قد يبدو موضوعنا هذا استرجاعا لذكرى حدث تاريخي، أو أنه اليوم الخالد فى رمزية المقاومة ضد الاحتلال، ناصع البياض تزدان به لوحة الشرف فى سجل الوطنية والحركة الطلابية، شاء البعض أم أبي، تحمسا للشباب؛ أو تحفظا على اندفاعه، لأن هناك لحظات تاريخية يحتاجها الوطن، خاصة فى مواجهة الاحتلال، والتطلع إلى الحرية والاستقلال، وأيا كان الأمر، قوة الشباب أو حنكة الشيوخ، فإن التاسع من فبراير عام 1946من الأيام التى صاغها الوجدان يوما خالدا فى سجل الوطن. وبالتالى فإن كتابتنا عنه فى هذا الحيز الموجز؛ ليس إحياء للمناسبات التاريخية فحسب، وإن كان هذا مطلبا، وليس من قبيل التصفيق لبطولة؛ دون تمحيص فى معانى الوطنية؛ بما هو مستحق ، وإنما هو حدث يفرض نفسه، وحق علينا تناوله، وليس من شك فى أنه واجب وطنى وعلمى؛ وليس فقط إعلاميا أو ثقافيا، هذا الذى نتأمله، وما اشتهر تاريخيا باسم حادث كوبرى عباس. ونعود بالذاكرة إلى أن الشباب دائما وأبدا كانوا قاطرة العمل الوطني، كان ذلك فى أحداث الثورة العرابية، وببعض استثناءات قليلة ، فقد كان أحمد عرابى وصحبه فى طور الشباب ، وبرز ذلك فى أجلّ صوره فى عهد مصطفى كامل ومحمد فريد وخاصة بعد تأسيس نادى المدارس العليا، والمدارس العليا هى التى أصبح مسمُاها فيمابعد كليات، وكان من أشهرها مدرسة الحقوق، وانتهاج الحزب الوطنى النضال السرى ضد الاحتلال، رغم تحفظ بعض القوى السياسية على هذا النهج ممن اتسموا بحنكة الشيوخ ، أو ممن كانوا أصحاب المصالح. وشيئا فشيئا تطورت الحركة الوطنية ، وتجلت قمة صور المشاركة الشبابية فى ثورة 1919؛ التى جسدت بحق مفهوم الوحدة الوطنية القومية ، والانصهار فى مفهوم الوطن ، وكذلك سرت المقاطعات للجنة ملنر التى أرسلتها الحكومة البريطانية لدراسة الأحوال وسياستها فى مصر ، وشارك فيها الشباب بالدعاية للمقاطعة بجهد وافر، ولم تقتصر المقاطعات احتجاجا على اللجنة ؛ على طلاب المدارس (الكليات) المدنية، وإنما شارك فيها أيضا طلاب مدرسة البوليس، ولم يهدأ الحال مادام الاحتلال ، وتمثل فى حركات احتجاجية سياسية وحزبية وطلابية فى أحياء القاهرة عامى 1928و1929 وكذلك فى عهد حكومة صدقى عام 1932؛ حين تم فصل د.طه حسين من الجامعة ؛ واستقال رئيس الجامعة أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد احتجاجا، وأضرب الطلاب عن الدراسة تضامنا مع أساتذتهم فى مواجهة قمع الحريات ، ولم يهدأ الحال إلا بعد عودتيهما، ترسيخا لمفهوم حرية البحث العلمى واستقلال الجامعة. لقد كان الوطن يئن من وطأة الاحتلال وتنوعت مشكلاته كما وكيفا ، رغم ما يُقال عن الفترة الليبرالية، ولذا كانت المظاهرات تخفت حينا وتنشط أخرى ، وغالبا تبدأ فى العاصمة ثم تنتشر فى الأقاليم ومنها ماحدث عامى 1935 و 1936. ونعود إلى بيت القصيد ومبتغانا تذكرة بحادثة كوبرى عباس فى التاسع من فبراير 1946، وهى التى عمرت بتفصيلاتها العديد من المؤلفات ، وكان جوهرها المطالبة بالاستقلال التام ، وخاصة مع الأمل الذى كثيرا ما راود مصر بعد دخولها الحرب العالمية الثانية، وتطلعها إلى تقرير المصير، وإن كانت هناك محركات أخرى اقتصادية واجتماعية وحزبية، وبعيدا عن ألاعيب السياسة بين الوفد والقصر والاحتلال، وتغلغل نفوذ القوى السياسية بين الطلاب، فإن الشعور الوطنى العارم والتطلع إلى الاستقلال، كانت غايات نبيلة تحرك المشاعر الجياشة لدى طلاب الجامعة والقوى الوطنية، الأمر الذى دفع طلاب جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) إلى الخروج فى التاسع من فبراير عام 1946 فيما يمُكننا اعتباره مسيرات سلمية؛ اتجهت من مقار الجامعة فى الجيزة صوب كوبرى عباس ؛ على أمل اجتيازه إلى المنيل ومنه إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) حيث ثكنات القوات البريطانية ، وبالقرب منها قصر عابدين ومقار الحكم والحكومة. وكان هذا فى عهد الملك فاروق ، ورئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى الذى كان قد أعاد فتح باب المفاوضات مع بريطانيا حول الجلاء ، ولكن جاء رد الحكومة البريطانية فى 26 يناير 1946بالإصرار على بقاء قوات لها فى مصر بحجة تأمين قناة السويس، وفى ذلك صفعة للوطنيين المصريين، ومن ثم أشعل الحماس الوطنى بين جموع الشباب ، وكان طلاب الجامعة على وعى بمجريات الأمور، فعقدوا اجتماعا موسعا فى الجامعة يوم 9 فبراير1946 بناء على دعوة اللجنة التنفيذية العليا لهم ، وناقشوا حالة البلاد ، وهاجموا مبدأ الدفاع المشترك مع بريطانيا ، وطالبوا بعدم الدخول فى المفاوضات إلا على أساس الجلاء التام، وطالبوا بإلغاء معاهدة 1936، واتفاقية 1899 الخاصة بالحكم الثنائى على السودان، وطالبوا بضرورة الجلاء التام، ومن ثم حشدوا جموعهم فى أضخم مظاهرة ، بما يُعتبر تحولا نوعيا على هذا النحو ، ومعبرا عن تطور كمى ونوعى فى الاحتجاجات المُنظمة ، الأمر الذى أزعج السلطات ، وصدرت الأوامر من كبار مسئولى البوليس الإنجليز فيتزباترك باشا حكمدار الجيزة ، ورُسل باشا حكمدار القاهرة بمحاصرة المظاهرة على الكوبرى فى ذلك اليوم وفتحه والاعتداء عليهم، وتدافع الشباب فسقط بعضهم فى النيل وقُتل وجُرح أكثر من مائتين. وقد امتدت المشاعر إلى الأقاليم، فعمت المظاهرات الطلابية غالبية المدن المصرية شمالا وجنوبا وصولا إلى أسوان، وانضم طلاب الأزهر إلى جانب طلاب جامعة فؤاد الأول ، وكذلك الحركة العمالية والجماعات الحزبية واتسع نطاق الأحداث فيما يشبه الإجماع الوطني، وردّت السلطات الأمنية المأمورة من الإنجليز بعنف، وألقت القبض على أعداد منهم ، كما تمت مصادرة بعض الصحف التى كانت تنشر أخبار المظاهرات. وعلى أثر تطور الأحداث تم تنفيذ الإضراب العام يوم 21فبراير 1946، وهو الذى فيه تضامنت عدة دول مع الحركة الطلابية المصرية واعتبرته يوما عالميا للطالب، مثلما يتم الاحتفال المصرى بالتاسع من فبراير كل عام يوما للشباب المصري، باعتباره يوم شهداء الجامعة. ونلاحظ أن الشباب كان يدافع عن قضية وحق مشروع، وجل اهتمامه الدفاع عن البلاد فى مواجهة الاحتلال، وليس تخريبها أو إلحاق الضرر بأى من منشآتها؛ كما أن سلوكهم كان يتسم بقدر كبير من التحضر والوعى بالمسئولية الوطنية. وفى الختام تحية لشباب مصر الطاهر النبيل والدعاء بالرحمة للشهداء.