الرئيس السيسي يتفقد الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية الجديدة    توريد 189271 ألف طن قمح للشون والصوامع بالشرقية    تشكيل النصر المتوقع أمام الخليج.. كريستيانو يقود الهجوم    قبل مواجهة الترجي.. ماذا يفعل الأهلي في نهائي أفريقيا أمام الأندية العربية؟    ضبط 6 أشخاص بحوزتهم هيروين واستروكس وأقراص مخدرة بالقاهرة    56 مليون جنيه إيرادات فيلم شقو في 17 يومًا بالسينمات    دار الإفتاء: 6 أنواع لحسن الخلق في الإسلام    الأوراق المطلوبة لاستخراج شهادات فحص المقبلين على الزواج للمصريين والأجانب    صوامع الإسكندرية تستقبل 2700 طن قمح محلى منذ بدء موسم التوريد    طارق يحيى: المقارنة مع الأهلي ظالمة للزمالك    وزيرة البيئة تستعرض تحديات تمويل المناخ للدول النامية خلال مشاركتها بالدورة 15 لحوار بتسبيرج للمناخ بألمانيا    استمرار حبس تشكيل عصابي لسرقة السيارات في العجوزة    «الداخلية»: تحرير 441 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1255 رخصة خلال 24 ساعة    محافظ أسيوط يتابع استعدادات مديرية الشباب والرياضة للفعاليات والأنشطة الصيفية    كوريا الشمالية تتهم الولايات المتحدة بتسيس قضايا حقوق الإنسان    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    السبت 27 أبريل 2024 ... أسعار الذهب تنخفض 30 جنيها وعيار 21 يسجل 3100 جنيه    «الصحة» تعلن جهود الفرق المركزية التابعة لإدارة الحوكمة والمراجعة الداخلية بالوزارة    مواعيد مباريات اليوم السبت 27 أبريل 2024 والقنوات الناقلة    قبل 3 جولات من النهاية.. ماهي فرص "نانت مصطفى محمد" في البقاء بالدوري الفرنسي؟    بعد بقاء تشافي.. نجم برشلونة يطلب الرحيل    حماس تتسلم رد إسرائيل بشأن الصفقة الجديدة    حزب الله يعلن استشهاد 2 من مقاتليه في مواجهات مع الاحتلال    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    نظام امتحانات الثانوية العامة في المدارس الثانوية غير المتصلة بالإنترنت    اليوم.. استئناف محاكمة المتهمين بقضية تنظيم القاعدة بكفر الشيخ    بعد جريمة طفل شبرا الخيمة.. نصائح لحماية طفلك من مخاطر الدارك ويب    تفاصيل جريمة الأعضاء في شبرا الخيمة.. والد الطفل يكشف تفاصيل الواقعة الصادم    زلزال بقوة 4.1 درجة يضرب شرق تركيا    أول تعليق من الإعلامية مها الصغير بشأن طلاقها من الفنان أحمد السقا    كيف أدَّى حديث عالم أزهري إلى انهيار الإعلامية ميار الببلاوي؟.. القصة كاملة    برج الثور.. نصيحة الفلك لمواليد 27 أبريل 2024    مصطفى قمر يحتفل بافتتاح فرع جديد من مطعمه بحضور نجوم الفن والغناء    السبت 27 أبريل 2024.. نشرة أسعار الحديد والأسمنت اليوم    «الزراعة» تنفي انتشار بطيخ مسرطن بمختلف أسواق الجمهورية    هيئة كبار العلماء: الالتزام بتصريح الحج شرعي وواجب    المقاولون العرب" تنتهي من طريق وكوبري ساكا لإنقاذ السكان بأوغندا"    "أبعد من التأهل للنهائي".. 3 أهداف يسعى لها جوميز مع الزمالك من مواجهة دريمز؟    خبير أوبئة: مصر خالية من «شلل الأطفال» ببرامج تطعيمات مستمرة    إطلاق قافلة طبية بالمجان لقرية الخطارة بالشرقية ضمن مبادرة حياة كريمة    سياسيون عن ورقة الدكتور محمد غنيم.. قلاش: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد.. النقاش: تحتاج حياة سياسية حقيقية.. وحزب العدل: نتمنى من الحكومة الجديدة تنفيذها في أقرب وقت    علي جمعة: الشكر يوجب على المسلم حسن السلوك مع الله    وزير الري: الاستفادة من الخبرات العالمية فى استثمار الأخوار الطبيعية لنهر النيل    كندا تخصص أكثر من مليوني دولار لصناعة المسيرات الأوكرانية    المتهم خان العهد وغدر، تفاصيل مجزرة جلسة الصلح في القوصية بأسيوط والتي راح ضحيتها 4 من أسرة واحدة    إسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت ومركبات مدرعة ودبابات "ليوبارد" إلى كييف    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    بعد ارتفاعها.. أسعار الدواجن اليوم 27 أبريل| كرتونة البيض في مأزق    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    يسرا اللوزي تكشف سبب بكائها في آخر حلقة بمسلسل صلة رحم.. فيديو    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجوه نصر حامد أبو زيد
نشر في أخبار الأدب يوم 30 - 10 - 2010

سوف أتحدث هنا عن نصر بمختلف وجوهه، الرجل والإنسان، المثقف والمفكر، الداعية والمؤمن، فضلاً عمّا انفرد به بين أقرانه، من ذوي العقل النقدي، أعني التداخل بين مهنته المعرفية ومحنته الشخصية.
