تعرض قانون الخدمة المدنية منذ صدوره فى مارس الماضى إلى كثير من النقد والتحليل من جانب منظمات المجتمع المدنى وبعض أوساط النخبة السياسية، إلا أنه لم يتحول ليصبح حديث الساعة إلا خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعد أن بدأ تطبيق شقه المالى ورأى الموظفون آثاره العملية على أرض الواقع فى مرتبات شهر يوليو. توالت الاحتجاجات الرافضة للقانون، وخاصة من الجهات التى تتمتع بأكبر قدر من الامتيازات المادية والتى تستميت فى الحفاظ على تلك الامتيازات. السمة العامة للحوارات المحتدمة حول القانون هى تلك الازدواجية التى تجمع بين الاعتراف بالحاجة الملحة لإصلاح الجهاز الإدارى للدولة وبين التخوف الشديد من أن تكون بنود القانون فخا يستهدف التنكيل بالعاملين. الكل يشكو من سوء الخدمة فى الأجهزة الحكومية وتعقد وطول الإجراءات والحاجة إلى تفتيح المخ ودفع المعلوم. الكل يقر بأن جهازنا الإدارى بوضعه ومستوى أدائه الحالى يوقف المراكب السايرة، ويمثل فى حد ذاته قيدا على معدلات ومستويات تنفيذ أى خطة حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الكل يتخوف من تكرار سيناريو تشريد العمالة وخراب البيوت مع المعاش المبكر والخصخصة. قانون الخدمة المدنية يركز بالأساس على علاقة الحكومة كصاحب عمل بالعاملين لديها، و تعكس مواده المختلفة السعى إلى تخفيف عبء الأجور سواء بفتح الباب أمام المعاش المبكر أو بالسعى إلى رفع إنتاجية القائمين بالعمل. القانون يفترض أن تحسين الخدمة للمواطنين سيتحقق نتيجة تفعيل المواد التى تنص على تطوير الهيكل الوظيفي، والتحديد الدقيق للاختصاصات، والاهتمام بالتدريب وتنمية القدرات للعاملين فى الجهاز الحكومي، والتأكيد على ربط الترقية بالكفاءة، وإثابة التميز فى الأداء والتميز العلمي، وإرساء مبدأ المساءلة للقيادات الإدارية، وأن الوظيفة القيادية هى تكليف لمدة محددة يتم اختيار العنصر الأكفأ لإنجازه. المسودة الأولية للائحة التنفيذية لقانون الخدمة المدنية حاولت سد بعض الثغرات وإزالة عدد من التخوفات التى يثيرها القانون وخاصة فيما يتعلق بالأجور ونظام الحوافز، والحد الأقصى لساعات العمل، ومعايير الاختيار للترقي، وحدود وضوابط الاستعانة بالخبراء، وتمثيل العاملين فى لجان الموارد البشرية فى الأجهزة الحكومية المختلفة. إلا أنه لا يزال هناك العديد من التحفظات التى يتعين تداركها سواء من خلال اللائحة التنفيذية أو بتعديل بعض بنود القانون أصلا. فلا يزال هناك تحفظ بشأن المادة 48 التى تنص على أنه إذا زاد مجموع الإجازات المرضية للموظف على 12 شهرا على مدى ثلاث سنوات، فله أن يطلب مد الإجازة المرضية بدون أجر للمدة التى يحددها المجلس الطبى المختص. كيف ينقطع أجر المريض الذى تطول مدة علاجه عن السنة؟ المنطق أن يتساوى مع حالة المرض المزمن ويستمر فى الحصول على أجره الوظيفي. لا يزال هناك تحفظ بشأن المادة 24 التى تكتفى بحظر أن يعمل موظف تحت الرئاسة المباشرة لأحد أقاربه من الدرجة الأولي. يجب أن يمتد الحظر إلى القرابة من الدرجة الثالثة، فلا يعقل أن يعمل الموظف تحت الرئاسة المباشرة لأخيه أو عمه أو خاله أو جده. إذا لم تكن هذه هى المحسوبية فماذا تكون؟ لا يزال هناك تحفظ على المادة 67 بشأن المعاش المبكر. ففى غمرة حماس القانون لتخفيض العمالة ألزم جهة العمل بالاستجابة لطلب الموظف الذى جاوز سن الخمسين ويرغب فى التقاعد. ألا تقتضى أبسط قواعد الرشادة أن تلتزم الإدارة بالتأكد من مدى توافر البديل أو الصف الثاني، ومن أن الموافقة لن يترتب عليها استنزاف الكوادر المتخصصة كما حدث فى العديد من المشروعات التى تم خصخصتها؟ ثم إنه يجب التأكيد على أن الخزانة العامة هى التى تتحمل تكلفة ذلك المعاش المبكر، وليس صناديق المعاشات التى تعانى أصلا من انخفاض الموارد. أصحاب المعاشات يعانون بالفعل شظف العيش وليسوا حمل أى استنزاف جديد لصناديق مدخراتهم. لا يزال هناك تحفظ على المادة 28 ، فمع كل الترحيب بإخضاع قيادات الإدارة العليا والتنفيذية للتقييم والمساءلة، إلا أن هذه المادة تنص على أن من يفشل فى أداء وظيفته القيادية بكفاءة يتم إنهاء خدمته! هل يعقل أن تختار شخصا تقول إنه ممتاز وكفء وترقيه على منصب قيادى فإذا لم ينجح فيه تفصله؟ ألا يعود الوزير لعمله فى الجامعة بعد خروجه من الوزارة؟ المنطق أن تلغى الترقية للوظيفة القيادية ويعود الموظف لعمله السابق. أما المادة 63 فأمرها عجيب حقا. تلك المادة تتحدث عن تأجيل ترقية الموظف الذى يخضع لمحاكمة تأديبية أو جنائية أو الموقوف عن العمل لحين الفصل فى القضية وأنه إذا اتضحت براءته يتم ترقيته بأثر رجعى من تاريخ استحقاقه للترقية ويتقاضى كامل مستحقاته المالية عنها. المفروض أن ينتهى نص المادة عند هذا الحد الذى يحفظ للموظف الشريف حقه، إلا أن الأمر العجيب حقا هو إضافة جملة تقول «وفى جميع الأحوال لا يجوز تأخير ترقية الموظف لمدة تزيد على سنتين». القضايا عندنا تستغرق سنوات ليتم الوصول إلى حكم نهائى ، فهل يعنى ذلك أنه يتعين ترقية الموظف الذى لم تتضح براءته بعد ولا يزال قيد المحاكمة نظرا لمرور سنتين؟ المؤكد أنه لا بد من التوصل إلى توافق مجتمعى حول القانون وإجراء ما يلزم من تعديلات لنصوصه . أم أن تعديلات القوانين تتم فقط للبورصجية وكبار رجال الأعمال؟ لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى