عضو الشيوخ: التعليم في مصر بخير ونتطلع دائما للأفضل    تراجع سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه المصري في البنوك اليوم الاثنين    البورصة تربح 33 مليار جنيه في منتصف تعاملات الاثنين    وزيرة «التعاون الدولي» تصل إلى كينيا للمشاركة في قمة رؤساء أفريقيا    إزالة 22 حالة تعديات على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة بالشرقية    حزب الجيل يطالب الحكومة بتدشين حملة لتعليم البرمجيات والذكاء الاصطناعي    خبير في العلاقات الدولية يوضح دلالات زيارة رئيس البوسنة والهرسك إلى مصر    سفير الكويت بالقاهرة: زيارة مشعل الصباح لمصر تعود بالنفع على البلدين الشقيقين    عاجل.. إيقاف قيد الزمالك 3 فترات بقرار من «فيفا»    هل يقترب محمد صلاح من الرحيل عن ليفربول؟ أم الريدز متمسك به؟    عامر حسين: الكأس سيقام بنظامه المعتاد.. ولم يتم قبول فكرة "القرعة الموجهة"    «الداخلية»: ضبط 32 طن دقيق مدعم قبل بيعه في السوق السوداء    أحمد السعدني يصل إلى مسجد السيدة نفيسة لحضور جنازة المخرج عصام الشماع    «القومي لثقافة الطفل» يقيم حفل توزيع جوائز مسابقة رواية اليافعين    التضامن : سينما ل ذوي الإعاقة البصرية بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    فيلم شقو يتصدر المركز الأول بالسينما.. يحقق 807 آلاف جنيه في 24 ساعة    «الصحة»: توفير رعاية جيدة وبأسعار معقولة حق أساسي لجميع الأفراد    بشرى سارة لمرضى سرطان الكبد.. «الصحة» تعلن توافر علاجات جديدة الفترة المقبلة    قبل انطلاقها.. تفاصيل مبادرة الصحة النفسية للكشف عن التعاطي وإدمان الألعاب الإلكترونية    مسابقة المعلمين| التعاقد مع 18886 معلمًا.. المؤهلات والمحافظات وشرط وحيد يجب تجنبه -فيديو    مركز تدريب "الطاقة الذرية" يتسلم شهادة الأيزو ISO 2100: 2018    قبل الحلقة المنتظرة.. ياسمين عبد العزيز وصاحبة السعادة يتصدران التريند    الرئيس السيسي: مصر تحملت مسئوليتها كدولة راعية للسلام في العالم من خلال مشاركتها بعملية حفظ وبناء سلام البوسنة والهرسك    مصرع 42 شخصًا على الأقل في انهيار سد سوزان كيهيكا في كينيا (فيديو)    "صحتك تهمنا" حملة توعية بحرم جامعة عين شمس تقدم كشفا بعدد من التخصصات الطبية    الجندي المجهول ل عمرو دياب وخطفت قلب مصطفى شعبان.. من هي هدى الناظر ؟    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    «أزهر الشرقية»: لا شكاوى من امتحانات «النحو والتوحيد» لطلاب النقل الثانوي    استمرار حبس 4 لسرقتهم 14 لفة سلك نحاس من مدرسة في أطفيح    «العمل» تنظم فعاليات سلامتك تهمنا بمنشآت الجيزة    1.3 مليار جنيه أرباح اموك بعد الضريبة خلال 9 أشهر    الأنبا بشارة يشارك في صلاة ليلة الاثنين من البصخة المقدسة بكنيسة أم الرحمة الإلهية بمنهري    محافظ الغربية يتابع أعمال تطوير طريق طنطا محلة منوف    محمد شحاتة: التأهل لنهائي الكونفدرالية فرحة كانت تنتظرها جماهير الزمالك    صعود سيدات وادي دجلة لكرة السلة الدرجة الأولى ل"الدوري الممتاز أ"    515 دار نشر تشارك في معرض الدوحة الدولى للكتاب 33    عواد: كنت أمر بفترة من التشويش لعدم تحديد مستقبلي.. وأولويتي هي الزمالك    عرض صيني لاستضافة السوبر السعودي    فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا.. «البحوث الإسلامية» يطلق حملة توعية شاملة بمناسبة عيد العمال    ولع في الشقة .. رجل ينتقم من زوجته لسبب مثير بالمقطم    مصرع شخض مجهول الهوية دهسا أسفل عجلات القطار بالمنيا    ضحايا بأعاصير وسط أمريكا وانقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل    مؤسسة أبو العينين الخيرية و«خريجي الأزهر» يكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين.. صور    المشاط: تعزيز الاستثمار في رأس المال البشري يدعم النمو الشامل والتنمية المستدامة    أسوشيتد برس: وفد إسرائيلي يصل إلى مصر قريبا لإجراء مفاوضات مع حماس    ضربه بالنار.. عاطل ينهي حياة آخر بالإسماعيلية    خلي بالك.. جمال شعبان يحذر أصحاب الأمراض المزمنة من تناول الفسيخ    رئيس الوزراء: 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة تدهورت حياتهم نتيجة الحرب    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    رمضان السيد: الأهلي قادر على التتويج بدوري أبطال إفريقيا.. وهؤلاء اللاعبين يستحقوا الإشادة    مطار أثينا الدولي يتوقع استقبال 30 مليون مسافر في عام 2024    أمين لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب: هذا أقوى سلاح لتغيير القدر المكتوب    سعر الذهب اليوم الاثنين في مصر يتراجع في بداية التعاملات    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى مجابهة أصولى لا يخشى الحداثة بل يمتطى جوادها
الإنتقال الضرورى من مفهوم الإصلاح الدينى إلى آفاق التنوير العقلى
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 08 - 2015

تفرض علينا موجات الإرهاب الدامى، وحفلات القتل الجماعى باسم الدين، ضرورة استعادة الإسلام العظيم من قبضة التطرف اللعين.
إنها مهمة الأمس التى تأخرت إلى اليوم، ولا يجب أن تنتظر للغد.
وهى المهمة نفسها التى كان الرئيس المصرى قد أسندها إلى الأزهر الشريف قبل أشهر، عندما دعا رجاله إلى القيام بثورة على التطرف تفضى إلى تجديد الخطاب الدينى. غير أن الدعوة بهذه الصيغة (تجديد الخطاب)، وهذا التوجيه (إلى الأزهر)، قد تكررت كثيرا بموازاة موجات إرهاب سابقة، من دون تحقيق نتائج حاسمة، الأمر الذى يكشف عن إشكاليات عدة تواجهها.
أكثر هذه الإشكاليات أهمية تتمثل فى المفاهيم، وتتعلق بقضية الخطاب نفسه. فالخطاب، عموما، يعنى استراتيجية ما فى القول عن الشئ، أى نمط للافصاح الشامل عن واقع بعينه، ومن ثم فهو نتيجة مترتبة على واقع سائد بالفعل، لا يمكن تقديم صورة عنه لا تؤيدها المعطيات الواقعية وإلا افتقد الخطاب منطقه وتحول إلى محض صياغات بلاغية ومزايدات كلامية لا تقنع أحداً. ويعنى الخطاب الدينى، خصوصا، بكيفية عرض الدين أو الدعوة إليه أو الدفاع عنه ضد منتقديه، حيث يهيمن الطابع السجالى، على الأقل، إن لم يكن الطابع التبشيري. وهكذا يبقى مفهوم الخطاب الدينى مهجوسا بالآخر، خصوصا الغربى، وبتلك الرغبة الدفينة فى الدفاع عن أنفسنا فى مواجهته، وتزويق صورة التدين الإسلامى القائم فعليا لدينا، بينما المطلوب الآن لا يقل عن تجديد الفكر الإسلامى، فى مكونه القيمى والإنسانى، بإلهام المكون الإعتقادى المتسامى على التاريخ. أى تجديد (تديننا) وأفكارنا عن (إسلامنا)، وذلك عن طريق إعادة تعريف ماهية النص نفسه، قبل الولوج إلى مساءلته على مستويات مختلفة من العمق والجذرية تتوافق مع مستويات إحكامه وتساميه، تطويرا لواقعنا نحو الأفضل.
كان خطابنا الفكرى، إزاء التردى التاريخى والحضارى لمجتمعاتنا منذ مطالع العصور الحديثة، قد خضع لنزعة دفاعية واضحة حيث تعين على فقهائنا ثم مفكرينا، منذ عصر النهضة القيام بالمهمة الأولى فى نفى العلاقة بين تخلفنا الحضارى، وبين إيماننا الإسلامى، وهى قضية كبرى استغرقت بحوثا مطولة، وأنتجت تأملات على قدر متفاوت من الصواب. غير أن النزعة الدفاعية هذه استحالت، بفعل تفجر ظاهرة التطرف الدينى، وتصاعد متوالية الإرهاب الوحشي، إلى نزعة (هروبية) من الواقع إلى النص، فطالما تم اللجوء إلى رحاب النص القرآنى فى حضوره الرائق، وشفافيته العالية دفاعا عن أنفسنا فى مواجهة واقعنا، حيث طرحت القيم الجوهرية، التى تنطوى عليها الرؤية القرآنية للوجود، كالعدل والشورى وحرمة النفس الإنسانية، والتسامح مع أهل الملل والأعراق الأخرى، باعتبارها قيمنا "نحن المعاصرين"، قبل أن نستدير إلى الآخرين متساءلين: لماذا لا يفهمون ديننا؟ ألم يقرأوا هذه الآية الكريمة، وذاك الحديث الشريف؟.
وإذ نطرح هذه التساؤلات لا ندرى كم شوهنا أنفسنا، وكيف أن الصورة التى نروج لها موجودة فقط فى نصنا المقدس (القرآن الكريم أو السنة النبوية)، ولكنها غير متجسدة فينا،
حيث تترسم معالم الاستبداد فى مواجهة مثال الشورى، وتترسخ علامات الحرمان الإقتصادى والفقر والتهميش للغالبية من مواطنينا فى مقابل مثالى العدل والمساواة اللذين يرسم النص ملامحهما، ويتبدى النزوع العدمى الى العنف، فى تناقض تام مع مفهوم الرحمة، وملكة التسامح التى تسود فى النص أجواءهما وتترسم معالمهما فى التجربة التاريخية البعيدة، حيث كانت أنقى تجاربنا فى العصر الراشد. وهكذا يتبدى خطابنا عن أنفسنا محض يوتوبيا محلقة فى فضاء الزمن، موصولة بسحر الماضى، فيما تفرض علينا الرغبة الصادقة فى النهوض أن نسعى مباشرة إلى إصلاح مجتمعاتنا نفهسا، فكرا وواقعا، وليس خطابا وسجالا. وهنا يتعين علينا القيام بنقلتين فكريتين: الأولى، الأقل أهمية، من مفهوم الخطاب إلى الفكر، لدوافع أبرزناها توا. والثانية، الأكثر خطورة، من مفهوم الإصلاح الدينى إلى مفهوم التنوير العقلى، لدوافع نبرزها حالا.

النقلة الكبرى..
من الإصلاح إلى التنوير
كان الإصلاح الدينى بمثابة مهمة منطقية للنصف الثانى من القرن التاسع عشر، حيث كانت الثقافة العربية قد اكتشفت تأخرها مطلع القرن نفسه، مع إطلالة نابليون بمطبعته ومدفعه، وحضور الغرب باستنارته وعدوانيته. أعجبتنا المطبعة وما تتيحه من نشر المعرفة التى تنير عقولنا، وأخافنا المدفع وما يخرجه من بارود يقتل إرادتنا فى مواجهة العدوان على أراضينا. لقد حدث الكشف ووقعت الصدمة، وبعدها بدأ طوفان الأسئلة الذى لم يتوقف حتى اليوم.. ذهب كثيرون إلى البر الغربى وعادوا.. درس بعضهم بتمعن، وألقى بعضهم الآخر نظرات عابرة. بقى البعض ثابت العقل، وتهاوى جنان البعض. ليس مهما هنا الاستخلاصات التى قدمها الطهطاوى أو اقترحها التونسي أو دعا إليها الألوسى والشدياق أو مارسها الأفغانى والكواكبى، فهذه مما يمكن الاتفاق معه أو الإختلاف حوله، ولكن الأهم هو أن الورشة الثقافية قد دارت عجلاتها، بانتظار خروج المنتج الجديد، حيث النهضة الحضارية من دون تجاوز إيمان عظيم كالإسلام، أو ثقافة صاغت تاريخا مجيدا كالعربية.
غير أن مشروع الإصلاح الدينى، برمته، قد فشل فى تجديد الفكر الإسلامى (التقليدى) بفعل الضغط المتصاعد من قبل الإسلام السياسي (الإخوانى)، قبل أن يؤدى الإسلام الجهادى إلى انفجار التقليد الإسلامى، المفترض إصلاحه، من داخله، نتيجة لتأخرنا فى النهوض بالمهمة، مثل خُرَّاج لم يعالج فى الوقت المناسب، فانفجر فى جسد صاحبه، وصار مستعصيا على الجراحة التقليدية البسيطة، فارضا علي الطبيب استبدالها بجراحة أصعب، وهو ما يفرضه الإرهاب علينا الآن، حيث الانتقال الضرورى من مهمة الإصلاح الدينى إلى مشروع التنوير العقلى، الأكثر فعالية فى مواجهة عالم جديد مختلف.
كان الإصلاح الدينى فى طبعته الأوروبية، قد واجه عالم القرن السادس عشر، حيث المعرفة العلمية لم تتطور جذريا، والتكنولوجيا لا تكاد تتجاوز الجهد العضلى للحيوان إلا قليلا. كما واجه الإصلاح الدينى فى طبعته العربية عالما مشابها، بعد قرون ثلاثة، تعكس فارق التطور الحضارى بين شاطئي المتوسط ومن ثم كانت دعوة الإمام محمد عبده الإصلاحية منطقية فى زمانها، على العكس مما هو قائم اليوم، حيث نواجه عالما مغايرا تطورت فيه المعارف العلمية، والتكنولوجيات الراقية، وتنامى انتشارها إلى مستوى مذهل، صارت معه سلاحا تدميريا فى أيدى المتطرفين، الذين يجيدون توظيف منتجات الحداثة فى النيل من المجتمعات التى تحتضنها، ومن القيم التى تدعو إليها، كالعقلانية، والعلمانية، والتاريخية، والنسبية، والنزعة الفردية. فالأصولى الراهن ليس تقليديا منطويا على نفسه، يخشى الحداثة، ويتوجه صوب الماضى، بل متطرفا ثوريا، خرج على التقليد الإسلامى فى متنه الرئيسي الذى لم يدعى أبدا محورية الدولة فى الدين، ولم يقل قط بالخروج على الحاكم سواء الشرعى بحسب البيعة، أو حتى المتسلط بقوة الأمر الواقع، مهما يكن مستبدا أو فاسدا، لأن فى الخروج إراقة للدماء وتوليدا لمفاسد، يبقى درءها مقدما على جلب المصالح، إذ لم يشذ عن ذلك فى التقليد السنى الواسع والممتد سوى الخوارج الذين استمروا هامشا احتجاجيا على متن تقليد سائد، ولا فى التقليد الشيعى سوى أنصار ولاية الفقيه فى إيران.
والمشكلة الكبرى أن مجتمعاتنا العربية، التى لم تعرف تنويرا ذاتيا، أو تقارب متون الحداثة جوهريا، بدت تواقة دوما إلى الغرف من هوامشها التكنولوجية. والنتيجة النهائية أن تلك المجتمعات التى امتلكت من التكنولوجيا أرقاها، ظلت زراعية غالبا، ورعوية أحيانا، مغتربة عن مثل الحداثة الإجتماعية وفى قلبها الحرية الفردية. مثلما ظلت دولنا، حاضنة الاستبداد والطائفية والقبلية، مستعصية على الاندراج فى الحداثة السياسية وفى قلبها الديمقراطية. وهكذا وضعنا البنزين بجوار النار: عقل مغلق يواجه عالما مفتوحا، وعى تقليدى يمتلك منتجا ما بعد حداثى، مزاج متطرف يحوز أسلحة فتاكة، وهنا يمكن تخيل نتاجات تلك الخلطة العجيبة، بل مطالعتها بصريا وسمعيا كل يوم، بيننا وحولنا، فى عمليات القتل وحفلات التدمير، خصوصا الداعشية.
هذا الواقع، حيث الأصولى رجل ذو مشروع مستقبلى للهيمنة وإن بسلطة المفاهيم التراثية المحرفة، إنما يفرض ردا مختلفا على التحدى الذى يمثله. ربما كان الإصلاح الدينى قادرا على مواجهة أصولى تقليدى، منطوي على ذاته خوفا من العالم الحديث، من خلال عملية إعادة درس هادئة للنص التراثى، ولمخزون الفتاوى التاريخى، ولكنه لم يعد كذلك فى مواجهة أصولى عنيف لا يعبأ أصلا بالنص التراثى، إلا على سبيل التحريف البين. ولا يكترث بمخزون الفتاوى التقليدى الذى صار قادرا على إصدار ما يعطله ويزايد عليه بعد أن أحكم قبضته على الشعور الدينى العام فى البيئات الموالية له، وذلك على حساب مؤسسات الفتوى الرسمية.
ومن ثم فإن رد الفعل القادر على موازنة الفعل الأساسي، إنما يتمثل فى العلمانية السياسية لا الوجودية، وفى التنوير الروحى لا المادى، كونهما طريقين ضروريين للعيش المتمدين والنهوض الحضارى، مستقلين عن الدين، وليسا معاديين له، كما يتصور المتطرفون على الجانبين، سواء الديني أو العلماني. أما الإصرار على إصلاح تدريجى للتقليد الدينى، يهادن النص التراثى أو يستعطفه، فى وقت انفجر فيه هذا التقليد نفسه بالتطرف، وانحرف عن مساره التاريخى نحو الإرهاب، فينطوى على تعجيز للحداثة، وإهدار لطاقة المجتمعات الحاضنة لها أو الساعية إليها، وكأننا فى عراك تحمل فيه هذه المجتمعات مطواه صغيرة فيما الأصولى مسلح بالكلاشينكوف.
الفارق العملي بين مشروع الإصلاح الدينى وبين مشروع التنوير العقلى، أن الإصلاح يظل مهمة حصرية للمؤسسة الدينية وحدها أو بالأساس، كالأزهر الشريف، الذى يعجز عن القيام بها، كونه ينهض بنيويا على عقل تقليدى، يرعى المذهب الأشعرى الرافض لمفهوم السببية، أصل كل عقلانية حديثة، وأيضا لمفهوم القدرية المعتزلى، المؤسس للحرية الإنسانية والمسئولية الأخلاقية فى آن. وكونه ينتج فقهاء لاتسعفهم عقلانيتهم التقليدية، ولو فى حدها الأقصى، سوى بتفسير النص الدينى لغويا، تفتيحا لنوافذ الفتوى غالبا، ولكن من دون قدرة على تقديم نقد تاريخي له، يفتح الطريق واسعا بينه وبين حركة الواقع الدافقة، فهو بالأحرى تجديد فقهى لافكري. ولعل ذلك الفهم يجيب على سؤال مرير يتوجب طرحه الآن: لماذا عاش ورحل كل الفقهاء، والدعاة، الموصوفين بالاعتدال والراغبين فى التجديد طوال قرنين من دون أثر فعال، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن؟.
وأما التنوير فيفترض أن يكون مشروعا متكاملا للدولة المصرية برمتها، دور الأزهر فيه هو فقط إصلاح نفسه، بإعادة صياغة نظام التعليم داخله، وهى مهمة خطيرة، سنتوقف عندها لاحقا. أما الدولة فيتعين عليها إعادة بناء نظام التعليم العام والثقافة العامة ناهيك عن الفضاء السياسي كله، باتجاه العقلانية والحرية المسئولة؛ لأنها لن تحقق نجاحا يذكر فى مسعاها إلا إذا دفعت ثمنا له من سلطويتها، يتمثل فى كبح جماح تغولها على مجتمعها، والسماح بنمو مراكز قوته الفكرية والأخلاقية والسياسية خارج أسوارها هى، كما خارج أسوار المؤسسات الدينية. أما اللعبة المراوغة بإمساك العصا من منتصفها، ورفض الفصل الحاسم بين الدين والدولة، توظيفا للدين فى تأسيس أو دعم شرعية الحكم القائم، فسرعان ما ينقلب علي الدولة والمجتمع معا فى صورة تطرف عنيف، إذ طالما استمر الدين فى الساحة السياسية، فإنه يبقى عرضة للتوظيف المتبادل فى اتجاهات متناقضة، من الدولة حينا، ومن جماعات التطرف والإرهاب حينا آخر.
ولعل الأمر الذى يتوجب التأكيد عليه فى هذا السياق هو أن نجاح المهمة التنويرية، يضمن نجاح المهمة الإصلاحية نفسها، لأن الشخص المستنير، الذى اعتاد إعمال العقل، لن يخضع أبدا لسلطة فقهاء تقليديين يكادوا أن يعبدوا السلف وتراثهم، ناهيك عن الخضوع لمتطرفين دينيين يكادوا أن يفتكوا بالنص ويدمروا واقعهم، فالشخص المستنير هو مواطن جديد تماما، ودع طفولته العقلية وسذاجته السياسية، وانطلق خارجا من الكهف، محلقا نحو الآفاق الرحيبة للحياة الإنسانية.

من الأخلاق الدينية التقليدية
إلى الثقافة المدنية الحديثة
تعنى الأخلاق، جوهريا، أن نحب الفضيلة ونكره الرذيلة. أن نرفض الشر ونسعى إلى قهره، وأن نطلب الخير بديلا عنه. أن نتعرف على مصادر الظلم، لنقاومه دون هوادة، ولو فقدنا حياتنا في تلك المغامرة الفاضلة. أن نحب الحقيقة ونسعى في طلبها، وأن نعترف دوما بالعجز عن بلوغها، فلو لم نشتق إليها لفقدنا جوهرنا الإنساني، ولو ادعينا امتلاكها لقطعنا الطريق على كفاحنا الإنساني، وحرمنا أنفسنا من حكمة الطريق وأشواق الوصول. وحسب هذا الفهم يتبدى لنا أمران أساسيان:
أولهما: أن القيم الدينية الأساسية تبقى ملهمة للثقافة المدنية الحديثة، بقدر ما أن الأخيرة مكملة للأولى. فلو كانت الأخلاق الدينية بمثابة القانون المجمل، فإن الأخلاق المدنية هى اللوائح المفصلة. يبدو هذا جليا حتى فى أكثر الثقافات حداثة، فالفكر القضائي المسيحي تأثرا بالشريعة الموسوية، خصوصا الوصايا العشر للنبى موسي، والتى كانت ملهمة للتعديلات التي أدخلها قسطنطين وخلفاؤه المسيحيون في الإمبراطورية، على قانون روما الجنائي، على حد ما ذهب المؤرخ الكبير جيبون فى كتابه (انهيار الإمبراطورية الرومانية). بل ولقى هذا التأثير القضائي للشريعة اليهودية وازعا قويا في زمن الإصلاح الدينى حيث تشير مقدمة مدونة القوانين الأنجلوسكسونية إلى شريعة موسى (لأنه لا يجمل بالإنسان أن يحصل على قانون أفضل من ذلك الذي أعلنه الله). غير أن هذا التأثير الدينى الملهم لم يمنع تلك المجتمعات من تطوير ثقافة مدنية حديثة، تسحب القيم الدينية "اليهو مسيحية" على كافة المجالات الحياتة.
وثانيهما: أن مجتمعاتنا العربية تبدو فقيرة أخلاقيا، رغم استنادها إلى دينين عظيمين كالإسلام والمسيحية، يشكلان قاعدة الاعتقاد لدى أغلبية مواطنيها؛ كونها أهدرت مثالها الأخلاقى الديني الموروث، القائم على مفهوم (الضمير)، وهو مفهوم محورى فى بناء الإنسان الداخلى، يمكن له إذا ما هيمن عليه أن يجعل منه ملاكا يسير على الأرض، ولكنه مفهوم ذاتى جدا، يصعب ضبطه وتنميته أو حتى صيانته من خارج الفرد.
ولذا فعندما تتعرض المجتمعات لاهتزازات شديدة كالتى نعيشها الآن، فإنها غالبا ما تصيب الفرد بالحيرة الأخلاقية، وتربك ضميره الداخلى بين ما كان مستقرا وصار معرضا للزوال، وبين ما يتشكل من جديد، ويدور الصراع حوله بين متناقضين، على نحو يجعل الأمور نسبية، ما يدفع الفرد إلى متاهة أخلاقية، تخرج منه أسوا ما فيه، وهو بصدد البحث عن رغباته والسعى المفرط إلى تحقيقها. وفي مقابل ذبول المثال الأخلاقى الدينى، ظلت مجتمعاتنا عاجزة عن صوغ مثال أخلاقى حديث قادر على الحلول محله، ومن ثم غابت أيضا الأخلاق/ الثقافة المدنية، التى ترى فى الوطن قيمة كبرى تستحق رعايتها والحدب عليها، كما يستحق الدين من المؤمنين به تماما. بل إنها كثيرا ما أنفقت جهدها في هجاء تلك الثقافة المدنية الحديثة باعتباره قرينا شيطانيا للعلمانية الغربية، والنزعة المادية. وهكذا ظلت الشخصية العربية المعاصرة تفاخر بمثالها الموروث والبعيد، تتاجر بطقوس الماضى السعيد، فيما يبدو واقعها الملموس فقيرا مجدبا.. تردد الآيات والأحاديث عن الفضائل والقيم، وتسلك في ضدية هذه وتلك، تطلق العنان للحى وتكبح جماح الفضيلة، تطيل البنطال وتقصُر عن الصدق، ترى الظلم ولا تثور عليه طالما أن الله شهيد
على الظالم، وكيل عن المسلم في القصاص منه يوم الدين.
وهنا تتبدى لنا مفارقة كبرى تتمثل فى عجزنا عن مناصرة المظلومين منا، وضعف حس العدالة بيننا قياسا إلى غربيين يجاهرون بمعارضة بلدانهم، والدفاع عن حقوق المستضعفين فى بلدان أخرى لدرجة تكلفهم حياتهم أحيانا، رغم أن بعضهم قد يكون ملحدا. بل إن يهودية أمريكية قتلتها جرافة إسرائيلية وهى تحاول منعها من تهديم بيوت الفلسطينيين المسلمين المفترض حسب الفهم الدينى السطحى إنهم أعداؤها الدينيون والقوميون على السواء، لشعورها أنهم أصحاب حق. تفسير ذلك أن المثال الأخلاقى العلمانى يستميت في نصرة المظلوم أملا في رؤية مشهد انتصاره داخل هذا العالم، ولذا يدافع عنه بإلهام من فكر منطقي/ عقلاني، فيكون دفاعه منظما وفعالا. أما المثال الدينى، بتأثير التدين الشكلى والاغتراب التاريخى، فيُقصر جهده على تمنى الانتصار للمظلوم، مكتفيا بالدعاء على الظالم، تواكلا على القضاء، وعجزا عن تفعيل إرادة الانتصار للعدل على هذه الأرض.
ينبع اختلاف رد الفعل بين النموذجين من اختلافهما فى توصيف مشهد الصراع. ففى المثال العلمانى يسمى المهزوم (بطلا)، يقاوم الفساد أو يصارع الاستبداد (وهى معايير دنيوية تستفز إلى المواجهة). أما فى المثال الدينى فيسمى المهزوم (مظلوما) قهرته القوى الشيطانية، الحالة فى عالم يخلو من القداسة، والتى سيمحوها النور الإلهى فى النهاية.
يحفزنا إلى مواجهة الظلم فى المثال الدينى مفهوم (الضمير)، دافع الإنسان الجوهرى إلى مقاومة الشر داخل نفسه، وفى العالم من حوله. أما الحافز إلى مواجهة الظلم فى المثال العلمانى فهو مفهوم (الواجب) البسيط، الذى يدعونا إلى التصرف إزاء الآخرين بالطريقة نفسها التى نتمنى من الآخرين أن يتصرفوا بها نحونا، فإذا سلك الجميع على هذا المنوال الرائق والبسيط، صار العالم أجمل وأبدع.. أكثر عدلا وتحررا وأقل ظلما وقهرا. ورغم أن ذلك المسلك البسيط له أصل إسلامى، شق الطريق إليه حديث شريف يقول (حب لأخيك ما تحب لنفسك)، ورغم أن الحديث طالما تكرر بيننا نصا ولغة، فإنه لم يتجسد عمليا فينا قلبا وروحا، منذ غاب التدين العميق، ومعه الضمير الحى، بينما وجد مفهوم الواجب بنية سياسية (علمانية) تسنده وإطار قانوني (مدنى) يكرسه.
ولهذا أنتج مفهوم الواجب من أبطال الإنسانية فى الثقافة الغربية أضعاف ما أنتجه مفهوم الضمير فى الثقافة العربية الإسلامية. فحيث يسيطر المثال الأخلاقى العلمانى، يزدهر مفهوم البطولة، حيث البطل الإنسانى شخص إيجابى لا يذوب، كالعوام، فى وقائع حياته اليومية، محكوما بالغرائز الأنانية، ولا ينتظر كصوفى أو متدين تقليدى، ذلك العالم الآخر، حيث الزمن السرمدى الذى تتلاقى فيه المثل مع الوقائع، بل يجتهد فى تحقيق مثله العليا داخل التاريخ البشرى، مدونة الروح الإنساني، حيث الرغبة فى الخلود هى الدافع الأعظم لأكثر الأفعال الإنسانية نبلا وقيمة.
وهنا يحتل رموز الإنسانية الحديثة من قبيل الثوار الأحرار، السياسيين الكبار، العسكريين العظام، مبدعى الأدب والفلسفة، رواد الفكر والعلم، مراتب الإلهام ومصادر القوة الأخلاقية باعتبارهم أبطال العدالة وشهود الحقيقة، الذين يضحون بالصحة والمتعة وربما الحياة نفسها فى سبيل إعلاء ما يعتقدونه أهدافا أخلاقية، وغايات إنسانية، تدفع بحركة البشرية كلها على مضمار التقدم.
فى المقابل، وحيث المثال الأخلاقى الدينى الهش مهيمنا، ومفهوم الضمير معطلا، تكاد تنطمس مفاهيم البطولة الإنسانية لدينا، فيظل وعينا الجمعى يفاخر بحاتم الطائي، وعمر بن الخطاب، والناصر صلاح الدين الأيوبي، عاجزا عن إنتاج أبطال محدثين يوازونهم، اللهم إلا نادرا. ومن ثم تنمو نماذج وهمية للبطولة من طراز مستبدين علمانيين كالقذافى وصدام حسين، ملأوا دنيانا بالجهل والفقر. أو مستبدين دينيين من ذوى الجلاليب والذقون، قادونا إلى التطرف والإرهاب، أو حتى من وعاظ شعبيين، ومفتين فضائيين، صاروا يحتلون مراتب الإلهام، باعتبارهم أبطال العقل، وشهود الحقيقة فى مجتمعاتنا البائسة، التى صارت ساحتها خالية من رواد الفكر والعلم، من شهود الحقيقة وطلاب العدالة، يحيا فيها المفكر العلمانى منعزلا بلا قاعدة من الجماهير، ويعجز فيها البطل الإنسانى عن حشد المناصرين.

من حاكمية الفقيه الدينى
إلى مرجعية المفكر الحداثى
بهزيمة المشروع الإصلاحى للإمام محمد عبده، تشقق الفكر العربى إلى طريقين لم يلتقيا قط فى شخص واحد كما التقيا فى شخصه. فثمة مفكرون حداثيون أخلصوا للعقل وحده، فظلوا غرباء عن روحانية الإيمان، وإن لم يكن لديهم جرأة الإفصاح عن تصوراتهم الصادمة لعموم الناس، كما فعل نظراؤهم الأوروبيون، ليطلقوا جدلا عميقا حول مفهوم الحقيقة وحدودها، انتهى فى الأخير إلى بناء توافقات جديدة حولها، ونقاط ارتكاز صلبة للعلاقة بين العقل والإيمان فى سياقها. بل أخذوا، على العكس، موقفا مهادنا، غطى على التناقض القائم بينهم وبين الثقافة السائدة والمحافظة، على نحو جعله تناقضا سكونيا، غير منتج، وعطل الجهد الفكرى الضرورى، المطلوب بذله لبناء توافق جديد (جدلى) يدور حول الموقف الثالث الإبداعى. وهكذا انتهت معظم دعوات المفكرين الحداثيين من العرب إلى لاشئ، إذ لم يصدقهم أحد. والمفارقة أن البعض القليل من بينهم، الذى خرج على تلك القاعدة وذلك المنوال، فصرح بمواقف جديدة حقا، أو صادمة نوعا، لم يستمر فى طريقه إلا نادرا، فانتهى الأمر به فى أخريات العمر إلى الانقلاب على الذات، والتراجع عن الأفكار الثورية، تصالحا مع المألوف والسائد فى تيار الثقافة المحافظة.
هذه المراجعات ليست موضع إدانه بذاتها، ففى العودة إلى حق ظاهر، ولو بعد وقت، شجاعة لا تنال من صاحبها، ولكن ما قصدناه هنا أن غياب استراتيجية واضحة لدى المفكر، ووقوعه فى أسر ازدواجية ساكنة مغتربة جوهريا عن روحانية الإسلام العميقة، وعاجزة نفسيا عن المجاهرة برفضها أو تقديم البديل المقنع لها، والدفاع الجسور عنه، قد استنفد عمر هذا المفكر أو ذاك فى غير المعركة المقصودة، وهى ترقية ثقافة الأمة، وتحريرها من الوقوع فى براثن الثنائيات المتناقضة التى دفعت بها نحو الركود، وعطلت مسيرتها نحو الهدف المنشود ممثلا فى بناء (عقلانية مؤمنة) جامعة للأصالة والحداثة معا فى مزيج طبيعى، حيث العقل مركزيا، والنص (القرآنى) حاضرا فى مركز الفعل العقلى، معلما لا قيدا، ملهما لا معطلا.
وفى المقابل ثمة فقهاء دينيون، دافعوا عن إيمانهم، ولكنهم لم يبلغوا من العقلانية قدرا يكفى لفتح أفق النص الدينى على التاريخ الإنسانى، ومنحه القدرة على المواكبة والتجاوز. ومثلما عجز المفكرون الحداثيون عن إظهار تناقضهم مع روحانية الإسلام، عجز الفقهاء الدينيون، عن التصريح بعجزهم عن مواكبة العقل، ومسايرة حركة التاريخ، بما تفرضه من تحولات عاصفة فى المناهج والرؤى. لم يتوقف هؤلاء أبدا عن تأكيد عقلانية الإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وعلى القول بضرورة التجديد الفقهى على نحو يمكن الفكر الإسلامى من استيعاب حركة العصر، بل وذهب بعضهم إلى تجذير كل النظريات العلمية الحديثة فى آيات القرآن الكريم، نفاقا للعقل، ومزايدة على العقلانيين. ولكن تمضى السنون والعقود، حتى نكاد نحسبها بالقرون، والحال كما هو الحال إذ لم نر أى جديد.. رحل جميع المنادين بالتجديد ولم يحدث التجديد، حتى أن القضايا التى شغلت عقولنا وملأت فضاء فكرنا عند نهاية القرن التاسع عشر من قبيل النهضة والإصلاح والهوية والقومية والديمقراطية والحداثة والعلاقة مع الآخر، قد استمرت هى نفسها عند نهاية القرن العشرين، بل إنها ازدادات تعقيدا وإشكالية بنهاية العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، إذ انتقلت بين أطوار ثلاث من السلفيات المحافظة، إلى السلفيات الحركية، حتى أخذت تتمرغ فى التطرف العنيف والإرهاب العدمى. فإذا ما حاول مفكر حداثى، ذو عقل شجاع، التعاطى الجدى مع النص التراثى على منوال نصر حامد أبو زيد، مثلا، خرج عليه من بينهم من يقطع طريقه ويخنق مشروعه. لا نقول ذلك دفاعا عن رجل بين يدى الله، كان لمشروعه ما له، وعليه ما عليه، بل تبيانا لحقيقتين أساسيتين:
الأولى: أن الرجل مثل فرصة ضائعة على الثقافة المصرية، التى لو أحسنت الجدل معه طيلة عقدين مضيا على انبثاقة أفكاره المؤسسة حول: تجديد الفكر الدينى، ومفهوم النص، تطويرا لها، وتنقيحا لجذريتها أحيانا، لكنا قد وصلنا إلى موقف فكرى أكثر تقدما، بكثير، بديلا عن تلك المراوحة فى المكان حتى الآن، نعيد طرح القضايا نفسها، بينما سيف الإرهاب على الرقاب، وضجيج القنابل يعطل ملكة التأمل.
والثانية: هى الكشف عن نمط اشتغال العقل الدينى، فالفقيه غالبا ما يعجز عن إعمال العقل جوهريا فى النص، كما يرفض قيام المفكر الحداثى بتلك المهمة. والمشكلة أنه يبقى قادرا دوما على هزيمة نظيره الحداثى، وتنحيته بعيدا عن المهمة، ليس لأنه أكثر جدارة منه، بل لكونه فى موقع مركزى من نظامى: التعليم الدينى، والفتوى، تنظر إليه الجماهير باعتباره صاحب السلطة المرجعية التى يُقيِّم بمعيارها المفكر الحداثى، فكأنه هنا الخصم والحكم.
وهكذا يحتكر الفقيه عملية التجديد المنشودة، من طريق صوغ قواعدها الحاكمة، وضبط مآلاتها النهائية، وتحديد ما إذا كانت تسير فى الاتجاه الصحيح أم أنها قد ضلت الطريق؟. وبالقطع لن تبلغ طريقها القويم إلا معه، أما المفكر الحداثى، فدائما ما يهدد نقاء الدين. وهنا يكفي الفقيه، على نحو ما فعل عبد الصبور شاهين مع نصر أبو زيد، أن يعلن ذلك للجماهير الغفيرة، التى تتكفل، ربما مع السلطة أو دونها، بالتنكيل به، رغم أن دوافعه الأساسية تتمثل فى حبه العميق لتلك الجماهير، وشعوره بالمسئولية عن تحريرها من قيود العقل الخرافى، والاستبداد السياسي، فيما يتمتع الفقيه، أحيانا، بحماية هذا الإستبداد، مقابل التكريس له دينيا، ولكن الجماهير غير قادرة على اكتشاف ذلك بنفسها، ولا على تصديق المفكر إذا ما أعلنه أمامها، ومن ثم فقد انتصرت للفقيه مرارا، وأدانت المفكر تكرارا.
وهنا تكمن أهمية دعوتنا إلى التنوير العقلى المباشر، فمادام استمر الإصلاح الدينى هو الهدف، استمرت المؤسسة الدينية هى الأداة والمدخل، واستمر الفقيه الدينى هو الخصم والحكم. أما التنوير فوحده يفتح الباب أمام المفكر لطرح أفكاره حول: الدنيا، العقل، العلم، الحرية، التنمية، التقدم، النهضة، وغير ذلك من مفاهيم حديثة. فإذا ما استجابت له الجماهير، استنارت عقولها، وراكمت قدراتها الذاتية على النقد المعرفى، والتذوق الجمالى، الأدبى والفنى، فلا فن هابطا هنا، ولا تطرف دينيا هناك، ينعكس فى مظاهر سلوك مراوغة وأنماط لباس بالية، وأشكال عنف صاخبة، لا تمت للدين، بقدر ما تعكس أزمة أصحابها النفسية، وضيق أفقهم العقلى فى عالم واسع، وتاريخ متدفق.
تفرض المهمة التنويرية على الدولة موقفا رعويا من المفكر، من دونه لن يستطيع تقديم وصفته الجديدة إلى الجماهير الواسعة، فهو لا يخطب فى مسجد يلقنهم من على منبره تعاليمه الأبوية، ولا يملك عيادة يعالج فيها أمراضهم المتفشية ويبث منها أفكاره الانغلاقية، ولا يأتيه مال من حركات ودول يمكن توظيفه فى شراء انتماءاتهم. فالمفكر التنويري، الموثوق فى إخلاصه للوطن والحقيقة، غالبا ما يقضى عمره فى فهم التجربة الإنسانية، لا يسعى إلى السلطة ولا يجتهد فى نسج علاقات عامة مع مسئولين، كما يأبى تقديم خدمات ديلفرى إلى رجال أعمال فضائيين. ولذا يتعين على الدولة أن تسعى إليه، أن تطلب دوره فى تنوير مواطنيها، وتمنحه القنوات التى تضمن له التواصل معهم، والأهم من ذلك، أن تفتح له عقلها وقلبها، أن تتقبل نقده العنيف لها، فهو إذ يبكيها يبكى معها، ويبكى الناس لأجلها، ولعل ذلك خير لها من البهلوانات المستعدين دوما لإضحاكها، وإضحاك الدنيا عليها.

الدور الأزهرى
فى مشروع التنوير المصرى
الأزهر هو قلعة الاعتدال السنى.. حقيقة تاريخية، ولكنها مركبة وإشكالية. ففى مواجهة عالم حديث، تتعدد فيه مصادر التربية والتثقيف، بدا الأزهر تدريجيا عاجزا عن مواجهة الخطابات المتشددة، بل إن التشدد تمكن من اختراقه عبر العقود الماضية، فالعديد من المنتمين إلى الجماعات الدينية تخرجوا فى كلياته، شرعية وعلمية، والمفارقة أن ذوى التخصصات العلمية هم الأكثر تطرفا، لأنهم يتلقون معرفة دينية مبتورة، ومعرفة علمية تلقينية، والنتيجة المتوقعة: عقلا مشبعا بخليط من دوجمائية، ورقائق علمية، وتلك هى بالضبط مواصفات القنبلة البدائية. كما أن كثيرين من أعضاء هيئات التدريس فى الكليات الإقليمية يعتنقون فكرا متشددا يختلف كثيرا عن وسطية الأزهر، التى يجسدها خير تجسيد شيخه الجليل، وجبهة علمائه المستنيرين، الذين تعلم بعضهم فى جامعات غربية كبرى كالسوربون، وامتلكوا عقلا متفتحا، لا نظنه متوافرا لقاعدة الدارسين فى الأزهر الآن.
لنتفق أولا على مقدمة أساسية وهى أن العلم الحقيقى هو منهج الدرس، وليس محتويات العلوم التى تُدرس، فالأخيرة ليست إلا جزءا من تاريخ العلم، تعكس مراحل تطوره فى الماضى القريب أو البعيد. فالفلسفة مثلا هى منهج إعمال العقل، وليست تلك القضايا الجزئية التى احتوى عليها تاريخ الفلسفة من قبيل مفهوم المثل عند أفلاطون، والسعادة عند أرسطو، والواجب عند كانط، والمونادة عند ليبنتز.. الخ. ولهذا السبب عاش منهج هيجل الجدلى، وسيعيش طويلا بالقياس إلى جل القضايا الموجبة التى تحدث فيها الفيلسوف الكبير؛ لأن المنهج طريقة فى مقاربة الحقيقة، أما النظريات والقضايا فلا تعدو أن تكون صورة تاريخية عن الحقيقة فى زمن ما، تكشف عن طبيعة انشغالاته، ودرجة تطوره.
كما أن الفيزياء بمنزلة منهج لفهم الطبيعة، عبر قواعد تجريبية ومعادلات رياضية، وليست هى نظرية الجاذبية لدى نيوتن، أو النسبية لدى أينشتين.. إلخ. ولنقس على ذلك باقى المعارف والعلوم، حيث أدى المنهج العلمى إلى كشوفات علمية رائعة وتطبيقات تكنولوجية هائلة، ولكن ما إن تتحقق تلك الإنجازات حتى تصير جزءا من تاريخ العلم، أما المنهج فهو روح العلم المتجددة، البارحة واليوم وغدا.
حسب هذا الفهم فإن نظامنا التعليمى لم يقارب العلم جوهريا، فما يسود من طرائق التدريس واختبار الطلاب وتقييمهم، لايمت للمنهج العلمى بصلة، إذ ينهض فقط على تدوين وحفظ ظواهر العلوم، هو نمط تعليمى سيئ لعله أخطر كثيرا من الأمية، لأنه يفسد الفطرة الإنسانية، بدفعها إلى مغادرة بساطتها ونقائها إلى حيث غرورها وتسلطها. إذ بينما يمنح التعليم (المنهجى) صاحبه شعورا باكتساب صورة عن الحقيقة، فإن التعليم (التلقينى) يمنح صاحبه اعتقادا بامتلاك الحقيقة ذاتها، ومن ثم تتحول معرفته إلى إيمان، ولا يصبح لمفهوم الحقيقة أى قيمة.
وإذا كانت تلك النتيجة واضحة فى عموم نظامنا التعليمى، فإنها أكثر وضوحا فى التعليم الأزهرى، الذى صار واجبا تأسيسه على منهج تفكيكى، وطابع جدلى، يفترض تغيرا جذريا فى مفهوم (الحقيقة) نفسه من فهم إطلاقي يفضي دوجماطيقي، إلى فهم نسبي موضوعي، حيث الحقيقة متعددة ومتشابكة، والمتاح منها ليس إلا تصورات عنها، تصيب أقدارا مختلفة منها، هو فهم يتدعم بالتحولات الكبرى التى طرأت على المعرفة العلمية نفسها، فى أكثر مجالاتها منهجية ودقة كالفيزياء، خصوصا بعد تراجع مقولة الحتمية وتوارى الطموح إلى اليقين. وفى المقابل، نمو منظور لاحتمى، تولد خصوصا عن نظرية الكم التى كشفت عن الطبيعة النسبية للضوء، والعلاقة المخاتلة بين المادة والطاقة، وكذلك (مبدأ اللاتحدد) لدى هايزنبرج، الذى وشي بصعوبة القياس الصارم لسرعة ومكان الإلكترون فى الوقت نفسه، مؤكدا نسبية العلاقة بين المكان والزمان، وبالتالى نسبية المعرفة، وما تتسم به من مراوحة واحتمالية.
فى موازاة ذلك التحول فى قلب الحقيقة، من الحتمية إلى اللاحتمية، صار ممكنا للطابع النسبي أن يسود بقية جوانبها، خصوصا على الأصعدة السياسية والمجتمع. وهنا فقط يمكن أن ينتهى التطرف وتتوقف دائرة العنف. فبدلا من حقيقة مطلقة لاتتعدد، إن امتلكها شخص واحد لا يمكن لشخص آخر أن يمتلكها، حيث الجميع، عدا هذا الشخص، من أنصار الباطل أيا كان شكله: ففى الدين هو الكفر، وفى العلم هو الخطأ، وفى القيم هو الكذب، وفى السياسة هو الانحراف عبر العمالة أو الخيانة.. الخ، نصبح إزاء تجليات لتلك الحقيقة، أى صور مختلفة لها، متعددة ونسبية، يمكن للجميع اعتناقها من دون تنازع كبير بينهم.
فى هذا السياق لابد من التمييز بين نسبية الحقيقة، كمفهوم حداثى بامتياز، يقع فى قلب مكوناتها الأساسية: العقلانية والعلمانية والفردية والمادية والتاريخية، وهو ما ندعو إليه. وبين النزعة النسباوية، كمفهوم ما بعد حداثى، يرفض كل حقيقة، ويتنكر لكل ثابت، بحيث يتحول العالم معه إلى فسيفساء من المعانى التى لامركز لها. فالغاية من مفهوم نسبية الحقيقة أن تنمو النزعة الفردية، وتتمكن الشخصية الإنسانية من بلورة تصورات ذاتية عن العالم وعن نفسها،من دون تنازع كبير مع غيرها، ما يؤدى إلى سيادة روح التسامح داخل الجماعة الثقافية، إذ لم يعد هناك حاجة إلى استخدام القوة أو العنف لقمع طرف من الأطراف، مادام كان المجال مفتوحا للجميع للتعبير عن رؤاهم، والمشاركة فى تقرير مصائرهم، عبر حوار مفتوح دائما بين ذوات واعية وصولاً لأكثر الحقائق موضوعية.
أما الغاية الرئيسية للنزعة النسباوية فتتمثل فى نفى مفهوم الحقيقة نفسه، بذريعة أن تصوراتنا تنبع من أذهاننا نحن، لا من أى حقيقة خارجها، وهو ما ينفى مطلقية القيم الكبرى كالحق والخير والجمال، إذ يجعل من كل إنسان مشرعا أخلاقيا لنفسه فالفضيلة هى ما يراه كذلك، والرذيلة أيضا، ما يجعل من المثلية الجنسية، مثلا، فضيله ذاتية، وهو فهم ننأى عنه ليس فقط باسم ديننا العظيم، ولكن باسم المبادئ الكلية للعقل البشرى، وما تصوغه من أخلاق كونية وإنسانية.
يتطلب ذلك التحول المنهجى تخلى الأزهر مبدئيا عن المكون المدنى فى نظامه التعليمى، مع توظيف البنية التحتية التى كان يشغلها طلابه فى ترقية التعليم الدينى، بتوفير ساحات أرحب للحوار، وقاعات أرحب للدرس، وزيادة المقررات الدراسية الخاصة بالمذاهب والأديان الأخرى، بحيث ينتج الأزهر وعاظا وفقهاء أكثر انفتاحا على العصر، وأعمق دراية بتاريخ الدين كظاهرة إنسانية كبرى، سواء تمثلت فى أديان الوحى (اليهودية والمسيحية) أو حتى فى الأديان الطبيعة التى لا تزال قائمة فى العالم الآسيوى حتى الآن (كالهندوسية والبوذية والكنفوشية والتاوية)، فمن دون وعى الدارس الأزهرى بتاريخ الدين وفلسفته لن يكون بمكنته تقدير قيمة الإسلام الحقيقية. ناهيك بالطبع عن تقدير قيمة الأديان السابقة عليه، والتى قدم بعضها تصورات عن الحقيقة الإلهية أسهمت فى تهيئة الوعى الإنسانى لقبول التوحيد الإسلامى المطلق. كما صاغت جميعها رؤى خلقية حول كيفية السمو بالروح والسيطرة على الغرائز، أسهمت فى التأسيس لأخلاق كونية عامة، ناهيك عما دشنته من ممارسات روحية زهدية كاليوجا والقبالاة والرهبنة يسهم تأملها فى فهم ظاهرة إسلامية كبرى كالتصوف. أما الجهل بتلك الأديان، فيعوق دارس الأزهر عن التسامح العميق مع معتنقيها، أى عن تفهم إيمانهم وتقدير رؤيتهم لطرق الخلاص المختلفة التى ترسمها لهم معتقداتهم، وسيبقى لدينا، فى هذه الحال، أؤلئك الوعاظ الذين يختتمون خطبهم بالدعاء على اليهود والنصارى، ولا يرون فى اللاهوت الهندوسي، المتجذر فى كتب الفيدا الخمس، سوى عبادة البقرة، وعندها يبقى العالم منقسما إلى فسطاطين أحدهما للإيمان، والآخر للكفر، وهو التقسيم الذى يستعيره الجهاديون، بعد أن ينثروا عليه بهارات تطرفهم، ليحيلوه إلى دار سلام نسكنها، ودار حرب لابد من الهجوم عليها، قبل العودة من جديد لتطهير ديار الإسلام من المنافقين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.