الزرع في القوصية يموت عطشا.. ولكن المياه في أيدي أباطرة يفرضون سطوتهم علي المزارعين يتحكمون في مياه الري عن طريق ماكينات لا ترحم لا تسمح بتمرير المياه إلا لمن يدفعون الإتاوات للخفر ليعيدوا إلي الأذهان مأساة فلاحي مصر في عصر ما قبل ثورة يوليو!! يستعيد الحاج محمد عبد السلام أيام الزمن الجميل عن بناء السد العالي الذي أنشئ لتنظيم مياه نهر النيل, وتكوين أكبر خزان مائي تمثل في( بحيرة ناصر) عندما بدأت الحكومة تسن قوانين, وتولي اهتماما كبيرا لعملية الري لاسيما بعد قانون الإصلاح الزراعي, وما ترتب عليه من القضاء علي الإقطاع وأعوانه, فشرعت في شق الترع والمصارف والمزاريق لاستغلال أكبر قدر من مياه نهر النيل, وتوصيلها لكل شبر من أرض مصر... بعد أن كان الباشاوات هم من يتحكمون في عملية الري, وبتفتيت أراضي الباشاوات وتوزيعها علي صغار المزارعين والفلاحين, وبانتهاء سطوتهم, بدأت تظهر فئة أخري من الناس تسمي بالخفر, كانوا يعملون عند الباشاوات لتشغيل ماكينات الري, وبعد خروج الانجليز من مصر بدأ كل واحد منهم في السيطرة علي ماكينة الري التي كان يخفرها. ويواصل عبد السلام كلامه قائلا: من هنا نشأ الصراع بين المزارعين, وبين هؤلاء الخفر, فالمزارعون يريدون أن ينتفعوا بمياه المشاريع التي قامت الدولة بشقها وتوصيلها لمعظم الأراضي الزراعية, ويصبح كل مزارع مالكا لأرضه, بعدما ذاقوا ألوان الذل والهوان علي يد الأقطاعيين, وهؤلاء الخفر يهدفون لاستغلال وضعهم القديم, ورضخ الفلاحون للأمر الواقع, وكان عزاء الفلاحين في ذلك هو أن هناك تسعيرة لعملية الري محددة من قبل وزارة الري يحتكمون إليها عند حدوث أي تعنت من هؤلاء الخفر, وكان مهندس الري بدوره وبسلطة القانون, وبالاجهزة التنفيذية كان يعيد الأمور إلي نصابها. ويلتقط خيط الحديث أحمد عيد مزارع وبلهجة حزينة يقول إن الفلاح أصبح الآن ملطشة لأصحاب المزاقي( أصحاب ماكينات الري) إذ باتوا الآن يتحكمون في كل شيء, ولنا أن نتخيل أن في بعض المناطق يصل ري قيراط الأراضي الزراعية( تخضير) إلي5 جنيهات, في حين أن هذا الري( من مشاريع الدولة) لا تزيد فيه التكلفة الفعلية علي50 قرشا لري القيراط أو أقل من ذلك, ولا يجرؤ أي مزارع أن يروي بعيدا عنهم بالرغم من أن مياه الري تمر بأرضه خوفا منهم, ومن سطوتهم حتي لا يتعرض للإهانة والتهديد!! ويشاركه الرأي سيد محمد( موظف ومزارع) متحدثا بصوت مخنوق ينم عن الظلم:( موضوع الري والمزاقي أصبح الآن في القوصية احتلالا, ونحن بالفعل رجعنا لعهد الاستعمار, وإن كان بصورة مختلفة, فما الفرق بين استغلال الإنجليز واستغلال أصحاب المزاقي, بل لقد أصبحوا أشد عنفا وشراسة من الإنجليز, ومن يعترض تصبح أرضه عرضة للتبوير والعطش!!). ويقول محمد أحمد: لقد أصبح أصحاب الماكينات يطالبون بإتاوة في ثوب هم فصلوه ليلبسه الفلاحون رغما عنهم باسم( الخفرة) والخفير قديما كان يسهر الليل, ويبيت في الخلاء خوفا من تعرض المحاصيل للسرقة, وفي أوقات كثيرة كان يلقي هؤلاء الخفر حتفهم علي يد هؤلاء اللصوص, علما بأنهم كانوا يطالبون بأجر هزيل يكاد يكفي قوت يومهم, أما الآن فقد انتهت عملية سرقة المحاصيل, وبدورها فقد انتهي عمل هؤلاء الخفر, لكنهم أصبحوا لا يقتنعون بالقليل, ويحددون هم بأنفسهم ما يرونه في أوقات قد تموت فيها المحاصيل لأي سبب كان, ومع ذلك هم يطالبون بإتاواتهم إما مالا, وإما جزءا من المحصول, ويتخيرون أفضل ما فيه ليأخذوه. وفي السياق نفسه يقول أحمد سبعاوي مزارع أصبحت عملية حرث الأرض حكرا علي الجرارات الزراعية الخاصة بأصحاب ماكينات الري, فلا يجرؤ مزارع علي استئجار جرار زراعي بعيدا عنهم ويحاسبون علي حراثة قيراط الأرض8 جنيهات, أي أن معدل حرث الأرض الزراعية لمرة واحدة يتكلف184 جنيها في الوقت الذي تقوم فيه الجمعية الزراعية بحرث الفدان بأقل من النصف, لكن لا يجرؤ مزارع علي استئجار الجرار الزراعي الحكومي خوفا منهم, وإذا فعل ذلك فهم يطالبون بأجرة حرث الأرض مرة أخري أي ب184 جنيها ولا يعنيهم أنه قام بحرثها بالفعل, ويشاركه الرأي شحاتة السيد مدرس ومزارع قائلا: لقد جاملني صاحب جرار زراعي, وقام بحرث أرض لي ثم فوجئت بصاحب ماكينة الري يطالبني بثمن الحرث مرة أخري, وعندما أخبرته أن فلانا قام بحراثتها مجاملة لي فقال ده آخر مرة تعمل فيها كده, ثم طالبني أيضا بدفع أجرة الحرث أدبا لي علي حد قوله. ويضيف سبعاوي عندما شكوت أحدهم قال لي( لو مش عاجبك هات عقد الأرض اللي اشتريت بيه علما بأن شراء الأرض كان منذ ما يزيد علي40 عاما كان وقتها ثمن الفدان يتراوح بين200 و300 جنيه وإحنا سنعطيك اللي دفعته, وكأن الأرض زرعتها ببلاش.. فهل يعقل هذا؟!). يشير شريف محمد مدير فرع جمعية رجال الأعمال بالقوصية إلي أن الأمر لا يتوقف عند حدود ذلك, بل إن المزارع أصبح أسيرا لهم, فلا يستطيع أن يبيع أو يشتري في أرضه بعيدا عنهم, وعندما يتقدمون هم للشراء فإنهم يشترون بأبخس الاسعار فلا يزيدون علي03% من ثمن الأرض, ولسان حالهم يقول( إن كان مش عاجبك بورها), وإذا فكر أحد أن يشتريها يهددونه ويقولون له أنت هتتعدي علينا وكأنهم هم أصحاب الأرض. ويدخل شحاتة السيد في الحوار بنبرة يعلوها الحزن والأسي قائلا:( مسكين الفلاح هيلاقيها منين ولا منين, من أرتفاع أسعار الأسمدة أم من زيادة أسعار التقاوي والمبيدات أم من هجوم الآفات). فالسلسلة طويلة وممتدة ووسط كل هذا تطفو مشكلة هؤلاء النفر الذين يتحكمون في مصائر وأقوات الفلاحين مما حدا بكثير منهم إلي تأجير أرضه, ولك أن تتخيل أن ما يأخذه هؤلاء أكثر مما يتحصل عليه صاحب الأرض نفسه حتي بات الجميع, وكأنه يعمل عندهم, ولم يكتفوا بذلك, بل قاموا بردم بعض قنوات الري حتي يصبح الفلاح رهينة عندهم, وينبه رجب البحار موظف بالري إلي أن صاحب ماكينة يري هؤلاء الفلاحين أسري لديه يتحكم فيهم كيف يشاء, ولكن الري لا يتدخل إلا إذا تقدم الفلاح بشكوي رسمية, وغالبا هذا لا يحدث لأسباب معروفة.