الودود
وأبدأ بالوجه الأول. فأنا تعرفت إلي نصر، بعد أن قرأت بعض أعماله وكتبت عنه كتابة نقدية اعتراضية. ولما التقيت به لأول مرة في غرناطة عام 1998، وجدت نفسي أمام شخص ودود، له عقل واسع لا يضيق بالرأي المخالف، ولكني شعرت بأن قلبه أوسع، إذ هو أشبه بقلب طفل يخلو من الضغائن التي تفسد علاقات الود والتبادل بين النظراء.
وهذه مسألة ليست قليلة الأهمية. بالعكس إنها تقع في الصميم مما نفكر فيه وندعو إليه. فما جدوي الإبداعات الفكرية والشعارات الإيديولوجية، إذا لم نحسِن ترجمتها إلي بناء علاقات سوية، علي الأقل بيننا، نحن الكتّاب والمثقفين الذين نقدّم أنفسنا بوصفنا شهود الحقيقة أو حماة الحرية والعدالة؟
ولا أبالغ إذ أقول بأن نصر حامد أبو زيد كان في صلاته مع الناس، أو مع أهل حرفته، لا يطعن أو يغدر أو يخدع، بقدر ما كان نموذجاً في وفائه وتواضعه ونبله. لعله كان الأتقي بيننا. والتقي هو من يخشي علي غيره من نفسه.
واسع الإيمان
والكلام علي التقي يدخلني في صميم المشكلة، أعني اتهام نصر بإيمانه ودينه ورفع دعوي ضده لمحاكمته. صحيح أن الرجل رفض النطق بالشهادتين، في المحكمة، ليردّ عنه تهمة الردة والإساءة. ولكنه، وبعد أن استقر في هولندا، ليعمل أستاذا في جامعة ليدن، افتتح الدرس الأول بالبسملة، تأكيداً علي انتمائه إلي بلده ومجتمعه وناسه، بل إلي الإسلام، ولكن ليس كمنظومة فقهية تنتج فتاوي بائسة أو كاريكاتورية أو قاتلة، بل كعالم واسع ومتعدّد، مركّب وغني، باتجاهاته ومذاهبه وطوائفه وأعراقه وقواه... وخاصةً كفضاء حضاري ازدهر فيه النشاط النقدي والعقل التنويري، كما نجد لدي أعلامه، كالفارابي والرازي وابن رشد وابن عربي، ولا سيّما المعرّي الذي استبق تنويرية كانط الذي عرّف التنوير بأنه خروج المرء من قصوره وجرأته علي استخدام عقله من غير وصاية، إذ المعرّي كان يقول:
أيُّها الغِرُّ قد خصّصت بعقل فاستشره كل عقل نبي
ولهذا لا أتورع عن القول بأن نصر، لسعة عقله، كان أكثر إيمانا من شرطة الإيمان. إذ هو شأنه شأن أكثر المستقلين عن المؤسسة الدينية، ولا أقول العلمانيين، كان يقبل الجميع علي اختلاف دياناتهم وطوائفهم، بوصفهم مؤمنين أو مسلمين، كل علي طريقته أو بحسب مذهبه. هذا في حين نجد أن تنانين العقائد، لتعصّبهم وضيق عقولهم، يعاملون بعضهم البعض بلغة التكفير ومنطق الإقصاء المتبادل الذي يترجم، اليوم، بعد تراجع شعارات الحداثة، فتناً طائفية أو مذهبية تفتك بالمجتمعات وتهدّد وحدة الأوطان في غير بلد عربي.
أين الإشكال؟
أخرج من ذلك إلي ما سبّب الأشكال وصنع الإحراج في موقف نصر النقدي من النص القرآني، كما تجسد ذلك في قوله:، انه "نتاج ثقافي للمجتمع العربي في العصر الجاهلي".
مثل هذا القول قد أثار غضب السلطات الدينية التي يخشي أصحابها أن يفقدوا سيطرتهم علي الكُتَل العمياء، بقدر ما صدم العقول السادرة في إيمانها المُغلَق، والتي لا تري وسط الرؤية بالذات، بأن خطاب الوحي مصوغ، أصلاً، بلغة بشرية، ومكتوب ببيان عربي جاهلي، أي بأخصّ ما تتميّز به اللغة العربية بأبجديتها وصرفها ونحوها وبلاغتها وأساليبها في القول. ولذا كان علماء النحو القدامي، إذ أشكل عليهم فهم بعض العبارات، يقيسون كلام الله علي الشعر الجاهلي المرذولِ أصلا من النص القرآني. ممّا يعني أن ما هو إلهي، إنما يظهر بصورة محايثة، أو يتجسّد في ما هو محسوس أو عرضي أو طارئ أو متغيّر. وهذه واحدة من مفارقات الخطاب اللاهوتي.
قد يكون نصر تراجع بعض الشيء، للتخفيف من وطأة الصدمة، بقوله إن النص هو إلهي، ولكن تفاسيره أو ترجماته لا يمكن إلا أن تكون بشرية.
ولكن هذا التأويل اللاهوتي من جانبه لا يغير من الأمر الشيء الكثير، لأن النص ما أن ينتشر ويجري تداوله، يتعدّي صاحبه، لكي يصبح بمتناول قرّائه الذين قد لا يأخذون بشرح صاحبه له، وإنما يقرأون في النص ما لم يقرأه هو نفسه، ليس فقط لأن النص حمّال أوجه، بل لأنه منسوج من الالتباس والتوتر والتعارض.
الممنوع والممتنع
في أي حال، فإن ما حاوله أبو زيد، في نقده، بمفاعيله التنويرية أو التحريرية، هو خرق أسوار "الممنوعات"، من جانب السلطات، بقول ما يُمنَع قوله، أو بكشف ما تمّ طمسه والتعتيم عليه من الحقائق والوقائع، مبيّناً كيف أن ما هو مُقدَّس أو متعالٍ أو مُطلَق، إنّما يُصنّع ممّا هو دُنيوي، أو نسبي، أو يومي، أو تاريخي... والأهم أن ناقد الخطاب الديني حاول أن يبيّن كيف أن هذا الخطاب يتجاوز ما يقوله ويدافع عنه بقدر ما يحجب ما يتأسس عليه، بتحليله لشروط تشكّله وآليات اشتغاله وأنماط توظيفه، أو لكيفية تثبيت هويته وتمايزه وممارسته سلطته علي العقول.
بذلك لامس أبو زيد منطقة "الممتنعات" علي التفكير، التي لا تأتي من جانب سلطة الكاهن أو الطاغية، بل تتأتّي من داخل العقل الذي له محدوديته، بقدر ما لا ينفكّ عن تهويماته وتشبيحاته وتعمياته التي قد تتجسّد في بداهاته الخادعة أو قوالبه الجامدة أو أنساقه المغلقة أو ممارساته المعتمة... أي كل ما يشهد علي قصور العقل أو تلغيمه من داخله أو استهلاك أدواته لفوات زمنه.
من هنا فإن التنوير لا يكتمل أو يُنجَز بصورة نهائية، وإنما هو مهمّة دائمة. هذا ما تشهد به التجربة الأوروبية بنوع خاص. ولذا، نراهم، في العالم الغربي، لا ينامون علي حرير المكتسبات المعرفية ولا يغطون في سباتهم الحداثي أو العقلي. فالحداثة هي علاقة نقدية مع الذات والعقل، ثمرتها تجديد العدة المعرفية والأدوات المنهجية والاستراتيجيات الفكرية، عند كل محطة، وعلي وقع كل أزمة، كما يشهد تطور النظم المعرفية والصيغ العقلانية، من ديكارت إلي كنط، ومن هيغل إلي ماركس، ومن نيتشه إلي هيدغر، ومن سارتر إلي فوكو.
