ركبت سيارتها، لف دخانها الطريق، و عند الركن البعيد كان هو هناك يتشمم عطر شالها الذي سقط منها، ضمه إلي صدره الذي اتقدت فيه جذوة نار كانت قد خمدت، نفحه الهواء البارد، سري البرد في جسمه، ارتعش، مشي بخطوات بطيئة، من بعيد سكب القمر شعاعاً رمادياً علي وجه و قلبه الذي تركه علي قارعة الطريق في زوايا الأثير هز الغروب كتفيه و رحل، كان الغسق الحزين يقعقع و السماء تلمع كأنها عقود ماسية تتموج كمرايا البلور، أتي النسيم العذب من الدرب البعيد يلفح خليطا من أصوات قديمة تتناغم مع خرير النوافير التي تسمع من مكان قريب، عادت إلي البيت و هي تشع فرحا، جاءها النوم اللذيذ، نهضت في منتصف الليل من فراشها أوقدت المصباح و قرأت رسالته، بدت لها الرسالة كقصيدة شعر يسكن فيها الرجل الذي أحبته و وهبته قلبها وغنت عيناها بالحب، فتحت النافذة و ساءلت الريح عن ذلك الفارس الذي غني في ليل القمر و استحم و شرب نبيذ قلبها و ترك علي شفاها اثر قبلات طازجة، من قمة جبل اطل و طوق عنقها بقلادة مرصعة بجواهر أنفاسه فأوقظ روحها، تذكرت تلك الليلة، عندما أتت لمنزله كان البدر ينشر ضوءه، عندما دخلت الصالة لم يكن هناك، لكنها عرفت أين تجده، دخلت إلي المخدع علي أنامل أصابعها، تمددت بجواره عارية، تحسس نهديها النائمين فنفرا و تكورا كأنهما رمانتان، يا لها من رجفة سرت في أوصالها، كان فخذاها يرتجفان في يده كيمامة صغيرة هجمها برد الشتاء، كانت أصابعه تجري في جسمها كأنها تجري فوق أوتار كمان، بين زبد الملاءات كان جسمهما يتلون، صبا مجونهما البري علي الفراش، عندما انتهيا نهضت منتفضة و قد مس روحها مسحة مذهلة من جمال، مغتسلا في حبه البريء كان يصغي في أعجاب إليها، تائها في وحدة روحه و رؤاه الصامتة، رفعت عينيها المتقدتين نحو السماء الملبدة بالغيوم، شردت للحظات ثم نظرت إليه كانت تفيض رقة و رهافة، كطير النورس الذي يعبر البحر و هو يعرف أنه يتأرجح بين الحياة و الموت، أدرك سحر هاتين العينين التي تتألق كعين غزالة في ليل السماء و ترمي بظلها الرقيق علي تلافيف قلبه، كان صوتها العذب يغسل ملح دمه و يحفر في أعماقه دثار الحب فلا سلطان عليه إلا سلطان قلبها، سرحت ببصرها و تذكرت الرسالة التي كتبتها له بعد خصام دام أكثر من شهر " الآن يجب أن تعرف أن حبك هو وحي روحي، و ها أنا اكشف لك قلبي و حشاي و لحمي، تأخذني إليك أشرعة الحنين، و أهيم علي وجهي في خبب الليالي، أكابد الشوك و ينزف جرحي، يجرحني بعادك و هجرانك، أصبو إليك في ليلي و نهاري، أطير إليك علي جناح جسدي و حلمي، أهبك قلبي الحر، لا شيء يوجعني إلا غيابك، لا تتركني ظمآنة ، لا تدعني اذبل، كأس الفراق مر، فإني احبك، شهوتي كفاكهة الصباح، دع جسدي خباءك و نهداي نجمتي أثيرك، و وردة بطني شعلة مصباحك، و غيمة روحي موقدك، دع قلبي يلامس قلبك، دع الحب يفتح الأبواب المغلقة، يا حبيبي إن ليل العاشقين طويل و طريقه محفوف بالألم، إني أحبك ..... أحبك " بعد ما انتهت من الرسالة، أمسكت بدفتر يوميتها و أخذت تقرأ منه : " في ذلك المساء ناديته ... اقتفيت خطاه لكنه لم يلتفت، صرخت هذا دمي .. هذا قلبي ... هذا جرحي فخذني إليك، لكنه لم يلتفت إلي " قلبت الصفحات و تمعنت في بعض الكلمات و قرأت بصوت خافت " أتأرجح بين الحضور و بين الغياب يترجل الحلم يتلظي قلبي فوق غيمة عشقك ألملم ريشي المكسور أحط علي شرفتك اسكن صدرك أتسربل بوشاح أنفاسك كنت ظلي و ملح أيامي لا تقسو علي قلب تدحرج في بلاط الألم لا تدع الوردة تذبل لا تجعل الوهم يحطم بلور مرايانا فقلبي الصغير .... الصغير ما عاد يحتمل بكاء الريح و لا لهيب ألم الروح و إني احبك . " تنهدت و تمتمت كلمات الحب ملونة و مغلفة بدموع السهاد كأنها قادمة من شاطئ مجهول مسه القمر، لكن الحب ككل شيء يتوهج ثم يخبو، أوليس القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، أليس الحب كالطيور المهاجرة تحط علي الشرفات كي تستريح ثم ترحل بعد أن تترك بقايا من زغب الريش علي زجاج النافذة إلي أن يأتي المطر فيغسله و يذوب، و لا يبقي لتلك الطيور أو الريش إلا أثر خفيف في الذاكرة . انتبهت لكلماتها السابقة التي حملت حزناً و نذيراً لشيء ما قد يحدث، حاولت أن تنام، فلم تستطع، فلهذا الليل رائحة ثقيلة، تناهي إلي أذنيها لحن ثقيل قادم من مسافات بعيدة جثم علي صدرها و قلبها، في تلك الليلة كانت أطياف و صور تنساب أمام عينيها مثل حلم يقظة، كانت تشيح بوجهها أو تضع يديها عليهما كأنها تريد أن تخفي ما تري، عليها أن تنتظر ثلاثة أيام إلي أن يرجع من السفر لقد قال لها ذلك بنفسه، قبلها و ودعها و اتفقا أن يتقابلا بعد رجوعه ؟ ماذا لو لم يكن مسافراً ؟ لامت نفسها علي هذا التفكير، ارتدت ملابسها علي عجالة و لم تنتبه أنها ارتدت جوربين لونهما مختلف، أدارت محرك سيارتها، انتظرت دقائق حتي تزوده بالدفء اللازم للانطلاق، عندما وصلت ركنت السيارة في الجهة المقابلة للمنزل، عبرت الشارع، دخلت البناية صعدت الطابق الثاني، كان هناك بصيص نور أتي من تحت الباب الموصد، وضعت المفتاح في الباب، دخلت، كانت الردهة خالية، ألقت نظرة علي باب غرفته، سمعت أصواتاً هامسة، و صريراً آتي من السرير، دق قلبها بسرعة، أنها تعرف ماذا يعني ذلك، توجهت نحو الغرفة أصابتها الدهشة و الذهول ، لقد كان مع امرأة أخري في نفس السرير الذي شهد ليالي عشقهما و مجونهما، لم تصدق عينيها، انتبه لها، غطت المرأة نهديها بيديها و أخذت بحركة عصبية خائفة تبحث عن أي شيء تغطي به نفسها، لم يكن بوسع أي منهما للحظة أن ينظر في وجه الآخر، استدارت بخطوات ثقيلة كأنها منومة تنويما مغناطيسيا، نزلت الدرج و تركت باب الشقة مفتوحا، كان اللحن الذي أتاها من المسافات البعيدة يتمازج مع قصف و هدير هائل في السماء، ارتعدت و هامت علي وجهها في الليل البهيم، حبست نفسها في المنزل، لم تلقي بالا لرنين الهاتف المتواصل، في اليوم السابع جاءها يطرق بابها، بدا وجهه شاحباً و جسمه أصابه النحول، كان يحمل بيديه زجاجة نبيذ كما في الأيام السابقة، لم تستطع أن ترحب به أو تقفل في وجهه الباب، شعرت بنوع من الخدر المرهق، لأول مرة تشعر أن منزلها تسوده العتمة، فضوء غرفتها الضعيف يتحرك و يتراقص علي الجدران و الأرضية، مشت إلي غرفتها، مشي وراءها، جلست علي الكنبة المواجهة لسريرها، جلس بجانبها، ساد الصمت المطبق، نهض متجها إلي المطبخ أحضر كأسين و صب فيهما النبيذ، شربا حتي قاربا علي السكر . اعتدل في جلسته و وضع يديه علي طرفي كتفيها، جذبها إليه و طوقها بذراعيه، فاح من شعرها رائحة العطر التي ملأت أنفاسه، مالت إليه و أراحت رأسها علي كتفيه، تحسس وجهها المبلل بأنامله، فجأة انتفضت و أزاحت يديه، نظرت إليه في وجهه مباشرة مستهدفة عينيه، في تلك اللحظة تلعثم و ارتبك و أدرك انه لم يخطط لما يقوله و قبل أن يتمكن من ترتيب كلماته صاحت به : لقد سرقت فرحتي التي شعرت بها لأول مرة معك فقد كان الاحتفال و الفرح ملمحا مفتقدا علي مدي عمري، لماذا فعلت بي ذلك ؟ تكلم ؟ انطق ؟ ..... أنخرطت في نشيج مكتوم، زاده ذلك ارتباكا فلم يكن يعرف أي كلمات ينطق بها، مال بيده و أمسك الزجاجة و رشف آخر قطرة من نبيذها و قال لها : أنا آسف قالت : ما أسهل أسف الاعتذار الذي لا يشفي جرحاً و لا يخفف ألماً . قال : سأحاول أن ..... هزت رأسها قالت: إن طريقنا مختلف . شعرت بوجهها و جسمها تضطرم فيهما النار و أن رقبتها تتصبب عرقا تحت ياقة قميصها المخملي الأسود، تناول يدها و حكها بإبهامه و طبع قبلة عليها، سحبت يدها ببطء، أسندت رأسها علي الحائط، لقد لعبت الخمر برأسها و أفقدتها صوابها فقد كانت تشرب علي معدة خاوية، عندما أدرك أنها بدأت تغيب عن الوعي وضع ذراع تحت وسطها و ذراع أخري تحت فخذيها الراجفتين، حملها، هدأت بين يديه، سار بها إلي السرير، وضعها في الفراش، نزع عنها حذاءها و فك مشبك صدريتها و غطاها، دخلت في نعاس قلق و استيقظت قرب الفجر و هي لا تزال متعبة و ممتلئة بالاكتئاب و اليأس . لقد توهمت أنها إذا دفنت جذع شجرة ميت فستحيا من جديد، لقد غرزت الجذور الخاطئة في المكان الخطأ، الآن عندما تغمض عينيها فإنها لا تري إلا طرقات خالية من الحب . جلست في شرفة البيت و أمسكت قلمها و كتبت : في ذلك الصباح أشعر بأني ارتكبت أعظم حماقة، فالارتباط برجل و الوثوق به ليس أكثر من شراء دمية لأنها تشبه امرأة ما، أن الحب مقايضة، إن الأمر يتطلب أن يكون لي جناحان و أطير لكي أري العالم ينبسط تحتي و أنا أراقبه، أن كل الأشياء اللامعة البراقة خادعة فسرعان ما تنطفئ، يجيء الليل أحيانا بدون نجوم، و الصبح بدون نور، و الشك و الحب لا يجتمعان، لا توجد امرأة تستطيع أن تملك قلب رجل، النسيان نعمة و التذكر نقمة، الحب قيد، طريق زلق يعصف بالأحلام .....، فجأة تنبهت، خرجت من دوامة أفكارها و رددت كلمات هامسة ، " كيف أزم اليوم ما كنت أشتهيه بالأمس، لا بد أن أمزق صور الماضي المعلقة علي الجدار "، خلعت ملابسها وقفت عارية في وسط الغرفة، نظرت في المرأة رأت نفسها كتمثال المرمر الطري، تنهدت " ما أنت إلا مهرة جامحة "، عينان لوزيتان متألقة يسكنها الوهج، قد رشيق ممشوق، فم ممتلئ، نهدان ناهضان، ساقان مكتنزتان، بشرة نحاسية، نضرة شهية معجونة بعطر أزهار برية، شعر اسود لامع كالألماس، ارتسمت علي وجهها علامات الوهج الصاخب، رمت من علي كاهلها هموم الحياة و هواجسها و تعاسة أيام مضت، فاضت حيوية و شبابا، مشت إلي الحمام و هي تتبختر، أخذت تدندن أغنية بفرح، غرق جسمها تحت سيل الماء الدافئ الذي أنعش روحها، وضعت عليها البشكير و اتجهت إلي الغرفة بكبرياء، صففت شعرها، فتحت دولاب ملابسها، انتقت فستان من الستان الأسود عاري الصدر، مطرزة حوافه بحبات من اللؤلؤ و الأحجار الداكنة الملونة، تحسست بيديها نعومة الفستان علي جسمها، سحبت من خزانة الملابس حذاء أسود ذا كعب عال، ارتدته، تزينت، عندما انتهت بدت كأميرة متأهبة لحضور حفلة تنثر فيها ورود عشقها القادم، وضعت شالاً علي كتفيها العاريين، أخذت حقيبة صغيرة أنيقة دستها في يدها اليسري، ارتدت معطفا صوفيا طويلا، نظرت في اتجاه النافذة كان قمر الشتاء يلهب السماء فتبرق نجومها و تصبح أتوناً للسحب السوداء، فتحت الباب، نزلت الدرج بخطي حالمة كأنها تمتطي حصاناً يمد ركضه بخطي طويلة مندفعا يشق الطريق، بدأت قطرات المطر البارد تتساقط رذاذا، بدا الشارع مبتهجا مشتعلا بأنواره، ركبت سيارتها، لف دخانها الطريق، و عند الركن البعيد كان هو هناك يتشمم عطر شالها الذي سقط منها، ضمه إلي صدره الذي اتقدت فيه جذوة نار كانت قد خمدت، نفحه الهواء البارد، سري البرد في جسمه، ارتعش، مشي بخطوات بطيئة، من بعيد سكب القمر شعاعاً رمادياً علي وجه و قلبه الذي تركه علي قارعة الطريق و طارت به الريح، و في الأفق أنطلق لحن حزين غلف عيون السماء .