كانت العوامل التاريخية الثقافية جمة عندما أخذت مصر- مستدار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين - تلتمس سبيلها إلي العصر الحديث. ولم تصغ بيان النهوض المصري الحديث جهة ما رسمية أو شعبية، إنما تجلي هذا البيان في صياغات الجماعة المصرية الطليعية، وتبدت هذه الصياغات في إبداعات الكتاب والفنانين والشعراء وجهود المفكرين والعلماء وبرامج الساسة والقادة والحكماء، ودارت تلك الصياغات في الأمرين اللذين نهض بهما العصر الحديث: الحضارة الصناعية الحديثة، والعقلانية النقدية التقويمية. وفي فجر القرن العشرين كان طه حسين بين طوائف من الطلائع العاملة في صياغات بيان النهوض المصري، بيد أن مفردات من هذه الصياغة وجدت في جهد طه حسين عبارتها الفريدة المؤدية: - وجد طه حسين، ورواد آخرون، أن تكوين مصر قد كان من أبنية عرقية وحضارية وثقافية متعددة، وأن تواصلها بصورة قوية في التاريخ البشري قد كان ثمرة تفاعل تلك الأعراق والحضارات والثقافات، وأن تعثرها كان تعثر هذا التفاعل وأن تقدمها كان في صحة هذا التفاعل. ووجد، ورواد آخرون، أن دخول مصر إلي العصر الحديث، إنما يتم بتصحيح التفاعل وصولا إلي وحدة الوطن، وبإقامة بنية حديثة محورها التعليم ونهجها العقلانية. وعندما قضي طه حسين 1973 لم تكن الجماعة المصرية، من حاكمين ومحكومين جميعا، قد أفلحت في توحيد الوطن بالتفاعل الصحيح والصحي بين عناصره المكونة، الفرعونية والقبطية والعربية الإسلامية، ولم تكن قد أفلحت في تحديث البنية الثقافية المصرية علي محور العقلانية النقدية التقويمية. واتسع المدي- في ظروف عالمية جديدة- ونضجت غايات النهوض تطلب: - المصالحة الوطنية العظمي، بحيث ينهض تفاعل المكونات المصرية علي أسس شعبية ديمقراطية ، يثمر برنامج تقدم مستقبلي. - وبنية ثقافية عصرية، ليس محورها التعليم في معاهدة ومدارسه فحسب، بل يكون محورها العريض (العلم) المعاصر، الذي ينتظم التعليم المتقدم، ويستمر طول الحياة، في ضوء ثورة العلم وتطبيقاته وتوصيل المعارف وتدفقها. - المصالحة الإنسانية التاريخية، بحيث تنهض مصر التي تتقدم بتوحيد عناصرها، لتعمل مع غيرها من الأمم علي توحيد العالم، بمصالحة مدارها المحاورة ورسالتها التسامح والغفران بين كل الاعراق والقوميات والديانات والثقافات والحضارات. -أ- وجود مصر في التاريخ البشري وجود ثقافي، وقانون هذا الوجود الثقافي منذ البدء إلي يوم الناس هذا- في حالات الصعود والخمود والنهوض- هو التفاعل. وبيان ذلك أن المرحلة الأولي من الحضارة المصرية- المرحلة الفرعونية- قد عاصرت مراحل أولي من حضارات قديمة أخري، خاصة في أحواض الأنهار الكبري بأودية الصين والرافدين، بيد أن تلك المرحلة المبكرة من الحضارة المصرية قد سبقت ما عاصرها من حضارات إلي تشييد بنية ثقافية كان عطاؤها الثقافي في تاريخ البشر هو الأعلي والأبقي، في الدين والعلم والإبداع والفكر. وكانت هذه البنية هي الأعلي والأبقي في التاريخ لأنها كانت ثمرة صحة التفاعل بين عناصر جمة: تكونت الجماعة المصرية- اجتماعيا وتاريخيا- من عناصر محلية وأخري وفدت من إفريقيا ومواقع كثيرة من الصحراء ومن هجرات نزحت إلي مصر من غربي آسيا بعد تصحر طويل عانته مواطنها، ولكي يمكن لكل هذه المجموعات البشرية- محلية ووافدة- أن تحيا علي مصدر واحد للحياة : النيل، كان عليها أن تتعايش وأن تخلق لهذا التعايش صيغة توحيدية، واستطاعت- بالفعل- أن تقيم أول دولة مركزية وأقوي وحدة اجتماعية تاريخية في التاريخ القديم. وكانت هذه المجموعات البشرية تحمل عطاءات وقدرات ثقافية أولية مختلفة، فتم تفاعلها داخل مصر، وأثمر هذا التفاعل بنية إبداع ثقافي مصري، وهو - كما ذكرنا- الأعلي والأبقي في كل العصور القديمة، والعلماء والدارسون يجمعون علي أن البناء المصري، تاريخيا واجتماعيا وثقافيا، إنما كان ثمرة الوحدة التي نهضت علي التفاعل بين مكونات وعناصر اجتماعية وثقافية جمة، ويجمع هؤلاء العلماء الدارسون علي أن قانون التفاعل هذا يفسر كل تاريخ مصر في جميع حالات. التقدم والتوقف والتراجع والنهوض من جديد، ذلك أن صحة التفاعل بين عناصر الوحدة ومكوناتها كان يفضي- أبدا- إلي الازدهار، وأن مرض هذا التفاعل كان يفضي أبدا- إلي الانكسار. صحة التفاعل في توازن العلاقات وسلامتها بين العناصر المكونة للوحدة، ومرضه في ظهور عنصر علي العناصر الأخري واستبداده بها وطغيانه عليها. ولقد ابدعت الثقافة المصرية أقدم الصياغات في الدين والعلم والإبداع الفني والنظر الفلسفي. تأمل المصري الكون وطمح إلي فهم ما وراء الواقع وإلي الوقوع علي ماهيات الخلق والخالق والحياة والموت، فكانت له تلك الرؤي الروحية والدينية المبكرة التي وجدت تجليها- فيما بعد- في اليهودية والمسيحية والإسلام وفي الأنساق الفلسفية الشرقية واليونانية. وسدد المصري النظر إلي الواقع ففحص بطن الأرض وظهرها ليوجه الأمواه وأنواع التربية وليدرك خصائص العناصر والمواد. فكان له ذاك الإبداع العلمي المشهود في تاريخ العلم والرياضيات، وكانت لتلك التجارب والخبرات التي بقيت مشهودة في الأبنية والهياكل والمعابد والاثار، وشغل المصري بالعلاقات بين الناس فسعي سعيه لتحقيق التوازن الاجتماعي وإقامة الميزان، فكان له ذلك التراث الجليل من الحكمة وأصول العدل وروح القانون. إن سبق الحضارة المصرية القديمة، لا يعني أن للمصريين صفات ثابتة أو طبيعة سرمدية تميزهم من غيرهم، إنما يعني أن عوامل تاريخية يمكن درسها- وقد درست بدرجة ما- قد أثمرت ذلك السبق. ان استمرار مصر في التاريخ يفسره التفاعل بين العناصر المكونة لها، بشريا وثقافيا، وإن قوة مصر أو ضعفها يفسران بصحة هذا التفاعل واستقاماته أو بمرضه واختلاله، وقد شهدت مصر في تاريخها الطويل خلال عشرة آلاف سنة حقبا من القوة والوهن، بيد أنها لم تشهد من الوهن مثل ما عانته في القرون المتأخرة، حتي اطلت علي تخوم العصر الحديث. ومعني المجتمع الحديث التعدد: نشوء فئات وطبقات وقوي اجتماعية جديدة، تعبر عن نفسها في مدارس واتجاهات وتيارات سياسية وفكرية، وتقيم مؤسسات تجعلها مسئولة عن حماية هذا التعدد ورعايته. كان التطور من مجتمع كلاسيكي قديم إلي مجتمع عصري حديث معاناة تتعدد اسبابها، انما في الصدارة منها الحكم المطلق، ذلك لأن جوهر المطلق احتكار ادارة شئون المجتمع -بالمعني الشامل للإدارة- وحرمان القوي الأخري من المشاركة في هذه الادارة، وثمرة ذلك تعطيل المجتمع من الانتقال إلي العصر الحديث، الحكم المطلق ضد التعددية، فهو- إذا- ضد التحديث الحقيقي، وثقافة المجتمع. وأول ما يصنعه الحكم المطلق، يريد سندا لوجهته وغاياته. تجري قراءة تاريخ الأمة بنهج انتقائي يفتش في موروثاتها عن مبررات لوضعها الراهن، وتدار الحياة الثقافية الجارية بنهج (واحدي) يثبت ما هو قائم ويفسر وجهاته، ونتيجة الأمرين جميعا تعطيل طاقة الأمة الإبداعية وسد طريقها إلي المستقبل. من هنا كان السعي - في المجتمعات المتنقلة إلي العصر الحديث- إلي الحرية، إن الحرية غاية سعي البشر في كل زمان ومكان بيد أنها شرط تاريخي أول لكل تحديث. لذلك كانت العبارة عنها أول عنصر من عناصر الثقافة الجديدة في هذه المجتمعات. وكلمة (النهضة) تدولت للعبارة عن سعي مصر لإقامة مجتمعها الحديث، والنهضة مفهوم شامل ينتظم محاور الاستقلال الوطني والوحدة وإقامة المجتمع الحديث وبناء الثقافة الوطنية العصرية. ويمكن أن نصطنع مصطلحا علميا دقيقا معبرا عن مرحلة النهوض هذه في التاريخ العربي وهو مصطلح (الثورة الوطنية الديمقراطية) ودقة هذا المصطلح هنا أنه يجعل (الديمقراطية) سبيلا إلي تحقيق الغايات الاستراتيجية للتكوين الوطني في هذا الطور من تاريخه، وما دامت الديمقراطية هي مشاركة الطبقات المختلفة وقواه السياسية في ادارة شئون بلدها سياسيا، فإن هذا يعني أن قوة اجتماعية سياسية واحدة لا تستطيع وحدها أن تحقق تلك الغايات التي ذكرناها، ويتصل بهذا أن الاستراتيجية الثقافية لهذه الثورة انما يحددها بدقة مفهوم (الثقافة الوطنية الديمقراطية) فالديمقراطية في هذا الصدد معناها- إلي جانب الاتساع لكل الاجتهادات والآراء والتيارات والاتجاهات والمدارس في الفكر والعلم والسياسة والإبداع- الاتساع لموروثات كل عناصر الأمة، ومشاركة كل الطبقات في البناء الثقافي. ودفع التفاعل بين تلك الموروثات والمشاركات، وإقامة المحاور بين كل اطراف الحياة الثقافية، وهكذا تنتهي إلي أن تآلف ما هو تاريخي وما هو ثقافي يحدد غايات النهوض المصري في التاريخ الحديث بأربع : تحرير الوطني، وتحديث المجتمع، وتعقيل الفكر، وتوحيد الأمة. الاستاذ بقسم اللغة العربية كلية الآداب- جامعة القاهرة.