واليوم، هم أكثر، من أي يوم مضي، حذراً ويقظة، في ضوء الأزمة العالمية الراهنة التي هي أزمة الإنسان الحديث والمشروع التنويري. من هنا تخضع مختلف العناوين الحديثة للمراجعة، سواء تعلق الأمر بالاستنارة والعقلانية والحقيقة، أو بالديموقراطية والحرية والعدالة.
تنويرية بدائية
ولو توقفنا عند مفهوم الحداثيين العرب للتنوير، الموروث عن عصر الأنوار الاوروبي، نجد بأنه مفهوم طوباوي، ساذج، بل بدائي كما يقول صاحب العقل الكلبي الفيلسوف بيتر سلوترديك، لأنه يبني برأيي علي ثقة مفرطة بالعقل والإنسان.
من يجرؤ اليوم، أن يصف نفسه بأنه عقلاني، سيما في العالم العربي، بعد كل هذه التراجعات والانهيارات والكوارث؟ إن العقلانية، والحرية، والعدالة، والحداثة، ليست حقائق مطلقة أو ماهيات ثابتة، وإنما هي بنيات وشبكات وعلاقات. ولذا يصعب أن يكون الواحد تنويرياً أو عقلانياً أو حراً أو عادلاً، في مجتمع أو ثقافة تصنع الجهل والاستبداد أو والتمييز والتعصب أو الفقر والتفاوت.
ديناصورات الحداثة
أصل بذلك إلي نقطة اختلف فيها مع أبو زيد وبقية الحداثيين الذين يتعاملون مع الحداثة بصورة تقليدية، وربما رجعية. نحن نتجاوز اليوم الحداثة بموجاتها الأولي، نحو موجات جديدة من الحداثة الفائقة أو السيالة، فضلاً عما بعد الحداثة.
ولا يجدر بنا أن نفوت الفرصة، كما فعلنا من قبل. الأجدي أن ننخرط في المناقشات حول مختلف القضايا التي تستأثر باهتمام الإنسان المعاصر للمساهمة في صناعة الأفكار علي المستوي العالمي، في عصر تتعولم فيه الأفكار والأعمال، ويتحول الكتّاب والمفكرون إلي رحّالة ينتقلون من بلد إلي بلد أو من شاشة إلي شاشة.
أما القول بأنه علينا أن ننجز حداثتنا، قبل نقد الحداثة، فإنه يناقض أصلا منطق الحداثة، ويحول الحداثيين إلي مجرد ديناصورات فكرية تتخيل مستقبل العالم العربي كماضي أوروبا قبل ثلاثة قرون، كما يفعل الذين ينتظرون، بعقلية المهدي المنتظر، ظهور لوثر أو فولتير أو ديكارت أو كنط عربي يجدّد للأمة فكرها أو يصلح أمرها. لأن الحصيلة ستكون نسخا مشوّهة او كاريكاتورية عن فلاسفة الأنوار. إذ لا شيء يعود كما كان عليه من دون تحويل خلاق أو تركيب بناء.
إن الحداثة ليست مجرّد تطبيق لنماذج جاهزة، وإنما هي الاشتغال عليها والإفادة منها لاختراع نماذج جديدة تشكّل إضافة غنيّة وقيّمة للرصيد البشري، سواء في مجال الثقافة والفكر، أو في المجتمع والسياسة، أو في الاقتصاد والتنمية.
مجتمع الشبكة
أخلص من ذلك إلي مسألة أخري تتعلق بالدرس الذي يستخلص من محنة أبو زيد التي تشهد علي إخفاق مشاريع التحديث. ووجه الإخفاق لا يقتصر علي فشل الشعارات علي ارض الواقع، كما تصورها دعاة الحداثة. بل لأن الكتلة الحداثية قد فقدت فاعليتها، قياساً علي الكتلة الأصولية، دون أن يعني ذلك أن هذه تملك مصداقية أكثر من الأولي، لأن الفاعلية لا تعني دوماً المصداقية، خاصةً إذا كانت تُمارَس بصورة سلبية ومدمّرة.
والدرس هو التحرر من عقلية النخبة التي يحسب أصحابها أنهم يقبضون علي الحقيقة أو يملكون مفاتيح الحلول لإصلاح مجتمع بكامله أو امة بأسرها.
هذا وهم كبير، كانت نتائجه، سيئة أو عقيمة أو وخيمة. لنقرأ المجريات والتحوّلات: ثمّة مجتمع جديد، تداولي، آخذ في التشكّل، لا يتألف من ثنائية النخبة والجماهير. بل يتركّب من حقوله المنتجة وقطاعاته الفاعلة، بقدر ما هو شبكة تأثيراته المتبادلة وعلاقاته المتحولة.
من هنا سقوط الادعاءات النرجسية التي توهم المثقفين والمنظّرين بأن هناك فرداً قادراً علي إصلاح عالم بكامله كالعالم الإسلامي. هذا وهم كبير تصدّع علي أرض الواقع، بقدر ما ترجم تعثراً أو فشلاً وتراجعاً.
وهكذا نحن ننتقل اليوم من مجتمع النخبة حيث تسود النرجسية والمركزية، أو البيروقراطية، إلي مجتمع الشبكة الأفقي، التبادلي.. وذلك حيث كل مواطن له صلة بقيم الحقيقة والحرية والعدالة، بقدر ما هو معني بالشأن العمومي؛ وحيث كل فرد هو فاعل ومؤثر في بناء مجتمعه بقدر ما يستثمر طاقته الفكرية في حقل اختصاصه. وثمة أناس، خارج القطاع الثقافي، يستخدمون عقولهم بصورة فعالة أكثر من المفكرين والفلاسفة، أصحاب التنويرية الساذجة أو الحداثة الرجعية أو العقلانية البسيطة أو الإيديولوجية الطوباوية أو المشاريع الشمولية...
المناضل والمفكر
أنهي حديثي بكلمة عن نصر المفكر أو الكاتب. فإذا كان المصلح والمناضل قد فشل، يبقي الدارس المحلل بأعماله الفكرية ومنجزاته المعرفية.
وإذا صحّ أن دراسات أبو زيد أسفرت عن معارف جديدة وثمينة فيما تناوله من قضايا ومسائل، فإن لذلك فوائده الجُلّي، التي قد لا تظهر، بصورة مباشرة، وإنما علي نحوٍ صامت وبطيء...
وأنا لا أقول هنا مع القائلين، بأن ما قدمه أبو زيد لا يسيء إلي الإسلام، وكما كان يؤكد هو نفسه أحيانا. ما حاوله هو زعزعة أركان المرجعية الدينية بنماذجها البائدة ومعارفها المستهلكة وسلطاتها المقدسة. فدارس النص القرآني لم يكن يعمل في خدمة الإسلام، وإنما هو ناقد له، حاول فضح اللعبة ونزع القداسة عن الخطاب.
من هنا تبدو المقارنة بينه وبين بعض رجال الدين، ممن يسمون تنويريين ليست في محلها؛ لأن التنوير عند هؤلاء هو مجرد ديكور حداثي. قد يفيد من أعمال أبو زيد إسلاميون منفتحون يعملون علي تجديد المعني الديني، بتأويلات مغايرة للأصول والفروع، وعلي نحوٍ لا يكرّس منطق الفتوي وسلطة النص المقدس للختم علي العقول والأجساد.
الحاجة الي النقد
وأياً يكن فإن ما أنجزه أبو زيد تفيد منه المجتمعات العربية في إنتاج وتجديد معرفتها بنفسها وثقافتها وواقعها، وبالآخر والواقع والعالم، كما هو شأن المجتمعات الحيّة، والغنية، والمزدهرة.
ولا مهرب من النقد الذي يشكّل عيناً من المجتمع علي نفسه تُراجع وتراقب، أو تحلّل وتشخّص. من غير ذلك يسيطر الشعوذة أو التشبيح أو العماء والإرهاب.
هذا ما فعله العرب والمسلمون في عصور ازدهارهم، بحسب الإمكانات المتاحة يومئذٍ: تطوير العلوم القديمة، الموروثة عن الأوائل، وإنشاء علوم ومعارف جديدة. وهذا ما فعلته المجتمعات الغربية، مع انبلاج عصر النهضة وانفتاح إمكانيات وآفاق جديدة وهائلة أمام المجتمعات المعاصرة: التجديد المتواصل في فروع المعرفة وأنظمتها ومناهجها وأدواتها. وهذا ما تفعله الآن الدول الناشئة والصاعدة، كالصين والهند والبرازيل. لقد أصبحت قوي اقتصادية بقدر ما تحولت إلي مراكز للبحث العلمي.
