الحاجة لإصلاح الجهاز الإدارى للدولة صارت تمثل مطلبا عاما سواء من جانب المواطنين أو العاملين أو الحكومة. فالمواطنون يشكون من سوء الخدمة وتعقد وطول الإجراءات والحاجة إلى تفتيح المخ ودفع المعلوم. والموظفون يشكون من انخفاض الأجور وانعدام العدالة وشيوع المحسوبية فى التعيين والمزايا والترقي. أما الحكومة فتشكو من ارتفاع تكلفة الأجور التى تمثل وحدها 26% من إجمالى المصروفات فى الموازنة العامة للدولة، كما تشكو من تضخم العمالة وانخفاض إنتاجيتها بحيث يمثل انخفاض كفاءة الجهاز الإدارى فى حد ذاته قيدا على معدلات ومستويات تنفيذ أى خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. قانون الخدمة المدنية الجديد الذى صدر فى شهر مارس الماضى يركز بالأساس على علاقة الحكومة كصاحب عمل بالعاملين لديها، و تعكس مواده المختلفة السعى إلى تخفيف عبء الأجور سواء بتخفيض حجم العمالة وفتح الباب أمام المعاش المبكر أو بالسعى إلى رفع إنتاجية القائمين بالعمل. القانون لا ينشغل كثيرا بتحسين الخدمة للمواطنين، ويفترض أن هذا التحسن سيتحقق نتيجة تفعيل المواد التى تنص على تطوير للهيكل الوظيفي، والتحديد الدقيق للاختصاصات، والاهتمام بالتدريب وتنمية القدرات للعاملين فى الجهاز الحكومي، وتأكيد ربط الترقية بالكفاءة، وإرساء مبدأ المساءلة للقيادات الإدارية. وبغض النظر عما يؤكده بعض المتخصصين من أن مبادئ الترقية بالاختيار وتنمية القدرات والمساءلة كانت موجودة أصلا فى القانون القديم 47 لسنة 1978 وأن العبرة دائما هى بالتنفيذ الفعلي، فإن المؤكد أن هناك عددا من التحفظات والتخوفات التى تثيرها بنود القانون الجديد والتى يتعين تداركها من خلال اللائحة التنفيذية التى يجرى إعدادها. ولعل أول هذه التحفظات هو استبعاد العاملين من المشاركة فى اتخاذ القرارات المتعلقة بتطوير الجهاز الإداري، سواء تعلق الأمر بمجلس الخدمة المدنية الذى يتولى مسئولية ذلك التطوير، أو على مستوى لجان الموارد البشرية التى تدير العلاقة مع العاملين فى الوزارات والأجهزة الحكومية المختلفة، اللهم إلا فى الجهات القليلة التى توجد بها لجان نقابية تمثل العاملين. الحكومة تؤكد أن القانون يسعى لغلق منافذ الفساد، ومع ذلك فقد اكتفت المادة 24 بحظر أن يعمل موظف تحت الرئاسة المباشرة لأحد أقاربه من الدرجة الأولي. وهو ما يعنى أن الحظر يقتصر فقط على العلاقة بين الأب والابن، والزوج والزوجة. فهل يعقل إذن أن يعمل الموظف تحت الرئاسة المباشرة لأخيه أو عمه أو خاله بحجة أن درجة القرابة هنا هى من الدرجة الثانية أو الثالثة؟ وفى غمرة الحماسة لتخفيض العمالة فتح القانون الباب للمعاش المبكر، وألزم جهة العمل بالاستجابة لطلب الموظف الذى جاوز سن الخمسين (مادة 67)، ألا تقتضى أبسط قواعد الرشادة أن تلتزم الإدارة بالتأكد من مدى توافر البديل أو الصف الثانى ومن أن الموافقة لن يترتب عليها استنزاف الكوادر المتخصصة كما حدث فى العديد من المشروعات التى تمت خصخصتها؟ ثم من الذى سيتحمل تكلفة ذلك المعاش المبكر، هل الخزانة العامة أم صناديق المعاشات التى تعانى أصلا انخفاض الموارد وآثار عمليات المعاش المبكر التى واكبت عمليات الخصخصة؟ ألا تقتضى الرشادة أصلا إعادة توزيع العمالة الحكومية بين دواوين الوزارات والمؤسسات المؤدية للخدمة، وبين القاهرة والأقاليم؟ هل يعقل أن يكون 46% من العاملين فى الجهاز الحكومى بالقاهرة؟ هل يعقل أن يكون المسار الطبيعى للمدرس بعد عدد معين من سنوات الخبرة هو الكف عن التدريس والترقية إلى منصب إدارى لتتكدس المدارس والوزارة بالمديرين والوكلاء والوظائف العليا بينما تتراجع نسبة المدرسين إلى الطلبة؟ المادة المتعلقة بالإجازات المرضية فى القانون الجديد (مادة 48) تحتوى على نص عجيب يقول إنه من حق الموظف إذا زاد مجموع إجازاته المرضية على 12 شهرا على مدى ثلاث سنوات، أن يطلب «مد الأجازة المرضية بدون أجر للمدة التى يحددها المجلس الطبى المختص». أى أن الموظف الذى يصاب فى حادث ويستغرق علاجه مدة تتجاوز السنة ينقطع أجره وعليه أن يدبر حاله لحين شفائه! هناك مخاوف لدى الموظفين من أن تكون مواد القانون التى تجعل الترقية بالاختيار وفقا للكفاءة هى المدخل للمحسوبية والفساد، وهو ما يستدعى تحديدا دقيقا للعناصر الموضوعية التى يتم من خلالها الاختيار وآليات وضمانات الرقابة على القرار. أما التخوف الأكبر لدى الموظفين فيتعلق بالأجور. صحيح أن المتحدثين باسم وزارة التخطيط يؤكدون أن القانون يكفل استقرار الجزء الكبر من دخل الموظف، إلا أن الجداول المرفقة بالقانون تنبئ بانخفاض مستويات الأجر الكلى للموظفين عن مستوياتها الحالية. الكل يتشكك أصلا عندما تقول الحكومة أنه «لا مساس» بالمستويات الحالية لدخول الموظفين! انعدام الثقة فى مسألة «لا مساس» لها ما يبررها. الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة أرسل لجميع الجهات الحكومية الكتاب الدورى رقم 2 لسنة 2015 يؤكد فيه حق من يخرج على المعاش فى تقاضى المقابل النقدى عن أجازاته المرحلة حتى 12 مارس 2015 أى قبل صدور قانون الخدمة المدنية الجديد. إلا أن وزارة المالية ألزمت الجهات الحكومية بوقف دفع مقابل الإجازات لكل من خرج على المعاش منذ ذلك التاريخ. طبعا.. من أين للوزارة تدبير الأموال اللازمة؟ ألا يدرك الموظفون أن الضرائب على الأغنياء قد انخفضت وأن ضريبة الأرباح الرأسمالية قد تم تأجيلها؟ لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى