يقولون إن الحجر الواحد لا يولد شرارة, و صفحات التاريخ تشهد أن أعظم الحضارات و أكثرها تأثيرا في تاريخ البشرية لم تنغلق علي نفسها و لم تهمل معارف و لا تراث الثقافات السابقة لها أو تلك التي عاصرتها,وأن الترجمة كانت دائما العنصر المشترك في كل هذه الحضارات, حتي ليبدو الأمر وكأنها المعامل الشرطي في عمليات النهضة و تطور الفكر الإنساني. هكذا كان الحال يوم كان علي أجدادنا أن يقطعوا الفيافي والقفار لأيام و ربما لسنوات, وأن يواجهوا الأهوال قبل أن يلتقوا بغريب يتحدث بلسان غير لسانهم و يعبر عن موروث غريب عنهم. واليوم و بعد أن أصبح العالم لدي أطراف الأنامل وبات يمكن استدعاء البشر, بثقافاتهم و لغاتهم, بل وماضيهم وحاضرهم, بمجرد لمس أزرار التليفزيون أو الكومبيوتر, وبعد استشراء موجات التطرف و التعصب والجدل حول جوهر العلاقة بين الحضارات المختلفة وتبني البعض لفكرة الصراع ببين الشرق و الغرب والبعض الآخر لفكرة الحوار و تكامل الحضارات وتلاقح الثقافات, وانقسام العالم بين طرف منتج للمعرفة و التكنولوجيا الحديثة, وآخر مستهلك لها, وتنامي ثقافات كانت أبعد ما تكون عن اهتماماتنا التي حصرناها في الثقافة الغربية, بعد كل هذا وذاك, لم تعد الترجمة و قضاياها شأنا خاصا للعاملين بها أو لبعض الدوائر الثقافية المحدودة, بل وواحد ة من أهم القضايا الثقافية الملحة الآن. ورغم أن قضية الترجمة, سبق أن طرحناها من قبل وتناولتها أقلام كثيرة, إلا أننا حاولنا في هذه المرة أن نجمع بين طرفي المعادلة في آن واحد, فرصدت الزميلة فاطمة دياب في تحقيقها المنشور علي الصفحة نفسها آراء المترجمين والمبدعين وتحفظاتهم وانتقادهم لأوضاع الترجمة في مصر, والتي حملتها بدوري مع غيرها من الملاحظات التي تجمعت لدي علي مدار سنوات, ل د. محمد عثمان الخشت, أستاذ الفلسفة ومترجم موسوعة الأديان البريطانية والكتاب هو العدالة الإلهية للفيلسوف الألماني لايبز ومدير مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة للتعرف علي خطة واحد من أهم القطاعات المسئولة عن الترجمة المنظمة في مصر, لتحقيق متطلبات المرحلة الحالية. في البداية أوضح د. محمد الخشت مدير مركز اللغات والترجمة بجامعة القاهرة أن فكرة المشروع ولدت من خلال الإيمان بأن الترجمة شرط أساسي للنهضة. و أنه بالرغم من جهود الترجمة التي عرفتها مصر الحديثة منذ القرن التاسع عشر إلا أن هذه المرحلة تحتاج لجهد منظم مبني علي خطة واضحة تحدد الهدف من الترجمات التي يتم تقديمها و تضع الترجمة في إطار مشروع تحديث مصر ثقافيا علي مستوي النخب و عموم أبناء الشعب, مشيرا إلي مشكلة اهتمام بعض المشروعات بالكم لا الكيف و اقتصار البعض إما علي ترجمة الكتب الأكاديمية و النخب أو الكتب التي لا تسهم في البناء الثقافي أو المعزولة عن الواقع أو تلك التي لها دور في تغيير طريقة تفكير الناس. و استطرد قائلا: أهم مشاكلنا في مصر طريقة التفكير, فلا يوجد لدينا تفكير علمي سواء عند المثقفين أو غيرهم.و نحاول تغيير هذا الوضع عن طريق الكتب التي تهتم بالتفكير العلمي.من هنا نركز علي كتب تهم شرائح مختلفة ونحاول أن نكمل ما بدأه الرواد السابقون. ثم أردف هذه الجهود تحتاج استكمالا وتحديثا ولا ينبغي أن تتوقف وعن طبيعة عمل مركز اللغات والترجمة بجامعة القاهرة قال: إن المركز يخدم كل الجامعات المصرية و يهدف لتقديم نموذجا يحتذي به في تعليم اللغات و الترجمة علي المستوي النظري و التطبيقي لتحقيق التواصل الحضاري وتكريس مفهوم التنوع الثقافي وتوفير بيئة مناسبة للتعليم والتعلم ونقل المعارف وتأسيس منبر للإبداع الفكري وتنمية الوعي السياسي و فقه الأولويات, وذلك عبر مجموعة الأنشطة التي يقدمها المركز و التي تقسم لمشروعات ثقافية يندرج تحتها مشروع الترجمة ومشروع دراسة الغرب و نشر و ترجمة المجلات العلمية ومشروع التأليف و النشر. أما المحور الثاني فهو مشروع تنمية الوعي السياسي و يندرج تحته ترجمة الكتب و المطبوعات التي تتناول الديمقراطية و إعادة بناء الدولة وشخصية مصر. ويضيف د. الخشت: من هذا المنظور فإن المركز يتعامل مع الترجمة باعتبارها أداة لتنمية المجتمع واستعادة مكانة الجامعات المصرية من خلال قيامه بترجمة الأبحاث المحكمة باللغة العربية إلي اللغة الإنجليزية, لتحسين تصنيف الجامعة عالميا, ذلك ان أحد أهم معايير تصنيف الجامعات عالميا هو كم الأبحاث المنشورة في الدوريات العلمية الدولية باللغة الإنجليزية, والمشكلة أن لدينا إنتاجا كبيرا باللغة العربية لكنه لا يدخل في التصنيف, وبالتالي ترجمنا عددا كبيرا من الأبحاث المحكمة وساعدنا في نشرها في دوريات علمية دولية, وهذا من أحد أسباب عودتنا للتصنيف الثاني في تصنيف شنغهاي الصيني و هو يعد الأصعب. و هناك شق آخر وهو الترجمة من لغات أخري إلي اللغة العربية و قد قطعنا فيه مرحلة. وعن وجود خطة تحدد نوعية الكتب التي يتم ترجمتها و ترجمة العلوم الطبيعية, و تقديم كتب تناسب المستويات الثقافية المختلفة تحدث د. الخشت قائلا: جزء من المشروع يغطي العلوم التطبيقية و الطبيعية و لدينا7 مشروعات ثقافية بالإضافة للمهمة الأكاديمية وفيما يتعلق بمسألة الترجمة والتعريب فالمركز يركز علي اللغات غير التقليدية في مجال الترجمة, فمعظم الترجمات تركز علي اللغات الإنجليزية والفرنسية. وقد قمنا بعمل تعاقدات للترجمة من اللغات العبرية و الفارسية والصينية و اليابانية الإيطالية واليونانية لعمل نوع من التوازن بين مختلف الثقافات كله خاصة أن هنالك أمما صاعدة ثقافيا مثل الصين و اليابان إضافة للثقافة الفارسية العريقة ونفس الشيء قمنا به بالنسبة للعبرية لفهم الأبعاد والرؤي التي تحرك دولة إسرائيل. و قد تعاقد المركز علي ترجمة أكثر من30 كتابا و بالفعل هي في طريقها للصدور الآن و صدر أول كتاب في المشروع وهو مترجم من اللغة اليونانية القديمة عنوانه من الأسطورة إلي المنطق وهو كتاب أكاديمي مرجعي يعني بتحول منهج التفكير للأسلوب المنطقي.كما نعمل علي تقديم أول ترجمة عربية كاملة للتلمود. واستطرد قائلا المشروع يقدم لأساتذة الجامعة و طلابها كتبا مرجعية في التخصصات المختلفة. أضافة لتقديم المعارف العامة سواء من خلال الكتب التي تتناول قضايا تهم الناس أو عبر ترجمة أهم المقالات التي ظهرت في الصحف بلغات غير مألوفة للقارئ المصري علي صفحات مجلة الترجمان كانت والتي صدر منها العدد الأول, و الثاني علي وشك الصدور ومن خلالها نقدم أحدث المقالات المنشورة في اوروبا الشرقية و الصين والهند وغيرها من اللغات بهدف توسيع أفق المعرفة والخروج من أسر الرؤية الغربية التقليدية. وعن ضوابط اختيار النص والترجمة المترجم, قال: المعيار الأساسي أن تكون ترجمة كتب تسهم في تحقيق تراكم معرفي حول قضايا تهم الوطن وتشغل الناس وتساعد صناع القرار في مصر وتسهم في تبني طرق التفكير العلمي ونبذ الفكر الخرافي, فأهم مشاكلنا في مصر طريقة التفكير, فلا يوجد لدينا تفكير علمي سواء عند المثقفين أو غيرهم. والمركز يحاول تغيير هذا الوضع عن طريق الكتب التي تهتم بالتفكير العلمي, واستطرد قائلا: الترجمة عمل إبداعي في المقام الأول لأن المترجم الجيد هو الذي يترجم العمل كما لو كان يؤلفه باللغة العربية و عندما تقرأ النص المترجم تظن أنه مؤلف بالعربية. المشكلة التي تواجه كثيرا من الترجمات, وبالذات الترجمات اللبنانية و كثيرا من المصريين والمغاربة أنهم يترجمون حرفيا و عندما تقرأ هذه الترجمات لا تفهم شيئا, وهذه تجربة مررت بها أنا شخصيا فعندما أرجع للكتاب بلغته الأصلية أجده مفهوما عن المترجم, وهذا لأن المترجم لا يقوم بدوره و لا يفهم المصطلحات أو يظن أن الأمانة هي النقل الحرفي و تجاهل أن لكل لغة طبيعتها و تركيبتها الخاصة المختلفة عن اللغة العربية. وهذا ما كان يفعله د. زكي نجيب محمود فلم يكن يترجم حرفيا ولكنه كان يترجم بالمعني وهذا يجعلك تشعر أن الكتاب مؤلف وليس مترجما. الترجمة عمل إبداعي ولا ينبغي أن يقوم به أي شخص. المترجم الجيد ليس هو من يعرف فقط اللغة, لابد أن يكون علي ثقافة واسعة و اطلاع علي العلوم بالإضافة لتمكنه الشديد من اللغة العربية وثقافتها, وضماننا أن. المشرف علي هذا المشروع شيخ المترجمين العرب د. محمد عناني و له مدرسة في الترجمة, إضافة لوجود لجنة خاصة تقوم بمراجعة النص و ربما تقوم بإعادة تحريره, مع ملاحظة أن المركز يهتم بالكيف لا الكم و أن عددا من مترجمينا لا ينتمون للجامعة المصرية ونتعاقد مع أي مترجم يمتلك أدواته الصحيحة. و عن أماكن بيع هذه الكتب وأسعارها قال الكتاب بسعر التكلفة لأننا مركز غير هادف للربح و يتبع الجامعة المصرية, والمشروع ممول ذاتيا من المركز دون أي دعم خارجي و الكتب موجودة في منافذ بيع بالجامعة و إن كنا الآن بصدد التعاقد من خلال موزعين كبار الأهرام أو الأخبار أو الجمهورية, لأن مسألة التسويق والتوزيع محتاجة حرفيات. واختتم د. الخشت حديثه بقوله أي نهضة فكرية في أي مرحلة تاريخية لابد أن تبدأ بالترجمة وهذا ما نلحظه في كل مراحل تطور الحضارة, للأسف نحن في العالم العربي والإسلامي لانزال نتحدث عن تأثيرنا في الغرب في حين أن الدورة الحضارية انتهت والآن نحن لا نتعلم من الغرب وحده, فهناك حضارات أخري غير الغربية تفوقت عليها, كالحضارة الصينية واليابانية و الفارسية و لذلك ففي مركز الترجمة نتوجه أكثر نحو الحضارات المهمشة.لقد عشنا طويلا في ظل الحضارة الغربية و صدقنا أنها الحضارة المركزية وأنها محور العالم و غاية التاريخ وهذا مجرد ترويج سياسي استعماري يفترض أن الحضارة الغربية هي الحضارة الأساسية لكن الإنسانية تتكامل من خلال عدة حضارات لها تاريخ طويل جدا و هذا ما نحاول أن نطرحه عبر مشاريع المركز. [email protected]