عندنا يحصل العكس فالمجتمعات العربية، الواقعة تحت قبضة السلطات الدينية، بشرائحها الواسعة، من أشد المجتمعات في العالم، ممانعةً ومقاومةً، ولكن ليس للغزو الثقافي، كما يدّعون، بل لإرادة المعرفة وعمل الفهم والتشخيص، بقدر ما تشتغل بعبادة الأصول والنصوص. والحصيلة هي إعادة إنتاج الثقافة التقليدية، الدينية أو حتي الحديثة، بصورة هزيلة، كاريكاتورية، استبدادية، عدوانية؛ وهي ثانياً ما نحصده من التراجعات والانهيارات والكوارث، فضلاً عمّا نصنعه من الحروب الأهلية بمجازرها وفظائعها ومآسيها.
إزاء ذلك تبدو مطالبتنا، نحن المثقفين، بحريّة التفكير، هامشية علي أهميتها وصلتها بأزمة المجتمعات العربية. وأنا أسأل نفسي: ما جدوي أن أطالب بحريتي الفكرية فيما نحن، في لبنان، ننام علي هدنة ونفيق علي فتنة؟ كذلك الأمر في غير بلد عربي. ففي البحرين والكويت يتحوّل الصراع السياسي والحراك الاجتماعي إلي صراع مذهبي يتغذّي من الذاكرة الموتورة والعصبيات المستنفرة. وفي اليمن تعمل الحرب الأهلية المركبة علي تفكيك أواصر المجتمع. ناهيك بالعراق الذي تتحوّل فيه أعمال القتل والحرق والتدمير إلي خبز يومي. حتي في مصر تطلّ الفتنة برأسها بين الفينة والأخري، لكي تنفجر أحياناً علي شكل صراع دموي، وفي أكثر الأحيان علي شكل حرب رمزية تؤجّجها الخطابات الأصولية، في هذا المعسكر الطائفي أو ذاك. ممّا يعني أن ما يجري في العالم العربي من مخاطر وكوارث، أصبح يتجاوز شعارات ومطالب ومؤتمرات المثقفين التي باتت أساليب تقليدية مستهلكة، وربما بائدة.
ختاماً، وبالعودة إلي المناسبة، فإن قراءتي في ما مثّلته أو آلت إليه تجربة نصر حامد أبو زيد، مفكراً ومناضلاً، تعني بالدرجة الأولي أن ما تحتاج إليه البلدان، ليس نماذج الدعاة من حرّاس الهويات وديناصورات الشعارات التي تكلّست وفقدت مصداقيتها، بل أن تتحوّل إلي مجتمعات معرفة. وهذه هي مهمة الفلاسفة والعلماء والمحلّلين وسواهم من المفكرين المحترفين الذين تناط بهم عملية تجديد العدّة الفكرية، المتعلقة بأطر النظر وأدوات الفهم أو بقيم العمل وقواعد المعاملة.
أما المهمة النضالية، المتعلقة بالتغيير والإصلاح أو بالتحديث والإنماء، فإنها ليست حِكراً عليهم، وإنما هي شأن عام يخصّ العاملين في جميع الحقول والقطاعات. وإذا كان المفكرون المحترفون يملكون، بحكم مهنهم، إمكانيات وأدوات التحليل، فإن الحلول التي تتعلّق بمعالجة المشكلات أو تحسين الأوضاع أو تنمية الاقتصاد، يسهم فيها جميع الذين ينجحون في التعامل مع الأفكار والنظريات بعقل تحويلي خلاّق، بحيث تجري ترجمتها بصورة فعّالة وبنّاءة، بقدر ما يجري تطويرها أو اغناؤها بعد اختبارها في ميادين الممارسة.
فالمجتمع الحيّ، الغنيّ والمزدهر، هو الذي يساهم جميع أفراده ومجموعاته بتغييره، بقدر ما يتغيّرون هم أنفسهم، من خلال ممارستهم لحيويتهم الوجودية بكل أبعادها، المعرفية والسياسية والخلقية والعشقية. وهذا هو الرهان: أن تصبح المجتمعات العربية منتجة للمعرفة والثروة والقيمة، لكي تشارك في صناعة الحضارة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.