يحاول الدكتور سيار الجميل المؤرخ العراقي المعروف قراءة التاريخ بشكل عام والتاريخ الأمريكي عبر نظرية الأجيال التي تفسر التاريخ بعيدا عن دور الفرد وهي فكرة ديمقراطية لا تتنكر لدور الفرد الزعيم في صياغة التاريخ او صناعته:لكنها تحاول وضع هذا الدور في إطاره التاريخي المستمد من مجايلته لتيارات سياسية وثقافية واجتماعية صنعها الجموع او التيار العام وأعتقد ان النظرية التي يستخدمها الدكتور سيار ربما تصلح وهذا اجتهادي الخاص في قراءة الأجيال في أوروبا والولاياتالمتحدة لأن للجيل رؤي وبالتاريخ مساحة هائلة من التعدد رغم إيماني العميق بقدرات افراد كبار لعبوا أدوارا بارزة في صياغة المشهد السياسي في اوروبا مثل تشرشل وديجول وفي الولاياتالمتحدة مثل ابراهام لنكولن اما عندنا فالتاريخ او بالأحري قراءة التاريخ تبعية مطلقة للمطلق الديني الذي يجعل من التاريخ انهيارا دائما من الحسن الي السييء أو المطلق السياسي الذي يجعل التاريخ حنينا دائما لزمن مضي يسمونه الزمن الجميل او قراءة صفرية تبدأ من نقطة الصفر مع كل زعيم أو كل مرحلة في التاريخ الزمن الجميل هو الزمن الحقيقي الذي شاركت في صنعه الأجيال بتر اكم معارفها وسلوكها الجمعي في لحظة التاريخ. سيار الجميل مؤرخ عراقي متفائل وربما يكون ذلك طابعا مشتركا لدي المؤرخين لأنهم منذورون للقراءة الخاصة والعميقة لمجري الأحداث بعيدا عن انفعال السياسي او رعشة الصوفي حين تأخذه الجلالة ولكني لاحظت أن تفاؤله يذهب بعيدا عن حياد المؤرخ عندما يتحدث عن العراق فهو يتحدث عن الوطن بلغة المؤرخ والابن والصوفي ويعلن بكل ثقة ان العراق الذي يراه الكثيرون مقسما ومنشطرا عصي علي التقسيم. واللافت ان هذه كانت جملته لي ردا علي سؤال طرحته عليه منذ سنوات خمس وقد قالها لي وهو يعلن ميثاق الإقامة في حجر والولاية والعهد لعراق حر رغم كل ما يحدث واليوم عندما طرحت السؤال نفسه عن العراق الذي أحبه ويحبه كل عربي قال الرجل برعشة الصوفي ونبرة الباحث الواثق في دروس التاريخ أن العراق عصي علي التقسيم. وأتمني أن أصدق الدكتور سيار وأتبع ظل تفاؤله رغم تشاؤمي الشديد. ورغم تفاؤل الرجل بمستقبل العراق تراه غاضبا كمؤرخ من صدام حسين الذي رحل من دون أن ينطق بالأسرار الكثيرة التي يعرفها ولم ينطق بحرف أمام المحكمة التي قضت بإعدامه. ويري الجميل أن الكذبة الامريكية الغبية حول اسلحة الدمار الشامل العراقية كان لها أب عراقي في الكذب المدعي حول الكيماوي المزدوج. لقد اتفق العراق وامريكا, كل علي طريقته في الكذب, حول فرية أسلحة الدمار الشامل والتي يري الجميل أنه لو كان العراق يمتلكها فعلا لما أقدمت أمريكا علي التورط في المنزلق العراقي. نال الدكتور الجميل جائزة السلام الدولية ويعيش حاليا في كندا ملامسا للواقع الأمريكي اوالتاريخ الأمريكي وهو يتشكل ولذلك سيكون الحوار معه في إطار قتل أمريكا فهما في محاولة جادة لقراءة سفر التاريخ في الولاياتالمتحدة عبر نظرية الأجيال. وهذا نص الحوار: نظرية الأجيال * هل لك أن تشرح للقاريء بعض ملامح نظريتك في التأريخ والخاصة بالمجايلة التاريخية ؟ ** إنها رؤية فلسفية ومنهجية وتحقيب جديد للتاريخ يقوم علي أساس تقسيم الزمن التاريخي علي اساس الوحدات الكلية والوحدات الجزئية وتقوم النظرية بتوضيح حسابات المنهج الكمي في معاني جملة كبيرة من المفاهيم والمصطلحات, مثل: الأحقاب والعصور والفترات والعهود والعقود.. وتعتني بذلك من خلال سلاسل الأجيال بالامتداد الحلزوني لحركة التاريخ من خلال الوحدة الجزئية30 سنة وهو عمر الجيل الواحد ومن خلال الوحدة الكلية300 سنة حاصل جمع عشرة أجيال وهو عمر العصر التاريخي وعليه, فإن التاريخ الميلادي مر إلي حد الآن ب67 جيلا( أي بسبعة عصور) .. اما التاريخ الإسلامي, فلقد مر الي حد الان ب47 جيلا وسيختتم العصر الخامس نفسه عند نهاية القرن الواحد والعشرين.. والمجايلة نحت لغوي من( جيل) الاسم( وجايل) الفعل. وتعني باختصار: تسلسل الأجيال وعلاقتها ببعضها البعض, فكل جيل يتكون في رحم الجيل الذي سبقه, فإذا عرفنا ان متوسط عمر الإنسان عبر التاريخ هو قرابة ستين سنة, فإن حياة الإنسان تنقسم إلي قسمين أساسيين, أولهما للتكوين30 سنة وثانيهما للإنتاج30 سنة, وعندما يتسلم الجيل مقاليد التاريخ يكون الجيل الذي سبقه قد غادر مكانه.. وربما تحدث استثناءات في حياة الإنسان لكي يبقي, مثلا, ويعيش حتي التسعين, ولكن كل ما ينضاف علي حياته لما بعد الستين, لم يحسب حسابه إلا علي الجيل الذي عاش فيه.. وبتواضع اقول إنني قد صرفت علي هذه النظرية قرابة عشرين سنة من حياتي وانطلقت بها من فكرة قالها ابن خلدون عن عمر الدولة الاعتيادي المقدر ب120 سنة, ولما كتبت بحثا علميا لواحد من المؤتمرات في منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي بدأت استكشف أشياء تثبت صحة الافكار التي بدأت تتبلور عندي يوما بعد آخر.. ولما أسعفني الكمبيوتر من خلال ثلاثة برامج في احتساب الميلادات والآجال وحساب أعمار التكوين والإنتاج في دراسة تطبيقية دقيقة علي السير والترجمات والأنساب والوفيات لأعداد هائلة من العلماء والأدباء والفقهاء والأطباء وكل المثقفين عبر تاريخنا الحضاري.. هالتني مصداقية ما رحت افكر فيه منذ العام1980, ولم اكن وقت ذاك قد حصلت علي دكتوراه الفلسفة في التاريخ, والتي حصلت عليها عام1982 في بريطانيا.. ولم أترك النظرية مجرد افكار ورؤي, ولكنني قدمت جملة تطبيقات وتجارب عليها, وتوصلت الي عدة معان جديدة, فضلا عن جملة من التحديدات عبر مقاييس ومقارنات مثبتة.. ولقد حاولت أن أطبق النظرية علي مجمل دراسات وبحوث لي مما جعل استنتاجاتي دقيقة, بل وإنها منحتني فرصة ثمينة في ان أحكم علي الأشياء, وان أجد ما أطلقه من التوقعات يكاد يكون مجال الصحة والصواب فيه كبيرا جدا.. ان المنهج الذي اتبعته في البحث والقياس والمقارنات والجدولة والحسابات والتفكير هو المنهج الرؤيوي الذي كنت قد حددت ملامحه كمشروع بحث في أول كتاب صدر لي في العام1989 عنوانه: العثمانيون وتكوين العرب الحديث: من أجل بحث رؤيوي معاصر بيروت: مؤسسة الابحاث العربية1989, ولكن هذه النظرية المتواضعة تضمنها بشكل موسع كتابي الموسوم المجايلة التاريخية: فلسفة التكوين التاريخي الذي صدر في عام1999 أي عند نهاية القرن العشرين. * تقول بالمجايلة التي تمتد إلي حوالي30 سنة لكل جيل بينما هناك من يقسم والتاريخ الي المجايلة الصغري إن صح لتعبير والتي تمتد إلي10 سنوات فقط ولذلك نري حديثا عن جيل الستينيات مقابل جيل السبعينيات او الثمانينيات الخ فما الفارق بين الرؤيتين لقراءة التاريخ ؟ ** ليست هناك نظريات أبدا تقسم العالم أو التاريخ إلي أن يكون عمر الجيل10 سنوات فقط, وما تسمعه وأسمعه في الثقافة العربية الصحفية الأدبية والرياضية خصوصا منذ أربعين سنة استخدام عمر العقد الزمني( يساوي10 سنوات) وإطلاقه علي جيل كامل. أستطيع القول بشكل مؤكد ان عمر الجيل, وكما ثبت بشكل علمي اليوم هو30 سنة, وهذا ما قال به كارل مانهايم أيضا والذي أطلقه من دون أن يثبت ذلك, ومن قبله وقبل ستمائة سنة بالضبط قال ابن خلدون بأن عمر الجيل هو40 سنة.. وأعتقد أن الاثنين علي صواب, فالمسافة التاريخية التي تفصلنا عن ابن خلدون تجعلنا نقول بأن الجيل قد اختزل عمره اليوم إلي ثلاثين سنة.. وأتوقع ان ستمائة سنة قادمة ستختزل أيضا من هذه الثلاثين التي أقررناها بشكل جازم. أما ما تسمعه من نقاد وكتاب وصحفيين باستخدام جيل العقود الزمنية فهو يتنافي مع قدرة الجيل علي ان يعبر عن نفسه تعبيرا منتجا كاملا, فالإنسان تتجلي قدراته الإبداعية ومنتجاته المؤثرة في ثلاثين سنة علي الأقل وليس بعشر سنوات, أي: بين الثلاثين وبين الستين من العمر, وإلا كيف تفسر لي حالات شعراء وأدباء وفقهاء وأطباء وقضاة ومثقفين.. الخ, وإلي أي جيل ينتمي الشاعر نزار قباني او الشاعر عبد الوهاب البياتي او الشاعر صلاح عبد الصبور هل ينتمون إلي جيل الخمسينيات ام إلي جيل الستينيات أم إلي جيل السبعينيات ؟ إنهم ينتمون إلي جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية, أي جيل ما بعد1949 ؟ * هل هناك فروق واضحة الي هذا الحد في العملية التاريخية تسمح لنا أن نقسم العالم إلي أجيال أم إن من طبيعة التاريخ التداخل بين الأجيال بحيث لا توجد لحظات فارقة إلا في استثناءات نادرة؟ ** لقد اكتشفت ان التاريخ البشري هو كتلة بنيوية واحدة, وهو يخضع لقوانين ربما لا نلحظ وجودها نظرا لأننا ومن سبقنا مجرد عابرين ليس إلا لهذا العالم عبورا بسيطا! إن العملية التاريخية جد معقدة, ولا يمكن لأي عابر سبيل أن يفتي بها, وثمة فلاسفة للتاريخ قد ظهروا منذ كونفوشيوس وصولا إلي أرنولد توينبي وانتهاء بميشيل فوكو, وكلهم لم يكتشفوا من أسرار هذه العملية التاريخية إلا النذر اليسير ومن المعلوم إن مئات بل آلاف المؤرخين لا يمكنهم أن يضطلعوا بهكذا مهمة, لأن عملهم ينحصر في سرد الأحداث التاريخية وتحليلها, ولكن هناك بضعة فلاسفة للتاريخ لا عمل لهم إلا دراسة الظواهر التاريخية الكبري والصغري, وهم يقفون من حين لآخر علي ما وصفتها ب استثناءات نادرة كي يعترفوا, بأن ثمة قوانين تحكم هذه الطبيعة التاريخية عبر العصور.. ومايعرف الي حد اليوم هو بسيط جدا لأن عمر الحضارات البشرية قاطبة لا تساوي شيئا امام عمر الارض والمنظومة الكونية كلها. عندما رصدت مثلا في دراستي لسنوات طوال سنوات الولادات البشرية, اكتشفت ان هناك عناقيد هائلة من الولادات عند سنة معينة وما يقاربها من السنين ويصيبني الذهول كرة اخري وانا اري عناقيد اخري بعد ثلاثين سنة من الاولي, وما حولها من السنين! وهكذا بالنسبة لظاهرة الاجال( الوفيات) بعد رصدي لها اثر دراستي للسير والتراجم.. ولا يمكن للحسابات الالكترونية ان تخطئ في عملية احتساب ارقام هذه الظاهرة.. وثمة ظاهرة اخري تتعلق بالمكان والعلاقة البونية بجيل معين او مجموعة اجيال.. وهكذا, صحيح ان من حق المرء ان يتساءل عن كيفية تأسيس هذه المحددات, خصوصا, وان النظرية برمتها تقوم علي محددات العنصر الزمني والعلامات الفارقة لسلاسل الاجيال وعلي البعد الثالث في نسبية الاشياء.. ولكن التطبيقات تفسر لنا العملية برمتها. فالعلامات الفارقة هي التي تدعم النظرية لا اللحظات الفارقة وان كل التحقيب التاريخي وتقسيماته لا يمكنه ان يؤسس نفسه الا علي المعلومات والرؤية الدقيقة للمحددات علي اساس التطبيق, اذ سيتعرض للانكسار ان قام علي مجرد وجهات نظر وتصورات وانشائيات عادية لا اساس لها من دقة محددات التاريخ. * ماهي اللحظة التاريخية الفاصلة أو الحاسمة وماهي طبيعتها وكيف للمؤرخ ان يلتقطها ؟ ** اللحظة الفاصلة شئ والعلامة الفارقة شئ آخر.. اللحظة التاريخية الفاصلة هي التي لا يمكنها ان تنحصر بيد المؤرخ فقط, بل انها ملك لقائد البلاد والقائد السياسي ورئيس المحكمة وصانع القرار ورب الاسرة وقائد الرحلة وقائد الفريق وقائد المعركة.. الخ انها تتعلق بقدرة الانسان علي ان يكون معها في حالة اندماج ليوظفها في اصدار أي قرار او حكم او بيان او اجراء من اجل تغيير او تأسيس.. نعم, ليغير وليؤسس او يفصل او يحسم او يوقع.. ومن السهولة جدا علي مؤرخ الاحداث ان يلتقط اللحظة التاريخية الفاصلة ليبدأ منها او ينتهي عندها.. ولكن من الصعب جدا علي مؤرخ الظواهر ان يؤسس مشروعا, او يكتب بحثا, او يطرح نظرية.. وهو لم يكتشف العلامات الفارقة التي تمكنه من الدفاع عن كل ما يقدمه الي العالم, فالظاهرة كبيرة جدا والوقائع صغيرة جدا. واذا كان المؤرخ الاول تحكمه عوامل الزمن والمرحلة والمكان والبيئة وحياة العصر.. فان المؤرخ الثاني لا تحكمه هكذا عوامل, فهو يدرك سيرورة التاريخ الانساني ومنعطفاته واحجامه وخطوطه والوانه وكل ما يتعلق بجزئياته او كلياته. * أهم ما في نظرية المجايلة برأيي أنها تضع دور الفرد في صناعة التاريخ في إطاره الصحيح لان الاعتماد هنا علي التيار الفكري أو السياسي او الاقتصادي السائد في مرحلة تاريخية معينة وليس علي دور القائد الملهم؟ ** صحيح, انها تعتني بهذا المجال, وانها تضع دور الفرد في صناعة التاريخ باطاره الصحيح.. ولكنها ايضا من جانب آخر تعتني في ما عدا الافراد بالنخب والفئات والطبقات والجماهير.. انها تعتني بالموروثات التي ينقلها جيل الي آخر من خلال تبدل النخب والفئات حسب تسلسل الاجيال, ولكن النظرية تحدد اطار كل طرف, فالأفراد هم الذين يؤثرون في سيرورة الحياة والتاريخ حتي وان كان بعمل واحد, والطواقم هي التي تمتلك مشروعات للتاريخ, والنخب هي الجماعات التي تتمايز تاريخيا.. والفئات هي التي تتحرك سياسيا واجتماعيا ونقابيا وحزبيا في التاريخ.. والجماهير هي التي تصبغ كل تاريخ بصبغتها في صنع ثورات او انتفاضات او حملات او حروب.. الخ وكل هذه التصنيفات هي مرحلية كونها جميعا قابلة للتغير كل ثلاثين سنة حسب سلاسل الاجيال. ولكن لابد ان اذكر هنا, واعيد القول من جديد, بأن ثمة فوارق بين سمات العهود حسب سلاسل الاجيال, فان شهد عهد سياسي معين نضوجا حضاريا لا يستوي وتفاهة ذلك العهد سياسيا, فلا يمكن القول ان ذاك العهد قد انتج ابداعا حضاريا, او ان يقترن ذلك العهد السياسي بالنضوج الحضاري, ذلك لأن الجيل الذي انتج ذلك الابداع كان قد تكون وتأسس في عهد سابق, أي: لثلاثين سنة سبقت, اذ ان تكوين جيل تكوينا قويا علي عهد سياسي معين سينتج ابداعا في ثلاثين سنة قادمة ولكن ربما في ظل عهد سياسي آخر, ربما يكون جائرا!! واستنتج ان نظرية المجايلة تضع دور الفرد والجماعة والنخب والفئات وحتي الجماهير في الاطار الصحيح, ولكن النظرة العامة تكاد تكون عمياء في اعطاء كل عهد من العهود حقه التاريخي.. وسيكتشف الانسان مع تقدمه الحضاري بأن ما يزرعه بطل في التاريخ ابان مرحلة جيل, سيؤتي اكله وثماره في مرحلة تالية, وعلي عهد غيره بالتأكيد, فيقطف هذا الاخير ثمار من سبقه.. ودوما ما يغيب التاريخ الشرقي جهود الحكام السابقين, وان يظهر الحكام اللاحقين كل الثمرات باعتبارها من ثمار عهدهم رياء وكذبا وبهتانا.. وهذا ما نلحظ وقوعه في اكثر البلدان العربية ابان العصور الوسطي وفي تضاعيف العصر الحديث والتاريخ المعاصر كله.