احتضار وردة بيت العَدَلْ مثل بيتهم. ما الذي يمنعها أن تدخله؟! شلل قدميها مثلا قضاء وقدر ولا دخل لأحد فيه ، نوم أبيها علي كنبة اسطنبولي تحت سلم العمارة عادي جدا ؛ فهذه مهنته والأفضل له من مد يده للناس ، أمها التي تتعب وتكد من أجلها بعد وفاة الرجل حقها أن تفرح بها ، ولما لا وهي مثل كل البنات تمتلك. عقلا وقلبا تستطيع بهما أن تختار وتشعر!! ولن يكون الشباك المطل علي الشارع حائلا بينها وبين حلمها!! وإن كان هل تُحْرَمْ من طاقة النور الوحيدة التي تتنفس منها؟ حقك أن تفرح وأمك عندها ألف حق أيضا ، فليس من العَدِل وأنت في مقتبل العمر أن تربط نفسك بها ، وتكون أول بختك ، ربما تعاطفت معها ، ومن الممكن أن يكون قلبها قد تعلق بك ؛ عندما نهرت الولد الذي آذاها بكلامه البذيء . رأت ملامح وجهك وأنت في عنفوان غضبك وهي تبكي تارة وتقسم تارة أخري بأنها لا تعرف الولد ولا تعرف غيره وأن كلامه كله محض افتراء من منا يضمن نفسه والأيام. حقك علي رأسي أعرف أنكِ مثل كل البنات تتمنين وردة ، أو كلمة حلوة ، أو حتي لمسة بحساب ، عينيك الساحرتين أحفظهما ، ورائحتك وشعرك المفرود ووجهك البشوش لا أتمني أكثر من ذلك في شريكة حياتي ، ولكنها أمي التي ترفض. عام بالتمام والكمال قد انصرم. ولم أزل أتذكر كل شيء دار بيننا أمام شباكها الذي أحفظه جيدا ، بلونه المميز وستارته الداكنة أول شيء بعد عودتي سوف أزوره بالتأكيد سوف يكون هو، لقد أصرت علي أن تلازمني في زيارتي كما أصرت أمي علي ذلك استسلمت لطلبهن ووجهي تعلوه ابتسامة باهتة. مررنا ، ويدها تحتضن يدي وعيناي ثابتتان بطول البصر علي ذلك الشباك. قالت لي بصوت مبحوح وهي تشير بإصبعها ناحيته : شباكها؟! لم ألتفت لكلامها كل شيء قد تغير في المكان حتي لون الشباك نفسه وقد أصبح كالحا. أول مرة أراه مغلقا. بدا المكان كئيبا وجيبي مازال يحتضن وردتها التي أتحسسها بأناملي. وقتها قررت الرحيل مرة أخري. خارج الإطار شرب أخر رشفة كانت في كوب الشاي البارد أمامه، معها انتبه إلي سيجارته التي أوشكت علي الانتهاء، أخذ يتابع بشغف محصلة الأسماء التي ظهرت، أمامه علي حاسوبه القديم، ظل يقلب بعينيه في أنحاء غرفته، امتد بصره حتي اصطدم بتلك الصورة، التي كانت تجمعه بهم عندما كان طفلا تحسس وجهه، غاصت أنامله المرتعشة، في تجاعيده !! وقتها أيقن أن السنوات التي مرت لم تكن قليلة ، والفترة التي قضاها في محبسه أيضا لم تكن كذلك ، كل الأسماء التي وجدها لا يعرف عنها شيئا ، ولن يحاول حتي أن يعرف ما هي جريمتهم، رغم أنهم حاولوا أن يكلموه هناك ، كان متأكدا من أنه سوف يجد من يعرفه ، ويتذكره عندما كان شاباً ، لم يكن يتوقع أنه عندما يقرأ ويفهم ، ويشعر أنه إنسان وله حقوق ، تكون تلك هي جريمته، ولكنها كانت!! راح ببصره إلي الصورة الوحيدة ، في غرفته وتذكر أمه حينما صرخت وهم يجرونه ، وصوتهم الخشن ينهرها، وتلك اليد التي أحكمت قبضتها علي كتفه هي نفس اليد التي دفعت به إلي غرفة مظلمة، لا يظهر فيها سوي بصيصا من ضوء خافت يسير في خط مستقيم. تذكر كلماتها له حينما كان يتكلم معها عن الدولة والحقوق ، وكانت تصرخ فيه وتبشره بأنه لن يسكت، ولن يرتاح حتي يمسكوه ويسجنوه، كان يظن أنه المثقف الفاهم ، هل كانت محقه؟! هل كانت تفهم أكثر منه؟! وهي التي لم تكن تعرف القراءة ، كانت تقول له افهم لنفسك ، ولا تبح بفهمك للأحد، وقتها لم ينتبه لنظراتها التي كانت يملأها القلق، عليه وعلي مستقبله ، كانت تقول أنت سندي والمعين ، وكل ما لي في هذه الدنيا !! أشعل سيجارته الأخيرة في علبته، أخذ منها نفساً طويلاً، ثم نثره في خط مستقيم، امتد أمامه ثم راح يتلاشي، حتي ابتعد عنه مكوناً أشكالاً هلامية، دمعت عيناه حزناً عليها فقد أخبروه بوفاتها ، بخطوات مرتجفة ودموعه قد فاضت علي وجنتيه ، رفع يده المرتعشة وتحسس ملامحها ، وهو يمسح وجهه بذرات التراب التي جمعتها أنامله من الصورة خارج الإطار.