركود، وعطلت مسيرتها نحو الهدف المنشود ممثلا فى بناء (عقلانية مؤمنة) جامعة للأصالة والحداثة معا فى مزيج طبيعى، حيث العقل مركزيا، والنص (القرآنى) حاضرا فى مركز الفعل العقلى، معلما لا قيدا، ملهما لا معطلا. وفى المقابل ثمة فقهاء دينيون، دافعوا عن إيمانهم، ولكنهم لم يبلغوا من العقلانية قدرا يكفى لفتح أفق النص الدينى على التاريخ الإنسانى، ومنحه القدرة على المواكبة والتجاوز. ومثلما عجز المفكرون الحداثيون عن إظهار تناقضهم مع روحانية الإسلام، عجز الفقهاء الدينيون، عن التصريح بعجزهم عن مواكبة العقل، ومسايرة حركة التاريخ، بما تفرضه من تحولات عاصفة فى المناهج والرؤى. لم يتوقف هؤلاء أبدا عن تأكيد عقلانية الإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان، بل ذهب بعضهم إلى تجذير كل النظريات العلمية الحديثة فى آيات القرآن الكريم، نفاقا للعقل، ومزايدة على العقلانيين. فإذا ما حاول عقل شجاع التعاطى الجدى مع النص التراثى على منوال نصر حامد أبو زيد، مثلا، خرج عليه من بينهم من يقطع طريقه ويخنق مشروعه. لا نقول ذلك دفاعا عن رجل بين يدى الله، بل تبيانا لحقيقتين: الأولى: أن الرجل مثل فرصة ضائعة على الثقافة المصرية، التى لو أحسنت الجدل معه طيلة عقدين مضيا على انبثاقة أفكاره المؤسسة حول: تجديد الفكر الدينى، ومفهوم النص، تطويرا لها، وتنقيحا لجذريتها أحيانا، لكنا قد وصلنا إلى موقف فكرى أكثر تقدما، بكثير، بديلا عن تلك المراوحة فى المكان حتى الآن، نعيد طرح القضايا نفسها، بينما سيف الإرهاب على الرقاب، وضجيج القنابل يعطل ملكة التأمل. والثانية: هى الكشف عن نمط اشتغال العقل الدينى، فالفقيه غالبا ما يعجز عن إعمال العقل جوهريا فى النص، كما يرفض قيام المفكر الحداثى بتلك المهمة. والمشكلة أنه يبقى قادرا دوما على هزيمة نظيره الحداثى، وتنحيته بعيدا عن المهمة، ليس لأنه أكثر جدارة منه، بل لكونه فى موقع مركزى من نظامى: التعليم الدينى، والفتوى، تنظر إليه الجماهير باعتباره صاحب السلطة المرجعية التى يُقيِّم بمعيارها المفكر الحداثى، فكأنه هنا الخصم والحكم. وهكذا يحتكر الفقيه عملية التجديد المنشودة، من طريق صوغ قواعدها الحاكمة، وضبط مآلاتها النهائية، وتحديد ما إذا كانت تسير فى الاتجاه الصحيح أم أنها قد ضلت الطريق؟. وبالقطع لن تبلغ طريقها القويم إلا معه، أما المفكر الحداثى، فدائما ما يهدد نقاء الدين. وهنا يكفي الفقيه أن يعلن ذلك للجماهير الغفيرة، التى تتكفل، ربما مع السلطة أو دونها، بالتنكيل به، رغم أن دوافعه الأساسية تتمثل فى حبه العميق لتلك الجماهير، وشعوره بالمسئولية عن تحريرها من قيود العقل الخرافى، والاستبداد السياسي، فيما يتمتع الفقيه، أحيانا، بحماية هذا الإستبداد، مقابل التكريس له دينيا، ولكن الجماهير غير قادرة على اكتشاف ذلك بنفسها، ولا على تصديق المفكر إذا ما أعلنه أمامها، ومن ثم فقد انتصرت للفقيه مرارا، وأدانت المفكر تكرارا. وهنا تكمن أهمية دعوتنا إلى التنوير العقلى المباشر، فطالما استمر الإصلاح الدينى هو الهدف، استمرت المؤسسة الدينية هى الأداة والمدخل، واستمرت معها سطوة الفقيه. أما التنوير فوحده يفتح الباب أمام المفكر لطرح أفكاره حول: الدنيا، العقل، العلم، الحرية، التنمية، التقدم، النهضة، وغير ذلك من مفاهيم حديثة. فإذا ما استجابت له الجماهير، استنارت عقولها، وراكمت قدراتها الذاتية على النقد المعرفى، والتذوق الجمالى، الأدبى والفنى، فلا فن هابطا هنا، ولا تطرف دينيا هناك، ينعكس فى مظاهر سلوك مراوغة وأنماط لباس بالية، وأشكال عنف صاخبة، لا تمت للدين، بقدر ما تعكس أزمة أصحابها النفسية، وضيق أفقهم العقلى فى عالم واسع، وتاريخ متدفق. تفرض المهمة التنويرية على الدولة موقفا رعويا من المفكر، من دونه لن يستطع تقديم وصفته الجديدة إلى الجماهير الواسعة، فهو لا يخطب فى مسجد يلقنهم من على منبره تعاليمه الأبوية، ولا يملك عيادة يعالج فيها أمراضهم المتفشية ويبث منها أفكاره الإنغلاقية، ولا يأتيه مال من حركات ودول يمكن توظيفه فى شراء انتماءاتهم. فالمفكر التنويري، الموثوق فى إخلاصه للوطن والحقيقة والجماهير، غالبا ما يقضى عمره فى فهم التجربة الإنسانية، لا يسعى إلى السلطة ولا يجتهد فى نسج علاقات عامة مع مسئولين، كما يأبى تقديم خدمات ديلفرى إلى رجال أعمال فضائيين. ولذا يتعين على الدولة أن تسعى إليه، أن تطلب دوره فى تنوير مواطنيها، وتمنحه القنوات التى تضمن له التواصل معهم، والأهم من ذلك، أن تفتح له عقلها وقلبها، أن تتقبل نقده العنيف لها، فهو إذ يبكيها يبكى معها، ويبكى الناس لأجلها، ولعل ذلك خيرا لها من البهلوانات المستعدين دوما لإضحاكها، وإضحاك الدنيا عليها. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم